من ذاكرة الغناء العراقي صديقة الملاية: أول مطربة عراقية غنّت للاذاعة بعد افتتاحها عام 1936 !

من ذاكرة الغناء العراقي صديقة الملاية: أول مطربة عراقية غنّت للاذاعة بعد افتتاحها عام 1936 !

أرادت صديقة ان تقول متحدية ان للفن رسالة كبقية الرسالات التي تنشد خير الانسانية وترسم لها مستقبلاً وضيئاً يبتعد عن ما يسيء وينفر ويكدر صفو العيش. لذا لم تجد امامها سبيلاً لنشر فنها غير طريق الالحان والغناء والتطريب، مضطرة للعمل تحت لافتة بائسة مكتوب عليها: ملهى!

يقول احد من عايشها واحب غناءها: لهذه المطربة الكبيرة التي أزرى بها الدهر في ايامها الاخيرة، اسمان هما فرجة بنت عباس بن حسن من آل شبل، والثاني صديقة بنت صالح بن موسى، وهي من مواليد 1901. نزحت بها امها المطلقة من قضاء المسيب الى العاصمة بغداد، وصديقة لم تزل في الثانية من عمرها، وسكنتا محلة باب الشيخ الشعبية، مأوى الفقراء ومن تقطعت بهم السبل، وهكذا ترعرعت صديقة بين الشتات والضياع والحاجة القصوى الى الرعاية والاهتمام والحنان الابوي، يومها كانت النظرة الى النساء على انهن إماء وجوارٍ وآلات تفريخ ليس إلا..

حين بلغت فرجة بنت عباس او صديقة بنت صالح سن الرشد، راحت تقضي أيامها في المناسبات مع ملايات ذلك العصر ينشدن اشعارهن في الافراح والاتراح كتنفيس عما يعانين من سجنهن النسائي الذي كٌنَّ فيه نتيجة الحجر الاجتماعي، يخففن من ضيقهن في عالم ذكوري لايرحم، باجواء دينية نسائية بحته. واختصت بالتتلمذ على يد الملا (شمسة) وعنها اخذت لونها الغنائي الذي عرفت به صديقة في ما بعد.

وسارت الأيام على غير رأي قاطع منها كأنها مسوقة لجو لا تميل اليه، بل على الرغم منها ولكن لابد مما ليس منه بدُ ! راحت تغني في ملاهي بغداد في العشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وذاع صيتها كمغنية متميزة ومستكملة أدواتها الفنية كافة. وما اسرع ما تهافتت عليها شركات الاسطوانات لتسجيل أغانيها وبستاتها ومقاماتها العراقية ولأول مرة بصوت نسائي ما أثار إعجاب القوم وعلى رأسهم المقاميون المعتبرون انفسهم إذ كيف يتسنى لصوت نسائي تأدية هذا اللون الغنائي الصعب ذي المداخل والمسالك الذي يتيه، في تشعباته الكثيرة ابرع المقاميين من الرجال ليس هذا فحسب وانما اصبحت تلك المقامات والاغاني التي تغنيها صديقة على كل شفة ولسان ويرددها الشيخ الكبير الطروب قبل الصغير اللعوب، لما في تأديتها من عاطفة جياشة صادقة مشحونة بدفقات حب دفين لكل لون غنائي اصيل واثير، والكلام يخص الثلاثينيات:

يا صياد السمج- صيدلي بُنية- عجب أنت إحضري- وانه إبدويه. آلت صديقه بعد ان حققت احلامها في الشهرة والثراء، ان تترك عالم الملاهي والابتذال، واتجهت في 1/تموز/1936 يوم افتتاح اذاعة بغداد اللاسلكية لأول مرة في العراق، لتكون اول مطربة عراقية تبث اغانيها من هذه الاذاعة الوليدة. وكان المستمعون اليها والمعجبون بها يجتمعون ليروا صديقة المطربة والمقامية الاعجوبة، وينتظرون غناءها بفارغ الصبر فنكهتها الغنائية متميزة عن الاخريات الوافدات من مصر والشام ولبنان. واصبحت صديقة مطلب المستمعين رقم واحد في بغداد والمحافظات وكذلك من دول الجوار، وصارت ترأس قوائم المطربات المدعوات الى الحفلات الرسمية والشعبية، العامة منها والخاصة، وراح من يدعون بالذوات والباشوات في ذلك العهد يفخرون بدعوتها الى بيوتهم لما تتمتع صديقة الملاية من صيت طيب وعلى الصعيدين الشخصي والفني.

الافندي – الافندي- عيوني الافندي- الله يخلي صبري – صندوق أمين البصرة.

ما عندي ماعندي- غيره ما عندي- هو شريك الروح – غيره ما عندي. وكان يأنس لها ويوجه لصديقة الدعوات المفتوحة، امير المحمرة الشيخ خزعل، وتبقى ضيفة معززة مكرمة في دواوينه وايوانياته، وعندما يبرح بها الشوق الى معجبيها في بغداد، تنتحل شتى الاعتذارات للأمير حتى تعود اليهم محملة بما يخف وزناً ويغلو ثمناً.

للناصرية.. وللناصرية.. تعطش واشربك ماي.. بثنين إيديه.

وما يسجل لها وهي في عنفوان مجدها وتألقها، عطفها على الايامى واليتامى والمساكين والفقراء والمعوزين، وصرفها الكثير مما تحصل عليه من اموال وتحت سُتر الخفاء وانها الوحيدة اوما يقرب من هذا المعنى التي حافظت على حيائها النسائي برغم عملها في علب الليل وملاهيه، وانها اتخذت اسمها بما لا يدل على أصلها وعائلتها حفاظاً على سمعتهم بسبب النظرة التي كان ينظر فيها المجتمع الى الفنون كافة كما اسلفنا.

ولتأديتها مقامات البهيرزاوي والحكيمي والمحمودي وغيرها، اصبحت ظاهرة غنائية لفتت الانظار اليها واستعاد القوم في اذهانهم امجاد المغنيات في العصر العباسي دنانير وسلامة (غير سلامة القس) وحبابة وقوت القلوب وتودد ونرجس وغيرهن.

وتميزت الملاية بذائقتها العراقية ونكهتها الشعبية وسلاسة الفاظها وسلامتها من لحون ولكنات الاخريات الوافدات من هنا وهناك.

كل جن يامظلومات. للكاظم إمشن.. وعند سيد السادات.. فكن حزنجن.. مظلومة.. محرومة.. مهضومة يا سيد... مهضومة..

ولمعرفة موقع هذه المطربة التي الهبت مشاعر العراقيين بصوتها الفريد نقرأ ما كتبه الشاعر الكبير والصحفي المخضرم الملا عبود الكرخي عنها (الملا عبود من مواليد 1861 وتوفى سنة 1946) حيث يقول بقصيدة عصماء له جاء في بعض ابياتها:

معجب واشهد يملا.. للصخر صوتج يفله.. بالكلب خليتي علّه

نغمتج حلوة ورقيقه.. كل مغني إذا غنّه.. عندي صوتج أحلى منه

وفي أواخر أيامها تكالبت عليها الامراض خاصة الروماتزم، وفقدت بصرها تماماً، وعانت الوحدة والاهمال وراحت تعتاش على ما يتصدق به المتصدقون عليها حتى ماتت كمداً في 19/8/1970 ولسان حالها يردد مقاطع من أغانيها الشائعة.

واس بان مني ذنب يا عيوني.. جيت أغير هوى وصادوني

يايوب.. يايوب.. يايوب... آه واويلاه !

من ارشيف صحيفة المدى 2005