نسيم طالب.. البجعة السوداء التي تنبأت بكارثة كورونا

نسيم طالب.. البجعة السوداء التي تنبأت بكارثة كورونا

علي حسين

انطلق من حياة البلدة الصغيرة ” أميون ” ليحيط بالوضع الانساني مثل اللبنانيين جبران خليل جبران وامين معلوف. لا يكتب فلسفة يقرأها النخبة فقط، بل مؤلفات تحتل قوائم الاكثر مبيعا. اقترب من الفلسفة التي اعتبرها ” زاده الروحي ”، من خلال قراءة اعمال مونتاني وسينيكا، الاول علمه ان حرية الإنسان تتمثل في التفكير،

وأن على الإنسان ان يَضع نفسه ومعارفه موضع المسائلة، بغية الوصول إلى أفضل الطرق لعيش حياته معيشة أفضل. والثاني ” سينيكا ” عثر في كتاباته على فكرة بسيطة تقول أنه بإمكانك تحديد كل شيء وفق مبدأ التناسب بين الحساب والخسارة. فحينما تهم باتخاذ قرار ينبغي أن تكون خسائركَ لو اتخذت قراراً خاطئاً أقل من مكاسبكَ لو اتخذتَ قراراً سليمًا.. كان شابا حينما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، وقد ارتبطت هذه التجربة بذكريات الخوف والبقاء على قيد الحياة، وفي قبو منزلهم اثناء الحرب الاهلية عثر نسيم طالب على ابرز ابطاله الملهمين، وهو ديفيد هيوم وعن طريقه سيوجه نقدا لنوع الفلسفة التي تملأ الاوساط الاكاديمية والتي يصفها بانها:” ليس لها علاقة بالعالم الواقعي الذي على البشر أن يعيشوا فيه بحالة من عدم الفهم ”..بقي لسنوات يكتب سرا دون ان يخبر احد بماذا يفكر. في الحادية والاربعين من عمره ينشر كتابه الاول ” الخديعة من خلال العشوائية ”، استقبلته المكتبات بفتور، فمن يقرأ كتب عن العشوائية؟، لكن الكتاب سيصبح مفاجأة في الأشهر التي تلت هجمات 11 ايلول التي قامت بها القاعدة، وليضعه على قائمة الكتاب الاكثراثارة للجدل، استفاد نسيم طالب من تجربته بالعمل في التجارة، ليعلن بأن التوقعات لا قيمة لها، لأنه لا أحد لديه أي فكرة اين تتجه الأمور.

قالت عنه النيويورك تايمز إنه “مجنون، وجريء لكنه داهية” لا يزال يعلن أن ما هو غير متوقع، هو مفتاح فهم ليس فقط الأسواق المالية ولكن التاريخ نفسه.

يقول ان القراءة جعلت منه شخصا يتعلق بأبواب الأدب دون أن يستقر داخله، لكن الرواية واضحة في اسلوبه. كان يستعيد في الطريق إلى المدرسة روايات تولستوي وولتر سكوت وفكتور هيجو التي قرأها، ووجد في اعمال تشارلز ديكنز مفتاحا لفهم طبيعة المجتمعات يجيب على سؤال محرر النيويورك تايمز عن تاثير الادب على نظرته الى العالم:” يقرأ الإنسان مرتين في حياته. الأولى حينما تكون أخضر العود يافعاً، فتمتلأ روحك بالأدب. وكان هذا ما فعلته بالضبط، وعلى الأخص مع الأدباء الكلاسيكين. والمرة الثانية حينما يستقل تفكيرك، وتشرع قاصداً في البحث عن الزاد الروحي.. كانت الفلسفة هي معلمي الأول ”.

