واقعية محمود جنداري السحرية

واقعية محمود جنداري السحرية

د. نادية هناوي

الواقعية السحرية صورة من صور الواقعية تقوم على استيحاء الأحلام والأوهام والغرائب والعجائب واقعًا قصصيًا،فيه يغوص القاص فكريًا في الوجود وتفاصيله جامعًا البساطة والألفة بالالتباس والإيهام، ليلاقي بين عمليتين ذهنيتين هما التخييل والتفكير موغلًا في الأولى ومرتفعًا بالثانية إلى مرتبة الاحتدام الذي ستتجلى وتيرته لا محالة في اصطدام المألوف/ المحتمل بالغريب /المدهش.

وهذا التلاقي بين التخييل والتفكير هو أهم ميزات الواقعية السحرية التي فيها يحاول الشكل التخييلي فك اشتباك المحتوى الموضوعي. وللواقعية السحرية وظائف كثيرة، فأما آخرها فهو الإمتاع وأما أولها فهو الإيحاء تعبيرًا عن فكرة فلسفية أو مجموعة أفكار تراود الكاتب لتجتمع في ذهنه قصةً يصور فيها عالمنا وما يعج به من غرائب ومفارقات، مرتفعًا بما هو مألوف واعتيادي إلى مرتبة العجيب والغريب، جاعلًا السحري مألوفًا إلى درجة التصديق. ومن وظائفها أيضا جعل القارئ مشاركًا بالفكر حتى لا مجال لأن ينفلت من هذه المشاركة ما دام خائضًا في قراءة القصة، سائحًا في أجوائها الساحرة والغرائبية، مواجهًا الألغاز التي تستفزه بعلائقها وتدعوه أن يفهمها مستوجبة منه التأويل والتفسير. الأمر الذي يحْمله على تطويع قابلياته الذهنية وتسخير مرجعياته القرائية سعيًا لفك الشفرات ولملمة المتفرق والمتقاطع من التراكيب والتعابير والأوصاف.

ويبدو أن التلاقي بين التخييل والفكر هو الذي يجعل الانقلاب على التاريخ - الذي هو ثيمة مهمة في الواقعية السحرية- انقلابًا ما بعد حداثي، فالتاريخ ليس هو الماضي حسب بل هو الماضي الممتد في الواقع الحاضر والمتجاوز إلى المستقبل.

وعراقيًا عرفت الواقعية السحرية بشكل مقصود في ثمانينيات القرن العشرين تأثرًا بقصص ماركيز وبورخس وما فيها من الواقعية السحرية التي أثرت في كتّاب أمريكا اللاتينية مثل ماركيز وفوينتس وكورتثار واوسترياس وكاربنتيه وخوان رولفو، عائدين إلى استلهام الحكايات القديمة وما يشيع فيها من أجواء السحر مع استثمار السريالية إيغالًا في الاحلام والخيال واللامعقول وإفادة أيضا من خصائصها في عالم الرسم والتشكيل لاسيما التوظيف الغرائبي الذي يحوّل العالم إلى رموز وإيقونات تخرق الحدود الواقعية للأحجام والأشكال والأشياء. ولعل بعض القصاصين العراقيين والعرب كانوا قد قرأوا أعمال بورخس قبل أن تترجم إلى اللغة العربية، لكن ما بالنا بقاص اهتدى إلى الواقعية السحرية بالفطرة ومارس الكتابة فيها في مفتتح سبعينيات القرن الماضي بوعي سردي وهو في مقتبل تجربته القصصية لتكون باكورة تجريبية ستهديه لاحقًا إلى أن يضع قدمه على مفترق طريق تجريبي آخر أرشده إليه وعيه وهدته إليه ملكته، بانيًا معماره السردي الخاص. فأما القاص فهو محمود جنداري، وأما الخط الخاص الذي سترشده الواقعية السحرية إليه فهو الميتاتاريخية.

وبالطبع لا ينفصل التجريب الذي انتهجه جنداري في عمومه عن التجريب الذي شاع عند قصاصي الخمسينيات الذين سبقوه وقصاصي الستينيات الذي جايلوه، مجربين مختلف أشكال الواقعية التي عرفها السرد الغربي؛ بيد أنّ واقعية جنداري كانت جديدة على سردنا العربي مثلما كانت الواقعية السحرية جديدة على السرد العالمي في الستينيات وظهرت في أعمال كالفينو وغنتر غراس وجون فاولز وسلمان رشدي الذي نال اهتمام نقاد ما بعد الحداثة الذين ما أثارتهم الواقعية السحرية إلا لسمتها التضادية الميتاتاريخية وهي تجمع سرديًا المألوف بالغرائبي. أما تسمية (الواقعية السحرية) فكانت معروفة في الخمسينيات، ويعد الناقد التشكيلي الألماني فرانك روه أول من أطلقها كمصطلح على مجموعة من الأعمال التشكيلية التي تجاوزت فنيتها المدرسة التعبيرية. وما كان لجنداري ان ينتهج الواقعية السحرية اعتباطًا، وإنما هي رغبته في مماحكة الواقعية والتخالف معها بالسحرية. الأمر الذي أوقعه على هذا الشكل المبتكر من الواقعية التي فيها النهاية ليست مأساوية تماما والحبكة تنفرج لكن بلا سببية، والمشاهد الدرامية فيها ما هو واقعي غامض وما هو حلمي عجيب؛ علمًا أنّ السرد الغرائبي لم يكن معروفًا عراقيًا وربما عربيًا وقت كتابة بواكير جنداري القصصية كما عرف نوع من أدب اللامعقول في بعض الممارسات القصصية العربية.

