قصائد مردان العارية

قصائد مردان العارية

هادي الحسيني

سنوات طويلة مرت على رحيل الشاعر العراقي الكبير (حسين مردان)، الذي كان شاعراً مغايراً ومختلفاً عن أقرانه من الشعراء في كتابته للقصيدة وعشقه وفقره وبؤسه ومرحه عبر حياة الصعلكة التي عاشها. ومن مفارقات الشاعر أنه ولد في قضاء (طويريج) أحدى أقضية محافظة كربلاء عام 1927 وتوفيّ داخل العاصمة بغداد في 4/ 10 من عام 1972،

انقلب الرقم رأساً على عقب ليشهد ولادة وموت الشاعر حسين مردان. عاش مردان حياة التشرد داخل العاصمة بغداد حين جاءها من مدينة بعقوبة التي عاش فيها بدايات شبابه الأولى، وعندما أصدر ديوانه الأول (قصائد عارية) في عام 1949 تم إعتقاله ومحاكمته ومصادرة الديوان من قبل السلطات آنذاك جراء طروحاته الجريئة وضربه للقيم والأعراف التي كانت سائدة وتجاوزه للكثير من الخطوط الحمراء. الصحافة العراقية كتبت عن قصائد مردان العارية في ديوانه الذي سُجن من أجله بالسلب !. لكن كتاباته النثرية في الصحافة أجمع عليها الكثير من النقاد بأن حسين مردان أول من كتب النثر المركز الذي يشبه الى حد كبير قصيدة النثر التي نكتبها اليوم. ويعتبر من الرواد الأوائل في كتابة هذا النوع الشعري الذي أصبح سائداً منذ سنوات طويلة.لم أعاصر هذا الشاعر الكبير الذي أسمه حسين مردان لكن الذين عاصروه أرشفوا لحياته وشعره وظل الشاعر مردان الغائب الحاضر،. وروى القاص الكبير محمود عبد الوهاب إن لحسين مردان الكثير من الطرائف الجميلة في حياته وصادف أنه زار مدينة البصرة بعد ثورة تموز 1958 ويسنده في المشي الشاعر رشدي العامل، وعندما شاهده محمود عبد الوهاب على حالته هذه استغرب، فرد حسين مردان: (عيوني محمود أصابني داء الملوك في العهد الجمهوري !)..

لقد أصدر الشاعر مردان العديد من المجاميع الشعرية بعد مجموعته الأولى (قصائد عارية) منها: (رسالة من شاعر الى رسام) و(العالم تنور) و (رجل الضباب) وثمة مجموعة أخرى لم يتطرق إليها النقاد هي بعنوان (الارجوحة هادئة الحبال) وقد صدرت عن منشورات (مكتبة النصر) من دون تحديد سنة نشرها، وساهم في رسم غلافها ولوحاتها الداخلية الفنانون: جواد سليم وشاكر حسن آل سعيد وخالد الرحال..

لم يحصل مردان على وظيفة حكومية بحياته لكنه في آخر أيامه تم تعيينه في القسم الثقافي للمؤوسسة العامة للإذاعة والتلفزيون حين كان مديرها العام محمد سعيد الصحاف، وقبل أن يستلم مردان راتبه الأول رحل عن الدنيا.. !

من جانبه كتب الشاعر العراقي فوزي كريم قصيدة رثاء عن الشاعر حسين مردان عندما كان حياً، القصيدة نشرت بمجلة الآدب في حينها، وعندما قرأ مردان قصيدة فوزي عنه عندما كانوا يجلسون في حديقة إتحاد الأدباء في ساحة الأندلس، قال حسين مردان لفوزي كريم: (أنك ترثيني وأنا على قيد الحياة) وبعد فترة قصيرة مات حسين مردان !..

