محمود جنداري.. أيقونة السرد المغاير

محمود جنداري.. أيقونة السرد المغاير

صفاء ذياب

كان لمجموعة القاص محمود جنداري (الحصار) و(مصاطب الآلهة) أثر كبير على القصة القصيرة في العراق، خصوصاً بعد رحيله المفاجئ الذي لم يتوقعه الأدباء والقراء، فجنداري المولود في مدينة الشرقاط عام 1944 توفي في 14 تموز عام 1995 إثر نوبة قلبية بعد رحلة مع المرض الذي أصيب به بعد خروجه من السجن الذي دخله بتهمة التآمر على قلب نظام الحكم، فحُكِم عليه لمدة عشرين عاماً، لكنه لم يبق في السجن إلا سنتين ونصف السنة خرج بعدها ليبقى مريضاً إلى أن توفي في ظروف غامضة على فراشه في مدينة كركوك.

سجن جنداري ورحيله المفاجئ وأثر نصّه القصصي جعله من الأسماء التي لم تغب عن الذاكرة العراقية وحلقة مهمة من حلقات السرد العراقي، واليوم أردنا أن نعي هذه الأهمية في ذكرى رحيله التي مرّت قبل أيام.

الوعي الفني

يبيّن الناقد الدكتور باقر جاسم محمد أن الناقد يلاحظ في كتابات محمود جنداري القصصية أن الهموم الاجتماعية والميتافيزيقية والفنية تمتزج على نحو وثيق. ونجد هذا الأمر ماثلاً في قصصه القصيرة منذ مجموعته الأولى (أعوام الظمأ) التي صدرت في العام 1968، وحتى آخر ما كتبه من قصص وروايات التي انقطعت بموته المفاجئ.

ولم يكن غريباً أن يسجن كاتبنا بتهمة التآمر على النظام السابق لأنه مثقف عضوي يدرك مسؤولياته في التعبير عما يكتنف الصيرورة الاجتماعية من مشكلات سياسية معقّدة. لذلك فإن قارئ قصص جنداري لابد أن يتلمّس الحضور الكثيف للهموم الاجتماعية والوجودية والفنية والتقنية في هذه القصص. ويمكن القول أن لجنداري دوراً مهماً في تحقيق نقلة نوعية في السرد القصصي العراقي منذ ستينيات القرن الماضي.

فنتازيا الواقع

وبحسب رأي الناقد أسامة غانم، فإننا نلج عالم محمود جنداري السحري- الواقعي بدون توجّس، والمشحون بالخرافة والاسطورة، مكوّراً تاريخ العالم وتاريخ الإنسان منذ بدء الخليقة إلى الزمن المعاصر بين يديه ككرة من بلّور، لينقلك عبرها من عصر السلالات السومرية إلى عصر المعتزلة، ومن أوروك إلى يثرب، ومن اتونبشتم إلى السامري، ومن الحجّاج إلى الحلاّج، لكي يغذي بها خيال المتلقي ووعيه، ولكي يدين ويؤشّر الحالات الإنسانية، وبالسرد المتداخل غير الخاضع لتسلسل الزمكانية للوقائع والأحداث، مفكّكاً الاسطورة والتاريخ وملتقطاً شذرات من هنا وهناك، غير مترابطة لإعادة تركيبها وصياغتها صياغة معاصرة برؤية شمولية- واقعية، ومكوناً منظومة متماسكة العناصر ليصنع أسطورة واقعنا الحاضر، وبهذا يترك لوحة شاملة متكاملة منسجمة ومتداخلة، لكنها في الحقيقة أجزاء .

مختلفة متعددة.

اغتراب السارد

ويحدّد الدكتور ذياب فهد الطائي بعض السمات التي عرف بها سرد جنداري، فعلى مستوى اللغة، فإنه نقل لغة القصة من التقرير إلى لغة بحاجة إلى القدرة على الاستيعاب، فهي لغة غير مباشرة. وعلى مستوى التناول فإنه اهتم بالشرائح المهمشة والمقهورة، الشرائح الممنوعة من إبداء الرأي. أما على مستوى التعامل الفني فكان الخيال الموازي للواقع يمتد إلى معالجة الصراع الداخلي للشخصيات فيما يسمى بالاغتراب الداخلي. وفي “تقديري فإن ما كان له التأثير في توجّه جنداري يعود إلى المخاض النفسي والاجتماعي لهزيمة 1967 ولواقع الصراع السياسي العبثي في العراق عند صعود البعث ثانية إلى السلطة، وكانت إولى مجموعاته عام 1968 وروايته اليتيمة (الحافات) التي يتمسّك فيها باللغة الملتبسة وفي أسلوبه الغرائبي, ربّما بضرورة الالتفاف إلى الرقابة الصارمة، لكن السلطات لم تقبل ما كان يقوله.

