البيئة  الاستثمارية...  إطار ومســار

البيئة الاستثمارية... إطار ومســار

ثامر الهيمص
هل ارتبط عندنا الاستثمار بالخصخصة، بحيث بات لايمكن الفصل بينهما؟ وهل الخصخصة هي القناة الوحيدة؟ أم أن الاستثمار هو عملية احياء لمشاريع دمرتها الحروب والحصارات؟ وهل من سبيل لزج الخصخصة كقاطرة لمسيرة الاستثمار؟ وهل الأجواء غير الاقتصادية جاهزة؟

أم الجانب السياسي والاجتماعي مازال متعثراً بين رأسمالية الدولة وخلفياتها الفكرية بمورثها الثقافي المتراكم؟ أم أن الإدارة والرؤية مازالت تحت الغش والانقسام العمودي للمجتمع بموجب هويات ثانوية؟
لا يمكن تحديد الاجابات نظرياً واختزالها بنعم أو لا في كل الأحوال ولكن النماذج والصيغ والمشاريع تعكس التوجهات العامة وخصوصية كل حالة.
فعندما تعلن وزارة التجارة بإحالة الاسواق المركزية للاستثمار بشروط تحمل تركة حقيقية من الترهل والافلاس وموقف سياسي من البطالة لاشك انها تثقل كاهل المتصدي المستثمر بالاضافة الى أن نظام العمل بين القطاعين العام والخاص مختلف كلياً سواء على مستوى الأداء ومستوى الأجور.
فكيف يكون شرط استخدام العاملين الحاليين اساسيا" في ارجحية المتقدم؟
وقد أعطيت ستون يوماً اعتبارا من الاول من حزيران الجاري لتقديم العروض وكان المؤتمر المنعقد غير مشجع لان وزارة التجارة رأت هذه العملية غير مشهود لها في كفاءة الأداء والنزاهة كما في البطاقة التموينية، ولذلك سيكون مشروعها يحمل أسباب فاشلة ربما، ولكن هناك تجارب تجازف سياسياً واقتصادياً للنجاح بحيث تكون احتمالاته متوفرة بابداع وعبقرية الإدارات العليا أولاً.
فالإحالة الى التقاعد المبكر أمرا ليس جديداً، والترهل وأهمية التخلص منه أمراً مشروعاً، لذلك أصبح العامل السياسي وتملق الناخب والهاجس الأمني هو محور العملية الاستثمارية.
أذن البيئة الاستثمارية الجاذبة للخصخصة ورجالها والاستثمار بأموالها مازالت تتقدم خطوة وتتراجع أخرى على الأقل من حيث القوانين والمشاريع المقترحة والبيروقراطية ناهيك عن الهشاشة السياسية والأمنية، وهذه نقاط الضعف يجب تعويضها لا تعقيدها، ولكن يبدو واضحاً أن الخصخصة والاستثمار هناك من يقف دونها ويحدها وهذا طبيعي من دولة مشهورة بالمركزية والريع النفطي والنمط الآسيوي للإنتاج، لذلك البيئة الاستثمارية نستطيع توصيفها بما يأتي: ـ