في قصيدة الشاعر الكبير فوزي كريم وهي قصيدة تأبينية أسست للرثاء من خلال التركيز والتكثيف وتسليط الأضواء على شخصية الشاعر حسين مردان الإنسانية العالية والتي ميزته عن مجايليه، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعمم القصيدة على شخصية أخرى غير شخصية مردان، القصيدة فيها مفرداته وأماكنه وكل تفاصيله،وقد نجح فوزي كريم بعد سنوات بأن يجعل من الرثاء حياة أخرى لشاعر راحل، وإن أسم الشخصية المرثية عنوانا للقصيدة دون إضافة أو اسناد لصفة او فعل، ومنح فاعلية لتشكيل المعنى المتعلق بالرثاء، عندما نقرأ القصيدة نشعر بوجود حسين مردان داخلها أو أنه يعيش معنا جراء حجم الحزن والألم الذي تحمله مردان، فيما القصيدة تصمت أمام موقف الفقدان الذي أفترضه كريم. يقول الشاعر الكبير فوزي كريم في قصيدة رثاء صديقه الشاعر حسين مردان:

ياقطار الشمال

ياقطار الجنوب

ياقطاراً صدئتَ بلون المحطة،

نمتَ، استرحتَ أمام البيوت،

هل تريد اسمه؟

اسمه في الهوية حسين مردان

واسمه في الشارع حسين مردان

واسمه في المقاهي الإله

واسمه حين يعتزل الناسَ آه.

ياحسين مردان

كيف تركتَ البابَ مفتوحاً

والليلُ لم يبدأ

وكان السرُ مفضوحاً..

وفي ديوان الشاعر حسين مردان (قصائد عارية) كتب لنفسه المقدمة وهو يخاطب فيها القارىء حيث يقول:

(إلى القارئ... إني لأضحك ببلاهة عجيبة كلما تخيلتُ وجهك العزيز وقد استحال الى علامة استفهام ضخمة. وإني لأضحك ببلاهة أعجب كلما تصوّرتك وقد إستبد بك الغضب فرميت بكتابي بحنق واشمئزاز وعلى شفتيك المرتجفتين ألف لعنة ولعنة. ولكن ثق أنك لاتفضلني على الرغم من قذارتي إلاّ بشيء واحد هو أني أحيا عاريا بينما تحيا ساتراً ذاتك بألف قناع. فنصيحة ٌ مني أن لا تقدم على قراءة هذا الديوان إذا كنت تخشى حقيقتك وتخاف رؤية الحيوان الرابض في أعماقك !).

أما في إهداء الديوان فكتب مردان يقول:

الإهداء:

(لم اُحب شيئا مثلما أحببت نفسي، فالى المارد الجبار الملتف بثياب الضباب

الى الشاعر الثائر والمفكر الحر.... إلى حسين مردان

أرفع هذه الصرخات التي انبعثت من عروقه في لحظات هائلة من حياته الرهيبة).

ح.مردان / بغداد 26 تشرين الثاني 1949

يقول الشاعر حسين مردان في مقاطع من قصائده العارية:

زرع الموت..

إبليس والكأس والمأخور أصحابي

نذرت للشبق المحموم أعصابي

من كلّ ريّانة ِ الثديين ضامرة ٍ

تجيد فهم الهوى بالظفر والناب ِ..

وقع السياط على أردافها نغم ٌ

يفجّر الهول من أعراقها السود ِ

تكاد ترتجف الجدران صارخة ً

إذا تعرّت ْ أهذا الجسم للدود ِ..

صفراء تصطرع الثارات في دمها

من كلّ عرق ٍ بسُمّ ِ الأثم محتقن ِ

تمتص من شفتيّ َ الروحَ في نهَم ٍ

وتزرع الموت َ أسنانا على بدَني..

تلتذ بالصفع لا باللثم ـ عاهرة ٌ

في لحمها الغض إشباع ٌ لمحروم ِ

تئن كالوحش مطعونا إذا اشتبكت ْ

ساق ٌ بساق ٍ ومحموم ٍ بمحموم ِ..

أضمها وبودي لو اُمزقـّها

ليهدأ اللهب المسعور في كبدي

نشوى تنام على صدري مرددة ً

فـُـدِيت َ يافوهة البركان من جسد ِ..

دم ٌ ونار ٌ وأشلاء ٌ ممزقة ٌ

وأضلع ٌ صاخبات ٌ تشتكي التعبا

هذا هو الحُبّ ُ: جرحٌ غائرٌ ويَدٌ

خبيرة ٌ وصراع ٌ يعلك العصبا..