مذكرات الجنرال طاوزند..احتلال البصرة والعمارة وكوت الإمارة..سنحتل العراق أغنى منابت القمح في الدنيا !

مذكرات الجنرال طاوزند..احتلال البصرة والعمارة وكوت الإمارة..سنحتل العراق أغنى منابت القمح في الدنيا !

بقلم - إيمان البستاني

يفتتح الجنرال البريطاني المسمى عند الاتراك بطاوزند و هو تحريف لأسمه الحقيقي (شارلز ڤير فريزر تاونسند) مذكراته العسكرية اليومية في العراق بالعديد من المصطلحات القتالية و العسكرية استنبطها من تاريخ نابليون الكبير في حل كل معضلة من معضلات التعبئة وسوق الجيش يعضدها سرد كثير من الامثلة والتطبيقات عن المعارك التي شهدتها القارة الاوربية وخاضتها الجيوش الغربية الحديثة واسباب إخفاقاتهم او نصرهم،

ما ان تمر عليها حتى يصبح لديك مفهومًا ما يشير اليه طاوزند في ثنايا الكتاب الضخم ذو (٦٥٠) صفحة الصادر من منشورات الدار العربية للموسوعات لعام ٢٠١٩ تتصدره كلمة الناشر و مقدمة اللواء الركن (حامد احمد الورد) تليها مقدمة الجنرال طاوزند كتبها بتاريخ ٦ / آب ١٩١٩.

تاونسند او طاوزند ضابط بريطاني نشأ فقيرًا ابن لموظف سكك حديدية، جد والده هو المشير (جورج تاونسند) سليل التاريخ العسكري المشّرف، تخرج من الكلية الملكية العسكرية في (ساندهيرست) وحصل على منصب ضابط في قوات المشاة البحرية الملكية في عام ١٨٨١م ، كان معر من احتلت الفاو بعد ان وصلت للبر وغرق الكثير من جنودها جراء شحة القوارب، مع اول هجوم لقوات باريت انسحبوا الاتراك من البصرة ودخلها (باريت) مستخدمًا قوارب تعود ملكيتها للأهالي وبعدها زحف للقرنة شمالًا اهم المواقع الحربية في العراق وتبعد (٤٠) ميلًا شمال البصرة.

وفًا في شبابه بأنه رجل مولعًا بالنساء يمتاز بجمال مظهره وكان معروفًا أيضاً بأسلوبه المسرحي، اول معركة له واول مرة قتل فيها رجلًا كانت (معركة ابو كليع) في ١٨٨٥ في السودان، يصفه زملائه بأنه متغطرس ومندفع وطموحه لا حد له بالرغم من شجاعته البدنية لكنه لا يواجه خصومه، اما المؤرخ البريطاني (جيفري ريجان) فقد قال عنه بأنه ضابط شاب ذكائه وقدراته العالية بسبب هوسه الأناني.

بعد السودان خدم في شمال باكستان ثم انتقل الى الجيش البريطاني المصري وعاد يحارب في (أم درمان) ثانية كما خدم في جنوب افريقيا ثم أصبح ملحقًا عسكريًا في باريس وكان شغوفًا بها لغةً و بلدًا، كان يتحدث اللغة الفرنسية بطلاقة وقد تزوج بعد قصة حب نشأت في القاهرة بمصر جمعته بابنة (لويس رافائيل كاهين) ثري يهودي فرنسي يعمل في مجال المصارف سانده في قضية استرجاع قصره في نورفولك، ولزوجة طاوزند (أليس) لوحة بورتريه شهيرة لها ولشقيقتها وهما بعمر الطفولة رسمها الرسام الفرنسي الشهير (رينوار) عنوانها (ازرق و وردي) اشارة الى لون ثيابهما، وقد رزقا طاوزند وأليس بابنة واحدة انجبت له حفيد اشتغل في الصحافة.

تبوأ طاوزند منصب مساعد القائد العام للفرقة التاسعة في الهند و قائد مستعمرة (نهر اورانج) في جنوب افريقيا ومن رتبة عميد الى لواء تم تعيينه في قيادة الفرقة الهندية السادسة وكانت قوة عسكرية كبيرة واحدة من أفضل الوحدات العسكرية للجيش الهندي رغم أنها كانت غير مجهزة وفقًا لمعايير الجيش البريطاني النظامي و تلك القوة تم ارسالها للعراق لإحتلاله.

عندما توجهت بريطانيا للعراق اعتاب سنة ١٩١٤ بعثت بقادتها العسكريين وجنودها من الهند من بومبي و كراجي وارسلتهم على متن بواخر بريد ينقصهم العتاد والذخيرة، ارتكبوا اخطاء لا تغتفر حسب اعترافاتهم، لكن الحظ وحده شفع لهم ونزلوا في (الفاو) تلك البقعة جليلة الشأن عسكريًا وكان اول المحتلين القائد (باريت) مع الفرقة السادسة المسماة (فرقة بونة) هي

ولاعتلال صحة (باريت) تم استبداله بالجنرال (طاوزند) صاحب المذكرات وفيها يذكر انه تسلم برقية من وزير الحربية في نيسان /١٩١٥ للالتحاق بالحملة البريطانية على العراق، تحرك طاوزند من كراجي بحرًا واستغرقت رحلته (٥) ايام على متن باخرة بريد اسمها (دّوراكة) وهو على سطحها كتب:” سنحتل العراق أغنى منابت القمح في الدنيا “ وصل البصرة ظهرًا يوم ٢٣ نيسان وكان الحر شديدًا يقول:”وجدت البصرة اكثر حرارةً من الكويت ! «.