يُبشر نسيم طالب بما قاله ديفيد هيوم من ان كل العلوم لها علاقة كبيرة أو صغيرة بالانسان، واننا نخدع انفسنا إن فَّكرنا أن علوم الطبيعية هي عوالم معرفة موضوعية خارج الجنس البشري يكتب:” أحـب الفلاسفة المتشككين، بدءاً من ديكارت والغزالي وصولاً إلى مونتاني وهيوم، لقد وضعوا الوجود الإنساني كله موضع الشك، بما في ذلك العقبات التي كانت تعترض طريقهم. كان مذهب الشك عندهم بمثابة مناهضة متطرفة لمبدأ العقيدة الدوغمائية المتصلبة.. كانوا رجل أفعال لا أقوال، سعوا عبر محاولات تجريبية إلى العثور على حلولٍ لمشكلات بعينها، يشترك مريدو هذه المدرسة الشكوكية في أنهم يتركون الأحكام مفتوحة على كل الاحتمالات، ولا يحترمون إلا الزمن والنتائج التي تفرزها الممارسة العملية ”. يرى نسيم أن المجتمع الصحي هو المجتمع الذي يخوض فيه الناس غمار المخاطر، ويتحملون فيه عواقب أفعالهم. يؤمن بما قاله ارسطو من أن لا تعارض بين الشجاعة والحكمة:” لا يُمكن للشجاعة أن تتصف بالفضيلة إلا في حالة واحدة فقط، إذا ما غامر الإنسان بشيء أكـبـر من وجوده. فاللاعب الأحمق ليس شجاعاً. أما حينما أغامرُ بحياتي في سبيل إنقاذ حياة ثلاثة أطفال من الغرق، تفوق قيمة حياتهم مجتمعين قيمة حياتي، فهذه هي الشجاعة والحكمة بحق. وإذا غامرتُ بحياتي من أجل حماية مجتمع، فأنا بطل. أما إذا غامرتُ بغية دفع المجتمع إلى الفوضى، فلستُ إلا لصا ومثقفا خبيثا”..نسيم يسخر من المثقف الذي يؤثر السلامة ويتجنب المخاطرة:” عندما نتكلم عن المخاطرة فالمصطلحان الجوهريان عندي هما الشجاعة والعدالة، وهو ما أطلق عليه التناسق “.. يعيب على النخبة انها تتخذ قراراتها المصيرية من خارج حلبة المشكلة:” جميعهم يتداولون أمورنا في غرف مبردة ومريحة، وهم يعرفون سلفا أنهم لا يغامرون بأنفسهم إذا ما خابت حساباتهم. فقرار الحرب يتخذ في غرف مغلقة، والقادة يديرونها وهم في مكاتبهم، بينما يموت الجنود الصغار الذين لا يملكون أي سلطة، فيما أصحاب الرتب لا يخسرون حياتهم ولا يصابون مهما كانت النتائج. وذات يوم كان من يتخذ قرار الحرب يخرج على رأس الجيش ويسير في مقدمة المقاتلين وهم يعرفون أنه أكثرهم تحملا للتبعات ”.

ولد نسيم نقولا نجيب طالب في بلدة أميون التي تقع في الشمال من بيروت في التاسع من آب عام 1960، لاب طبيب متخصص في علم الاورام، لكنه في الوقت نفسه قرر ان يبحث في علم طبائع الانسان، أما الام فقد تفرغت لتربية الاولاد والقراءة، اقنعت ابنها ان عليه ان يكافح لينال الشهرة، حصلت العائلة على الجنسية الفرنسية، درس نسيم الابتدائية والاعدادية في بيروت، الام والاب ينتميان الى واحدة من العوائل المشهورة في المجتمع اللبناني، جد امه كان نائبا لرئيس الوزراء، فيما احد اجداده تولى منصب حاكم جبل لبنان عام 1861، حصل على البكالوريوس والماجستير من فرنسا، درس إدارة الاعمال في جامعة بنسلفانيا، يتقن اكثر من خمس لغات، ويجيد قراءة النصوص الاغريقية القديمة بلغتها..تخصص في الاقتصاد ونظرية المعرفة.

