حول الفلسفة والأخلاق .. نسيم نطالب: الرجل الأخلاقي هـو من يضع روحه على كفّه

حول الفلسفة والأخلاق .. نسيم نطالب: الرجل الأخلاقي هـو من يضع روحه على كفّه

أجرتْ الحوار: كاثرين بروتيفن

لا يفرَّقُ نسيم نيكولاس طالب، المصرفيَّ السابق في “وولت ستريت” والمفكّر بين حسابات الاحتمال وبين فلسفة العصور القديمة. في كتابه الجديد يضع نسيم طالب السياسيين ورجال الأعمال والمفكّرين الذين لا يخاطرون في اتخاذ قراراتهم موضع الاتهام، مُطالبًا إياهم بالرجوع إلى ينابيع الحكمة القديمة.

مجلة فلسفة:
كنتَ شابًا يافعًا حينما اندلعتْ الحرب الأهلية اللبنانية في سنة 1975. إلى أي حد شكّلتْ تلك التجربة طريقة تفكيرك فيما يتصّل بمبدأ اللا يقين والمخاطرة؟
نسيم نيكولاس طالب:
لا ترتبط هذه التجربة بأسلوب التفكير، بل بذكريات الخوف والبقاء على قيد الحياة وسط ظروف لا يُمكن التكهّن بتبعاتها. الحرب واحدة من تلك الأحداث المتطرّفة التي تضطركَ إلى تبني موقفٍ إزاءها. مع ذلك لم تكن الحرب هي الأمر الحاسم بالنسبة إليَّ؛ لأن لبنان محفورة في أعماق ذاكرتي، حيث ترسّخَ ولعي العميق بالحضارة الغربية، وهي المكان الذي وُلدتُ فيه. أشرقتْ شمس الحضارة الفينيقة قبل أن تُشرق في أثينا وروما والقسطنطينية. ويمثّل حوض البحر المتوسّط القارة الأوروبية على المستويين الطبيعي والتاريخي. تعلمين بالطبع أنّ “أوروبا” – بحسب الأسطورة- هي ابنة الملك تيروس، الذي خطفه كبير الآلهة “زيوس” إلى جزيرة كريت. تربطني أواصر صلة عميقة بعالم حوض البحر المتوسط القديم.
مجلة فلسفة:
هل طالعتَ نصوص شيشرون وسيكستتوس أمبريكوس وسينيكا قبل رحيلك إلى الولايات المتحدة والعمل في مجال الأوراق المالية؟
نسيم نيكولاس طالب:
يقرأ الإنسان مرّتين في حياته. الأولى حينما تكون أخضر العود يافعًا، فتمتلأ روحك بالأدب. وكان هذا ما فعلته بالضبط، وعلى الأخص مع الأدباء الكلاسيكين. والمرة الثانية حينما يستقلّ تفكيرك، وتشرع قاصدًا في البحث عن الزاد الروحي. كان “مونتاني” هو مُعلميّ الأول، وبفضله وجدتُ طريقي إلى نصوص الكُتاب الكلاسيكيين القدماء. لم يكن مونتين يجيد اللغة الإغريقية، وكانت مصادر إلهامه مستمدّة من عيون الأدب الروماني. بالنسبة إليَّ ثمة مدرستان لتعلّم الحكمة: مدرسة إيراسموس (1) ومدرسة مونتين. أما إيراسموس فيمثّل الحكمة المُستمدة من الكتب، وأما مونتاني فيمثّل حرية الإنسان في التفكير، الإنسان الذي يضع نفسه ومعارفه موضع المسائلة، بغية الوصول إلى أفضل الطرق لعيش حياته معيشة أفضل. الحقيقة أنني أفضّل مونتين.
مجلة فلسفة:
تقول في أعمالك: أن تتصرف على الوجه الأمثل لا يعني بالضرورة دائمًا أن تدرك الأشياء على الوجه الصحيح، والعكس بالعكس. حلّلتَ مثلًا نظرية “البجعة السوداء”، حيث تـقـع أحداث بالغة الأثر، تعجز أية معرفة عن التنبؤ بها.