والتخييل الذي يوظفه القاص في الواقعية السحرية هو محفز إبداعي على التفكير في الوجود وحقيقة الحياة والموت والإنسان والخير والشر، متأملًا الوجود بعين ميتافيزيقية، وبمدارك حسية واعية تضفي على هذا التأمل جوًا تخييليًا مميزًا يشي بالتماهي بين المكان والزمان والكون والإنسان. وما قد يسفر عن ذلك التماهي من تدبير إلهي يرسم للإنسان مصيره. وعلى الرغم من أنّ هذا المصير يظل مجهولًا؛ فان الإنسان سائر إليه بإرادته، عارف حقيقة ما تريده نفسه وما تبتغيه وما قد تنتهي إليه.

وليس متيسرًا التعبير عن هذه المفارقة فلسفيًا لكن من الممكن التعبير عنها سردًا وهو ما قام به محمود جنداري في قصته (الحريق) المنشورة في العدد الخامس من مجلة الاقلام في أيار/مايو عام 1977 وفيها جمع جنداري بين العنصرين الطبيعي المتحقق والعجيب الساحر، محيرًا الشخصية في واقعها وهو يرسم لها عالمًا خارقًا هو واقعي وفوق واقعي، فيه تتعايش الشخصية مع الوجود لأهميته وفي الآن نفسه تعتزله لتفاهته.

وتبدأ القصة بداية دورانية كدلالة أولى على الحيرة الفكرية التي تمر بها الشخصية المهمومة بفكرة واحدة محورها الحجرة الطينية المظلمة والموحشة والعفنة التي ما فارقت بال الشخصية حتى اتخذ التفكير في تغييرها شكل ديمومة تنتهي لتبدأ وتبدأ لتنتهي، معيدة الشخصية إلى المربع نفسه. وتزداد الحيرة ويقوى الشعور بالتيهان حين يعمد السارد إلى معاكسة الشخصية بطريقة منطقية مصعدًا تأزمها، واضعًا عراقيل واقعية في طريق إثبات فكرتها حول شعاع الضوء وأن باستطاعة النور أن يطرد الظلام عبر انعكاسه على المرايا أضواءً وظلالًا. لتكون نهاية القصة ساحرة ومأساوية فقد حلقت الشخصية فنتازيًا مع الدخان الذي ولّده اشتعال عود القصب اليابس و طارت مع غمامات الدخان الأبيض المتصاعد. والكائنات الخرافية تنبعث مع لهيب القصب ( لم يكن ليفطن إلى شيء غير هذا الإحساس المريب بأنه يبصر وجها بريئًا يطل من بين هذه الوجوه المشوهة وجهًا نقيًا لم يكن واضحًا لكنه كان يبتسم ) في إشارة رمزية إلى أن لا معرفة بلا تضحية، وأن الصبي ما ضحى بنفسه وكرس جهده إلا لأنه عرف أن لا خسارة مع المعرفة ولا رهبة في سبيل إدراكها، فالمعرفة هي الجمال. وبهذه الجدة في توظيف الواقعية السحرية يكون محمود جنداري هو السارد المبتكر والفيلسوف الحالم الذي وجد في السحر أسلوبًا به يكشف جدلية الزمان المكان وحقيقة الواقع وجودًا وتاريخًا باحثًا عن يوتوبيا فيها يجد لتساؤلاته جوابًا ولشكوكه يقينًا. وإذا كانت المرايا حاضرة في هذه القصة؛ فإنها ليست اللعبة الوحيدة التي سيداوم القاص عليها بل سيبتكر غيرها بعكس بورخس الذي ظلت المرايا وسيلته السحرية في تجسيد الواقع في أغلب قصصه القصيرة، مجتذبًا قارئه ببساطة ليسوح معه في عالم الكلمات وفلك الجغرافيات، مستعيدًا الغابر من الازمان.

والاكتواء والافتتان هما القانون الطبيعي الذي يعطي للواقعية السحرية سيرورة أساسها الرغبة والأمل، ومنطلقها الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية في إزالة التشويش عن الواقع. ولا ضير وقتذاك أن تكون هذه الإزالة بإرادة إنسانية أو تكون بتدبير إلهي. ولم يكن اهتداء القاص محمود جنداري إلى الواقعية السحرية محض صدفة عابرة أو نتاج تأثر سريع وإنما هو نزوع فطري، به امتلك جنداري القابلية على التجريب شكليًا والتجديد موضوعيًا.. بيد أن هذه الواقعية أوصلته إلى مزيد من الاشتباك الواعي الذي استغرق منه جهدًا وتطلب عناء كانت نتيجته مهمة وهي أنّ السرد لا يعرف حدودًا، وأنّ الأسطورة والخرافة والتاريخ شيء واحد. فراح يجرب في الأسطورة والتاريخ بمخيلة متحررة تستنهض في الذاكرة مخزوناتها الجمعية اللاواعية، مفيدة من مهملات التاريخ وهوامشه، رغبة في انتهاك حدوده وتقويض حقائقه وكشف خفاياه ومسكوتاته، مناهضة في التاريخ جانبه القوي والفاعل غير عابئة ببطولاته وأمجاده مشككة في انتصاراته ورايات اقتداره مهتمة بالعموم البشري الضائع والمهزوم والمقموع.