يلخص في كتابه الشهير ” البجعة السوداء ” الصادر عام 2007 ” المشكلة الرئيسية التي تواجه الانسان انه يرفض مواجهة ليحدث الذي يحدث ضد كل التوقعات.. وهو يؤكد ان تاريخنا اصبح قصة الاحداث الكبيرة التي لم يتوقعها اي شخص. لم يتنبأ اي شخص بخطورة الحرب العالمية الاولى، وسطوع نجم هتلر، والانهيار المفاجيء للاتحاد السوفيتي. وانتشار الانترنيت. لا احد يتنبأ بافكار معينة.. ويؤكد نسيم اننا نعيش وفقا لقواعد ما نعتبره عاديا، لكن من النادر ان يكون الشيء العادي اختباراً لأي شيء ضخم بشكل غير عقلاني، نكون متحمسين للتقليل من ندرته وعدم امكانية توقعه. ونريد ان نكون قادرين على تفسيره.

ولتوضيح فكرته حول الاحداث الهائلة، يطلب نسيم من القراء ان يتخيلوا ديكا في مزرعة، يبدو المزارع لطيفا جدا بالنسبة للديك طالما انه يزوده يوميا بالطعام والامان. لكن تجربة الديك تظل ناقصة ومظلله تماما لان يوم الذبح غير المتوقع ابدا قادم لامحالة. والمعنى هو انه على الرغم مما قيل لنا، لا يخبرنا الماضي باي شيء عن المستقبل.. ويستعير نسيم طالب العبارة التي قالها القبطان البحري ” جون سميث ” عام 1907:” انا لم ار حطاما ولم تتحطم سفينتي يوما ولا تعرضت يوما لمأزق يهدد بنهاية سيئة ”، وبعد خمس سنوات كانت سفينة تايتانيك في رحلتها واخر رحلاتها تحت قيادته.

في شقته بنيويورك حيث يتابع نسيم نقولا طالب ما فعله فايروس كورونا في العالم، تصفه مجلة لوبوان الفرنسية التي اجرت الحوار معه في شهر نيسان الماضي، بانه تماما مثل شخصيات نيتشه، يقول لمراسل المجلة إن:” مقياس نجاحي الوحيد هو مقدار الوقت الذي يجب عليك قتله”، ويضيف انا رجل تجريبي مقاوم للغباء، وهو يسخر من المجتمعات الحديثة: ” لقد خلقنا شباباً بدون بطولة، وعمراً بلا حكمة، وحياة بلا عظمة”.. ويرفض نسيم طالب القول ان فايروس كورونا مثل ” بجعة سوداء ” لم يكن متوقعا يجيب:” كان هذا الفيروس متوقعًا، إذا نظر المرء تمامًا إلى عواقب العولمة، ويضيف:” لكن لا يوجد ما نخشاه من العولمة طالما أننا نعرف الآثار الجانبية. المشكلة هي أن الناس ينظرون إلى الأشياء بدون آثار جانبية، وهذا الفيروس هو الأثر الجانبي للعولمة ”.

يؤكد نسيم طالب ان الناس إذا أصيبوا بالذعر بشكل خاطئ، فإن التكاليف منخفضة. على العكس من ذلك، إذا كنت لا تشعر بالذعر عندما يجب عليك، فأنت ميت.. ويشير الى أن هناك فرصة هناك فرصة جيدة لأن ينتهي هذا المرض مثل السارس، ولكن هناك خطر ضئيل بأن ينتهي به الأمر بشكل مختلف. وهناك مخاطر لا يجب أن تتحملها..ولهذا يرى نسيم ان نظام الاحتواء هو الجواب الصحيح. وبعد الوباء، سيتعين علينا العودة إلى نظام لامركزي، حيث يتخذ الناس القرارات محليًا.. صاحب البجعة السوداء و ” سرير بروكست ” يقول ان العولمة غير المشروطة كانت جزءا من المشكلة، وفي مقال كتبه بطلب من البيت الابيض اشار نسيم طالب الى ان العولمة كانت مسؤولة عن عدد كبير التهديدات التي تعرضت لها البشرية عبر عصورها، ويضرب مثلا بالطاعون الأسود الذي ظهر في عام 1348، انتشر عبر طرق الحرير، بعد أن نقله التجار الذين كانوا ينتقلون بسرعة 30 كلم يوميا قبل ان يصل إلى أوروبا. وحول الاجراءات التي تتخذها الحكومات مثل العزل الاجتماعي يكتب نسيم طالب:” اننا في حاجة الى سلطة تمارس على صعيد ضيّق، لهذا السبب أعتقد أن التحرر يقود الى المحلية أو الاقليمية أكثر، وألاحظ أن النظام العصري الديموقراطي يسير بشكل سيئ ما عدا في بعض الأصعدة الضيقة، فحين تكون مدينة لامركزية فهي تستطيع أن تقرر إغلاق أبوابها مثلما قامت به بعض الحكومات الايطالية في القرن الرابع عشر، فالمحلية والإقليمية تعطي حلولا ديموقراطية مع السماح باتخاذ قرار مشترك”. والبديل في مثل هذه الأزمات وفق نسيم طالب هو حكومة مثل الحكومة الصينية، التي تملك سلطة إغلاق الأبواب في أي لحظة والقيام بما قام به الصينيون خلال ازمة كورونا، بما في ذلك بناء مستشفى في عشرة ايام. ففي فرنسا على سبيل المثال يحتاج اتخاذ قرار لتشييد أي بناية عشرة أيام من الاجتماعات وعليه فان الديموقراطية لا تعمل على صعيد أكبر.