نسيم نيكولاس طالب:
العلم القائم على مبدأ “البجعات كلها بيض” هو علم قاصر، لأنه غير قابل للإثبات عبر وسائل تجريبية. وقد ابتُكِرتْ نظريات عديدة وفقًا لهذا النوع من المعرفة المنقوصة. كان كتاب “البجعة السوداء” هجومًا متكئًا على مبادئ علمي الاحتمال والإحصاء، ومصوبًا ناحية المصرفيين والمثقفين القاعدين في غرفهم المغلقة، زاعمين قدرتهم على معرفة المجالات المحكومة بأحداث لا يُمكن التنبؤ بها. ما أشبه هؤلاء بالديوك الرومية التي تعتقد أن المُزارع يعلفها حتى حلول عيد الميلاد. صدر كتابي قبل سنة واحدة فقط من انهيار سوق الأوراق المالية سنة 2008، وأنا اليوم أشعر بحنقٍ بالغ من تبني بعض المسؤولين لمفهوم “البجعة السوداء”(2)، كما لو أن الكارثة المالية التي تسبّبوا في وقوعها كانت ضربة قضاء وقـدر، وأن اللايقين كان اعتذارًا عما حدث. الحقيقة أن عملية اتخاذ القرار معقودة بما نملكه من معلومات بخيط هشّ، فاتخاذ القرار مرتبط بسلسلة من العوامل التي لا سبيل إلى معرفتها معرفة يقينية، وقد يحدث أن يؤدي العلم الظنّي العشوائي إلى اتخاذ القرار السليم. سأضرب لك مثلًا بأولئك الذين يعيشون في قرية ساحلية في إندونسيا، ورفضوا النوم في منازل قريبة من البحر، اعتقادًا أن أرواح أسلافهم تنزل إلى البحر ليلًا، هؤلاء نجوا من كارثة تسونامي سنة 2005. أمامكَ طريقتان لمعرفة العالم: إما عبر علم الإبستمولوجيا (علم المعرفة) والإحصاء ووضع ما تعرفه داخل نماذج. وإما أن تتأمل ما لا تفهمه، واضعًا في اعتبارك مبدأ “عدم اليقين” والمعرفة الظنيّة” دون أن تغادر الدقة الإحصائية. لذلك أقول إنه من الأفضل أن يكون لديك وعي بالجهل أكثر من اليقين بالمعرفة. بعبارة أخرى: العلم شيء لطيف، لكن الأهم أن تنجو بجلدكَ.
مجلة فلسفة:
عثرتَ على توأم روحك في أعمال المشكّك الإغريقي سيكيتوس إمبريكوس، الذي أنشأ كلية طبّ تجريبية، بل أنّك أطلقتَ اسمه على شركة تداول الأوراق المالية التي أسستها.
نسيم نيكولاس طالب:
أحـبّ الفلاسفة المتشكّكين، بدءًا من فيرون والغزالي وصولًا إلى مونتاني وهيوم، لكن بعضهم يميل إلى الضياع في حارات التشكّك المسدودة. حتى إن هيوم وجد في نهاية المطاف أن مذهب الشكّ الذي ابتدعه مثير للسخرية. وضع فيرون الوجود الإنساني كله موضع الشكّ، بما في ذلك العقبات التي كانت تعترض طريقه، وهذا هو السبب وراء تعثّره. على الصعيد المقابل جثا سيكستوس على ركبيته أمام الخطر، ولم يجد غضاضة من المجازفة بالسقوط في الهاوية حينما قرّر أن الخطر غير موجود. كان مذهب الشكّ عنده بمثابة مناهضة متطرفة لمبدأ العقيدة الدوجمائية المتصلبة. كان سيكستوس رجلًا عمليًا في المقام الأول. كان رجل أفعال لا أقوال، وكان طبيبًا سعى عبر محاولات تجريبية إلى العثور على حلولٍ لمشكلات بعينها. يشترك مريدو هذه المدرسة الشكوكية في أنهم يتركون الأحكام مفتوحة على كل الاحتمالات، ولا يحترمون إلا الزمن والنتائج التي تفرزها الممارسة العملية.