انعطافات

وبحسب الدكتور عمار المرواتي، فإن جنداري تدارك فشله في (أعوام الظمأ) بقوّة عشقه للقص، واتساع ثقافته عندما أنجز مجموعته (الحصار) وصار بها اسما عراقيا قصصيا يشار له بالبنان، وجاءت في الثمانينيات مجموعته (حالات) ليعلن بها بداية الخروج على القص التقليدي، ولم تضف له روايته (الحافات) التي كتبها محكوماً بظروف لا يجهلها المتتبعون لمسيرته أو القريبون منه. لتأتي مصاطب الآلهة؛ وتشكل الانعطافة الحادّة في منجزه، فقد ألغى فيها الحدود الفاصلة بين الأزمنة والأمكنة ومزج الأسطورة بالحكاية الشعبية والحدث الواقعي وجمع شخصيات من عصور مختلفة في جلسة واحدة في مكان واحد هذيانات في تداعٍ حر وواعٍ معاً يبدو هذياناً! لقد فكك البناء التقليدي وألغى الحبكة، وكل هذا انعكس على طبيعة السرد. لذا فإن لجنداري أثراً كبيراً في السرد العراقي من حيث إعطاؤه الفرصة للانعتاق من ضوابط جنس القصة.. ويبقى السؤال: هل كانت (مصاطب الآلهة) قصصاً؟

علامتان سرديتان

ويرى القاص علي حسين عبيد أن هناك علامتين فارقتين في المشهد السردي العراقي، قامة سردية يمثلها محمد خضير، وأخرى تناظرها في القيمة الفنية تعود لمحمود جنداري، وفي جولة سريعة نستذكر فيها خصائص السرد لجنداري، سنكتشف أنها تشكّل هويته السردية الخاصة التي لم يستطع أي كاتب عراقي الاقتراب منها أو حتى استنساخها، يمكن ملاحظة هذه الخصائص في قصص (أعوام الظمأ)، و(حالات)، وحتى في روايته الوحيدة (الحافات)، كذلك هناك تفرّد في فنّه القصصي نجده في (مصاطب الآلهة).

أما أهمية ما أنجزه جنداري بحسب الكاتب مروان ياسين الدليمي، فيأتي من أن مشروعه في الكتابة القصصية يتحرّك في منطقة هاجسها القصدي تحديث تقنيات السرد والخروج به من بؤرة التوظيف الأيديولوجي الضّيقة. من هنا تتوفر في نصوصه نزعة التمرّد “الفني” على ما كان قائماً من أنماط أسلوبية، فقد نسج سياق تجربته في رؤية قائمة على شحن صور الواقع في بنية مركبة يتداخل الواقع مع المتخيل، المرئي واللامرئي، بذلك هي لا تستجيب لأفقية الحكي بنمطيته الواقعية، بقدر ما تنزاح فيها تقانته السردية إلى أسطرة الواقع، وهذا ما يبدو بشكل جلي في “مصاطب الالهة”، فجنداري ابتعد عن سياقيّة الخطاب السردي بأنماطه الواقعية التي كانت سائدة، وقدّم لنا عالماً مركباً بشخوصه وأحداثه. إنه كاتب مُستفِز من الناحية الجمالية، ويرغمنا استفزازه على أن نعيد قراءته بناء على ما تحفل به مشهديته من دهشة وغرابة وانغماس في تحطيم الزمن في مساره الواقعي، وإصرار على الخروج من تأطيراته بانفتاحه على سلطة التخييل، بذلك يبدو فضاؤه السردي مساحة من الخَلق يُخضِعُ فيها الحادثة، بواقعيتها وتاريخيتها، إلى حيز باذخ من الخيال