وذكر طالب أن هناك من سخر من اقتراحات العزل والإجراءات التي طالب باتخاذها عندما كتب تصوراته عن فايروس كورونا، حيث اعتبرها البعض مبالغا فيها جدا، لكن عدد المصابين تضاعف وهو ما لم يحدث بالنسبة لإيبولا ولا سارس. وفي مقالتة اعتبر نسيم طالب أن فايروس كورونا ليس “بجعة سوداء” بل “بجعة بيضاء”، فهو حدث متوقع وكان يفترض ألا يفاجئ الدول في أي ظرف من الظروف “كانت حكومة سنغافورة التي قدّمنا لها التوصيات في الماضي مستعدة لمواجهة هذا الاحتمال، فوضعت خطة محددة منذ بداية العام 2010. ويضرب مثلا بكوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ… بينما يصف طريقة تعامل ألمانيا وهولندا وبعض دول اوربا مع الأزمة الراهنة بانها “غبية” في طبيعة استجابتها لفيروس كورونا انها سمحت لنفسها بأن تتفاجأ بأحداث متوقعة.

ويشير نسيم طالب الى ما ما سبق ان اعلنه خبير الأمراض المعدية ديدييه راوولت عام 2003، حين وصف الفيروسات الناشئة كجزءٍ من التهديدات التي تزيد أعباء مجتمعاتنا. كما يشير نسيم الى التقارير التي نشرها خبراء الصحة في فرنسا عام 2019 والتي تطرقت إلى مخاطر انتشار أوبئة الإنفلونزا وأوصوا بكل وضوح بتحضير حزمة من التدابير الطبية المضادة. ويؤكد ان التقارير اكدت الى ان: “في حال انتشار وباء من أي نوع، ستتضخّم الحاجة إلى أقنعة الوجه ”

يطرح نسيم طالب كعادته سؤال مهم: لم علينا الامتناع عن الإصغاء إلى الذين يتكلمون بدل أن يفعلوا؟ وهو يقول ان الجواب في جميع الأحوال يجب ان يكون واحداً: لأن الذين يديرون العالم لا يغامرون بحياتهم.

في كتابة ” البجعة السوداء ” يكتب نسيم طالب:” اننا نعيش وفقا لقاعدة ما نعتبره عاديا، لكن من النادر ان يكون الشيء العادي اختبارا لأي شيء. وعندما يحدث شيء ضخم بشكل غير عقلاني، نكون متحمسين للتقليل من ندرته وعدم امكانية توقعه ونريد ان نكون قادرين على تفسيره ”.

حقق كتاب البجعة السوداء شهرة كبيرة وبيع اكثر من ثلاثة ملايين نسخة وترجم الى اكثر من اربعين لغة بينها العربية، لانه تنبأ بازمة عام 2008 المالية، عندما كتب عن هشاشة البنوك الكبيرة مفترضا ان انهيار واحد منها فقد تنهار كلها لان احدها مرتبط بالاخر بشكل وثيق. يختتم نسيم طالب المقابلة الصحفية بعبارة ” نحن نعيش في عالم هش للغاية ”.