مجلة فلسفة:
وهل صنع “سينيكا” منكَ مضاربًا ماهرًا في سوق الأوراق المالية؟
نسيم نيكولاس طالب:
كان “سينيكا” رجل أعمال، وعثرتُ في أعماله على فكرة بسيطة: وهي أنه بإمكانك تحديد كل شيء وفقَ مبدأ التناسب بين الحساب والخسارة. فحينما تهمّ باتخاذ قرار ينبغي أن تكون خسائركَ لو اتخذتَ قرارًا خاطئًا أقلّ من مكاسبكَ لو اتخذتَ قرارًا سليمًا. لم يهتم بهذه الفكرة سوى عددٍ محدود من الفلاسفة. يروي لنا أرسطو حكاية “طاليس الملطي” الذي جنى ثروةً هائلة من محصول الزيتون بفضل توقعاته المناخيّة الصائبة، فاشترى حقوق استغلال جميع عصّارات الزيتون في المدينة. وبوصفي مضاربًا في سوق الأوراق المالية، أعتقد أن طاليس قد تنبّه إلى تردّي أوضاع صناعة زيت الزيتون ترديًا ممنهجًا، فوضعَ خياره على البيع بسعرٍ منخفض. وفي السنة التالية كان محصول الزيتون وفيرًا فأعاد بيع حقوق استغلال عصّارات زيت الزيتون بأعلى سعر. كان طاليس بهذا أول مضارب في سوق “خيارات الأسهم” (3)، لأنه أبرم عقدًا [تجاريًا] مستندًا إلى معلومات غير مؤكدة. لا يحتاج المرء إلا أن يعرف كل شيء عن العالم إذا ما تحسّب إلى أقل قدر من الخسارة إذا جانب الصواب قراراته. يستند تصوري في نظرية “المتانة المعرفية” (4) إلى مبدأ التناظر عند سينيكا. المفكّر المناوئ للهشاشة هو ذلك الذي يجني من وراء موقف مزايا أكثر من عيوبه.
مجلة فلسفة:
تحضّ نظريةُ “مناهضة الهشاشة” المديرين على إعادة التفكير مرّة أخرى في معرض مواجهة الصدمات بقدر أكبر من المرونة. ويُترجم المصطلح أحيانًا إلى “المرونة”. ما رأيك؟
نسيم نيكولاس طالب:
تعني كلمة المرونة في رؤيتي القدرة على امتصاص الصدمات، بوصفها ضربًا من ضروب التكيّف والمواءمة. أما المتانة المعرفية فهي على النقيض من ذلك؛ لأن مناهضة الهشاشة لا تتكيّف مع الصدمات، بل يتحسّن أداؤها كلما تلقّت الصدمات. الفكرة المحورية التي تدور حولها نظرية “المتانة المعرفية” هي فكرة “التحدّب”، فالنظام المُحدّب أو الفرد المحدّب يزداد قوّة ومتانة كلما عصفتْ به التغييرات والتقلبات والتسارعات والاضطرابات والفوضى والإجهاد. وهو على ذلك مقعّر أيضًا، بمعنى أن أفضل ظروف العمل عنده هي الأجواء المنظمة المستقرة. المتانة المعرفية مؤمنة بالعقلانية وبالتنظير. الموظف البيروقراطي هشّ، بينما العامل اليدوي مناهض للهشاشة. نعلم جيدًا أن الصناديق الاستثمارية المغلقة هي الأكثر عرضة للإفلاس. كلما كانت محفظة الصندوق المالية أقل تنوعًا، كلما كان مآلها الخسارة. تساعد التقلبات والاضطرابات مناهضة الهشاشة على تعويض نقص المعرفة عبر الاستفادة المحيط العام للبقاء على قيد الحياة. خيرٌ لي أن أكون أحمق، مضادًا للكسر، من أن أكون ذكيًا قابلًا للكسر.
مجلة فلسفة:
لا يتمحور مذهبك الفكري حول فكرة حماية الذات وتحسينها، بل حول فكرة “الأخلاق” بشكل واضح..