أولا: لدينا أكبر قطاع عام في العالم تكلس بحيث أصبح الراتب ليس جراء العمل مقابل الإنتاج اجمالاً وهذا يتقاطع مع الاستثمار والجدوى الاقتصادية، ولذلك تصديره الى الاستثمار سيشكل خسارة أكيدة.
ثانيا: قطاع خاص ضعيف جداً قياسا للقطاعات الخاصة في دول الجوار والاقليم بحيث يمكن تسميته بالمعوق ولذلك يتعكز على هذه القطاعات ويشاركها أحيانا.
ثالثا: لدينا قطاع مختلط وتعاوني أضعف كثيراً من القطاع الخاص حيث عاني كثيراً من سياسات رأسمالية الدولة ومشكلاتها وأمراض القطاعين العام والخاص بل أصبحا مجرد امتداد محدود ضعيف.
رابعا: أما المحيط الإقليمي والدولي جعل من العراق سوق للخضراوات والفواكه والصناعات بكل أنواعها بحيث أصبحنا سوبر ماركت لدول الجوار وهناك، شرائح سياسية ومحلية وإقليمية تشكلت لتخدم هذا التيار ولها نفوذها وتأثيرها في القرار السياسي والاقتصادي.
خامسا: لدينا فساد استثنائي يتوسع طردياً مع تضخم جهاز الدولة وهذا الجهاز البالغ أكثر من أربعة ملايين موظف سيصبحون مع الأيام شريحة مؤثرة في القرار السياسي كناخبين يخدمهم مرشحهم وهم يشكلون أغلبية مع عوائلهم ولذلك أصبحت الدولة المترهلة مصلحة سياسية بامتياز.
سادسا: البيئة الحاضنة الدولية لاستثمارنا هي غربية أو أمريكية بامتياز وهذه تعمل حسب توجيهات الثلاثي (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية) يتسابق السياسيون والاقتصاديون للتعامل معهم كهروب للأمام ونعمل بوصفاتهم رغم عدم نجاحها في مصر وتونس وكما أننا غير جاهزين للانضمام لأننا غير متكافئين مع اطراف العلاقة.
سابعا: النفط يمثل أكثر من 90 % من الناتج الوطني وسيزداد أكثر سعره مع الطلب العالمي واتجاه الدول المتقدمة بإيقاف العمل في المفاعلات النووية بعد كارثة شرنوبل واليا بان أخيراً، وهذا ما يشجع أولي الأمر بعدم المجازفة بخطط إستراتيجية ونقلة نوعية مادامت هناك لدينا إمكانات بسياسة اطفاء الحرائق بالأموال هذه التي ترد والترقيع ميسور جداً بفضلها.
ثامنا: عمالتنا وعاطلينا يتراوح مستواهم بين قلة الخبرة وضعف حافز العمل كون أغلبهم جاء للعمل الوظيفي ليس عبر الوسائل الموضوعية بل غالباً من خلال هويات فرعية و ولاءات سياسية.
تاسعاً: أصبح لدينا ما يسمى ارتباط المال بالسلطة وهذا خطر يهدد الاستثمار حيث الساسة لديهم مصالح مباشرة، فمثلاً بلغت نسبة استجابة أعضاء مجلس النواب الكاشفين عن ذممهم المالية لسنة 2010 (2 ر34 %) فقط في حين بلغت هذه النسبة سنة 2006 (4 ر 77 %) أي تفاقمت الحالة من هذا البرلمان ممثل الشعب.
هذه الصورة قد تبدو غير متفائلة ولكن لا تستطيع القفز فوقها الا بعزم غير اعتيادي من النخب السياسية أو الكارزما التاريخية أو مواجهة خطر التفاقم في الفقر والعشوائيات والفساد وسيادة الهويات الثانوية التي تملك أقوى الاذرع السياسية والمالية والاجتماعية والثقافية أحياناً، أذن ما العمل؟ هناك من يقترح البدء بالمشاريع الصغيرة وتنميتها لتشكل بنية تحتية لصناعة أو زراعة أو سياحة وهذا جيد ومعمول به ولكن في ظل حاضنة لا ترى أنه يقدم لها شيئاً.
وهناك من يحثنا على المسارعة للانتماء لمنظمة التجارة الدولية لتلحق بالركب وهذا مستحيل في ظل الأوضاع أعلاه وما دام النفط جاريا متصاعدا.
لاشك أن عملية إطار جديد ومسار متجدد للاقتصاد العراقي هو ثورة وليس أصلاحا، لأننا غالبا مانبدأ من الصفر في مجالات كثيرة، بحيث أننا نفكر في الغاء مشاريع كهرباء بدل أصلاحها والكهرباء نموذجا يختزل كل المشاريع وهي قاطرة لاغلب المشاريع ودرسها مفيد جدا"، كذلك كونها أكبر مشروع صناعي وزراعي.
فالثورة الكهربائية تبدأ من الاسفل كبنية تحتية ليس للصناعة والزراعة فحسب بل حتى للأفراد بعيدي النظر في مواقفهم ربما.
والثورة كذلك تواكب الكهرباء في مجال الفساد الذي لاتحسمه الأجهزة والبوليس الا عبر ثورة ثقافية انطلاقا" أن الله لا يغير ما بقوم مع الشفافية والرقابة الشعبية والرئاسية والإعلامية وسلطة المجتمع المدني.
وتواكب الثورة في المسار والإطار تعديل التعليمات والقوانين وصولا" لديباجة الدستور التي تجعل الإنسان العراقي عراقيا أولاً ثم يعتز بكيانه بعد حسم موضوع قانون الاحزاب والانتخابات كون ما تفرزه هذه العملية من شخصيات فقط هم المؤهلون للريادة وتكون الديمقراطية سلوكا اقتصاديا وسياسيا وليس مجرد باص يصل براكبه بأي وسيلة للسلطة.
والعمل من الآن بفك الارتباط بين السلطة والمال فجمهور الناخبين المتغلب الان ليس هو الطبقة الوسطى التي هي وراء التغيير والتقدم والريادة.
بدون توفير حاضنة الإطار والمسار ستكون الإخفاقات متكررة وإطفاؤها سهلاً ميسوراً بفضل الريع النفطي وندخل حلقة مفرغة هناك من يعمل عليها من أعداء الداخل والخارج.