نسيم طالب:
هذا صحيح. إذا جنيتُ مالًا فهو لي وحدي، وإذا خسرتُ مالًا، فليتحمّل الخسارة سائق الشاحنة أو الأستاذ الجامعي المتقاعد المتخصص في القواعد: إذا فعلنا ذلك فنحن في خضم أزمة مالية. أقول بملء فمي: من يتسبّب بتلك الهشاشة المعرفية هم المثقّفون ورجال المصارف. لا يزعجني أن يجني المرء ثروةً إذا ما تحمّل تبعات المُخاطَرة على عاتقِه، ولكن المعضلة الأخلاقية في ظني هي أن تجني ثروة عبر إلقاء عبء المخاطرة على كاهل الآخرين. ما الذي يعنيه اصطلاح “ركوب الخطر”، اصطلاح “المجازفة”؟
أريد أن أكون قائدًا وأن أدقّ طبول الحرب، حسنًا، لكن عليَّ أن أنزل أولًا إلى خطّ المواجهة في ساحة المعركة، لا أن أجلس في مكتبي في واشنطون أو في مقهى باريسي. أرى أن المجتمع الصحيّ هو المجتمع الذي يخوض فيه الناس غمار المخاطر، المجتمع الذي يتحمّل فيه الناس عواقب أفعالهم.
مجلة فلسفة:
تقول في كتابك الأخير Skin in the Game إن ركوب الخطر هو مسألة عدالة وشرف وتضحية”. ألا ترى أن تلك نزعة حربية قليلًا؟
نسيم طالب:
أنا من أنصار أخلاق الفضيلة. حينما أتحدث عن العدالة والشرف، فلا يسعني إلا أن أشير إلى كتاب “الأخلاق إلى نيكوماخوس” لأرسطو. لا نجد عند أرسطو تعارضًا بين الشجاعة والحكمة (باللاتينية Phronesis)، فالحكمة فضيلة عملية، ولون من ألوان ملكة الحُكم السديد. لا يُمكن للشجاعة أن تتصف بالفضيلة إلا في حالة واحدة فقط، إذا ما غامر الإنسان بشيء أكـبـر من وجوده. فاللاعب الأحمق ليس شجاعًا. أما حينما أغامرُ بحياتي في سبيل إنقاذ حياة ثلاثة أطفال من الغرق، تفوق قيمة حياتهم مجتمعين قيمة حياتي، فهذه هي الشجاعة والحكمة بحق. وإذا غامرتُ بحياتي من أجل حماية مجتمع، فأنا بطل. أما إذا غامرتُ بغية دفع المجتمع إلى الفوضى، فلستُ إلا لصا ومثقفا خبيثا. يدور العالم بأسره بين شقي رُحى هذيْن القطبيْن. تسعة وتسعون بالمائة من الناس يؤثرون السلامة ويـقـدّرون عدم المخاطرة أكثر مما ينبغي. يدرك قائد التاكسي أن القيادة بسرعة طائشة ستودي بحياته وحياة الركّاب. عندما نتكلم عن المخاطرة فالمصطلحان الجوهريان عندي هما الشجاعة والعدالة، وهو ما أطلق عليه التناسق.
مجلة فلسفة:
في أعمالكَ تفحص مسألة الهوّة بين الأخلاق والالتزام بالقانون فحصًا دقيقًا. كيف يُمكننا إعادة الأخلاق إلى حظيرة القانون؟
نسيم طالب:
عبر تحقيق الملاءمة، وعبر إعطاء الأولوية للعقد الاجتماعي بدلًا من القانون، فالشركات الكُبرى قادرة بنفوذها على تعديل القوانين بما يحقق مصالحها، ومن ثم لا سبيل إلى تحقيق العدالة عبر سـنّ المزيد من التشريعات واللوائح، بل عـبر تعاقد قانوني اسمه “وقوع الضرر” Tort Law (5). الحقيقة أنّ وقوع الضرر ليس قانونًا، مبدأ المحاسبة عند وقوع الضرر هو عقد اجتماعي يكفل للمتضرر الضمانات القانونية والشروع في الإجراءات القانونية. أما العقد الاجتماعي في القانون الأنجلوساكسوني متكافـئ، وهذا هو الفرق بين شريعة جوستينيان (6) التي استُمِدَّ منها القانون العام الأمريكي، وبين شريعة نابليون التي استمِدتْ منها التشريعات القانونية الحاكمة لفرنسا وللقارة الأوروبية؛ لأنك إذا ألغيتَ تشريعًا في فرنسا أو في ألمانيا مثلًا، لا تعرف كيف تستبدله بتشريع آخر، لأن قانونك غير متوافق من نظرية “العقد الاجتماعي”، أما في أميركا فيمكنني إلغاء قانون الحدّ الأقصى للسرعة، مع استبداله بقانون “المسؤولية المدنية حال وقوع الضرر”، وهو أشد صرامة بالنسبة للسائقين. وبالمثل أيضًا يُمكن تنظيم سوق الأسواق المالية عبر عقد المسؤولية المدنية، لا نحتاج سوى “أطباق سيرفيس جيّدة”. يمكننا العودة ببساطة إلى شرائع حامورابي التي سنّها في بابل قبل 3800 سنة، عملًا بمبدأ: “إذا انـهار منزل ولقي صاحبه حتفه، يُعاقب بالإعدام البنّاء الذي شيّد المنزل”. وإذا كنت لا ترغب في إعادة تطبيق مبدأ “العقوبة بالمثل” على نحو ما وردتْ في شريعة جوسنينيان، أي مبدأ العين بالعين، فمن المنطقي أن نفكّر وفقًا للمبدأ الآتي: “الأذي الذي لا تريده لنفسك، لا تتسبّب في وقوعه لغيرك”. ومن ثمّ لا حاجة بنا إلى تطبيق مبادئ كانط العالمية لتعميم هذا المبدأ بوصفها قاعدة أخلاقية فعّالة.
مجلة فلسفة:
ما المآخذ التي توجّها إلى مبادئ كانط الأخلاقية العامة؟
نسيم طالب:
مشكلة كانط أنه لم يفهم قضية المقاييس الأخلاقية (7). نتجادل حول مسألة الإنسانية كما لو كانت دولة، ونتجادل عن الدولة كما لو كانت قرية، ونتجادل عن القرية كما لو كانت أُسرَة دون أن نفهم التأثير. العقد الكُلّي المُبرم بين الطبيعة والفرد هو محض تجريد. لا تنصّ تقسيمات مبادئ “الإلزام الخُلقي” (8) عند كانط كيانًا إلا على أنّ العالم والفرد كيان كُلي شامل. لكن يستحيل أن نتعامل مع العالم كله بطريقة واحدة متماثلة، فسلوك خلية النحل ككلٍ مختلف عن سلوك كل نحلةٍ داخل الخلية، وجميع المناهج التي تعمّمَ سلوك النحلة وسلوك خلية النحل هي مناهج خاطئة.
مجلة فلسفة:
من أين استنبطتَ مبدأ: علينا الرجوع إلى الحُكم المحلي؟
نسيم طالب:
نعم. أرى في حـلَّ الحُكم الفيدرالي المُطبق في سويسرا حلًا ناجعًا. والأخلاق اليهودية المؤسسة على فكرة صلة الدمَّ للأقرباء أو الغرباء تفهم ما أقول جيدًا. ينبغي على الإنسان أن يتعامل مع العالم كله من منطلق أخلاقي، لكن في الممارسة العملية سيختلف تعاملك مع أشقائك وأبناء عمومتك عن تعاملك مع الغرباء. لا تتطور الأخلاق عبر النظرة المعولمة، ولكنها تتطور إلى الأفضل عبر الأقليات.
مجلة فلسفة:
في سياق متصل تتحدث أيضًا عن تلك الظاهرة المتناقضة المتمثلة في “هيمنة الأقلية العنيدة”…
نسيم طالب:
يمكننا رصد ذلك من خلال طريقة تحليلية معروفة في الفيزياء الرياضية، يُطلق عليها “مجموعة إعادة التهيئة”، ووظيفتها فحص التغيرات التي تطرأ على النظم المعقدة عند تغيير المعيار. على سبيل المثال سيلاحظ ساكن المريخ الذي يصل إلى الولايات المتحدة أن جميع المشروبات الغازية خالية من الكحول (كوشير)، فيستنتج من ذلك أن جميع الأميركيين يهودًا أرثوذكس، مع أن اليهود الأرثوذكس لا يشكلون سوى ثلاثة بالمئة فقط من السكان. كيف حدث هذا؟ السبب أنّ الشركات المصنعة اعتقدت أنه من الأجدى اقتصاديًا عدم إنشاء سلسلتين مختلفتين من المشروبات الغازية، بناءً على افتراض أساسي مفاده أن العالم يمكنه شرب عصير الليمون خاليًا من الكحول.
لماذا تختفي الأطعمة المعدلة وراثياً تدريجياً من الولايات المتحدة؟ يكفي رجل مثلي ضد الطعام المُعدَّل وراثياً؛ فعندما أدعو أحد أو أُدْعَى إلى تناول العشاء، يأكل جميع الضيوف الأطعمة غير المُعدَّلة وراثياً. جميع قواعد إما/أو تأتي ممن وصفتيهم بالأقليات غير المتسامحة، لأنه لا يوجد “طعام معدّل وراثيًا قليلًا، أو “غير مُعدّل وراثيًا، إلا قليلًا”.
مجلة فلسفة:
معنى ذلك لا يوجد عندك ما يُسمى بالأخلاق العالمية العامّة؟
نسيم طالب:
الأخلاق في حد ذاتها عالمية، لكنها لا تسود العالم بفعل العدد الأكبر من معتنقيها. الأقليات صعبة المِراس هي التي تفرض تفضيلاتها الأخلاقية على المجتمع، ومن نتيجة ذلك أيضًا هيمنة الأقليات في الشرّ. إذا جمعت سلفيًا مع خمسة عشر لا سلفي، فسيتعين على الجميع تبني النظام السلفي. ومع ذلك يمكن عكس النموذج ورفض قرارات الأقلية.
مجلة فلسفة: تصف نفسكَ بأنك “ليبرتاري”. ماذا تقصد بذلك؟
نسيم طالب:
لستُ عضوًا عاملًا في الحزب الليبرتاري. ما دفعني إلى اعتناق الليبرتارية هي الآلية النمطية لعمل مفوضية الاتحاد الأوروبي في بروكسل، يعطونك مكتبًا وخِـتـمًا وصلاحيات وجداول “إكسيل” لقياس حجم “آلة تحميص الخبز”، في الوقت الذي يتدّفق فيه طوفان لاجئين على البلاد بعد مقتل القذافي. أنا ضدَّ تدخّل الدولة في حياتي الخاصة، ضد إملاء الدولة حول ما ينبغي فعله وما لا ينبغي فعله، أنا ضد تجريم المخدرات. أريد سـنّ تشريعات في مجالات البيئة وحماية المناخ مثلًا، حيث مجال تطبيق قانون “وقوع الضرر” غير كافٍ. لكنني أريد أن أكون قادرًا على التحدث مع الحكومة رأسًا برأس. أناهض أي سيطرة على الفرد من خلال قوى عُليا مهيمنة، سواء أكانت اتحاد شركات كبرى أم دولًا؛ أنا ضد أي شيء يضع الناس في علاقات غير متكافئة.
مجلة فلسفة:
هل كنتَ تودّ أن تكون قرصانًا؟
نسيم طالب:
بل كنتُ أودّ أن أكون صائد قراصنة: لأنها تحمل المخاطرة نفسها، بلمسة مضاعفة من الأخلاق. أقلعتُ عن محاولات تغيير السياسة. أريد أن أفهم العالم، رغم علمي أن الله وحده قادر على ذلك، قالها وأكّد عليها اللاهوت الإسلامي والفيلسوف الملحد سبينوزا، سواءً بسواء.
***
* نُشر الحوار باللغة الألمانية في مجلة Philosophie Magazin في كانون الاول 2019