نزل طاوزند في البصرة في دار تم تخصيصها له عائدة لتاجر يوناني أسمه (المستر انتيباس) وصفه بأنه رجل في غاية اللطف والكرم، اما اركان جيشه فنزلوا في المنزل المجاور لمنزله على ضفة العشار. توجه طاوزند ما ان استقر في البصرة الى (السير جون نيكسون) قائد الحملة العراقية في دار القنصلية البريطانية وأبلغه بمهامه في احتلال القرنة والعمارة.

طاوزند واجه منذ البداية مشكلة الاقتصاد في القوات وقال لو كان نابليون مكاني لخسر الحرب حتمًا !. كانت كل قوته الحربية لا تتعدى ١٠ آلاف مقاتل بكافة صنوفهم، في البصرة استخدم طاوزند (البلام) وهي قوارب عراقية صغيرة ذات مجاذيف واتفقوا على تصفيحها بأتراس وكان دجلة مائه قد بدأ في الازدياد، النهر الذي وقف ضد الانكليز في حملتهم، ينخفض منسوب مياهه فيجعل سير سفنهم صعبًا و يفيض فيصبح حال جنودهم أصعب لغرق خنادقهم، قال عنه طاوزند:” لم اخل ان في الدنيا نهرًا يضاهي نهر دجلة في تمعجاته».

المعضلة الاخرى كان التصيد جاريًا في الليل اذ كان العراقيون يدنون من معسكر الانكليز ويطلقون النار عليهم، الضابط البريطاني الذي تم تكليفه بالتنسيق بين الانكليز والعشائر العراقية هو (ليجمان) ذاته الذي قُتل لاحقًا على يد الشيخ ضاري المحمود وكان اول لقائه بطاوزند مهمته بإن يطوف بين شيوخ شمر وعنزة و رجع بيقين ان ولاء القبائل سيكون للترك.

صيف العراق و ما أدراك به، فقد وصفه طاوزند:” حر العراق مرعب ولا صفة لدي غير هذه أصف بها ! “ وكان السبب في اصابة الكثيرين بالرعن (ضربة شمس) حيث كانت تمتلأ مستشفيات البصرة و بومبي بهم، و لا ننسى عدواً أخر هو شر الالغام التي بلغهم ان الاتراك يبثوها في النهر، كما ان الاتراك قد منحتهم الطبيعة سيقاناً قوية في المشي ولا يجاريهم اي جندي في العالم اذا كانوا معتصمين في الخنادق على حد وصف طاوزند.

اما الجنود الهنود في القوات البريطانية فقد وقعوا في منتصف لعبة الحرب، الهنود من المسلمين كانوا ينحازون للجنود الترك وكثير منهم كانوا يهربون وسط المعركة ويلجأون للقوات التركية اذا حالفهم الحظ في الوصول احياء دون تلقي رصاصة من الخلف لمنعهم، والسيخ والهندوس كانت معاناتهم اكبر حين حل الحصار في كوت الامارة وصار الجوع سيداً اجبر الجميع على اكل لحوم الخيل وهذا ما يأنفه الهندي مما اضطر طاوزند لطلب فتاوي من زعمائهم الدينيين تبيح لهم كاستثناءات حرب من اكل لحوم الخيل والبغال لكون عقوبة ذلك هو ما يلقاه الجندي عند عودته لقريته حيث لا احد يتزوج من بناته ولا يحسب له حساب إن تجاوز على عقائده او تقاليده.

وصل (قلعة صالح) وكانت بحجم (القرنة) جاء شيخها الى باخرة طاوزند (كومت) وأمره طاوزند ان يعد له ولجيشه ارزاقاً تكفي خمسة عشر الف جندي وسيدفع له ثمنها، و قد قام طاوزند بهذه الخدعة في المبالغة بعدد قواته لإخافة خصمه بناء على ما يعلمه من امر العرب اذ لابد انهم سيبلغون الترك ما طلبه منهم حتى لو ارسلوا رسول على ظهر بعير !.

صباح ٣ حزيران١٩١٥ فجرًا وصلت قوات طاوزند (السدرة) وهي على بعد اثني عشر ميلًا من العمارة وارتأى ان ينتظر لأنه من المحتمل ان يدافع الترك عن البلدة، لكنه تقدم بعد تريث ساعة على ان يجرب حظه فدخل العمارة ظهرًا، وصل قبالة دائرة (الجمرك) فأتى الى مركبه (حليم بك) قائد القوة التركية في وقعة القرنة و (عاصم بك) متصرف العمارة و ثلاثة او اربعة زعماء معهم ثلاثون او اربعون ضابطًا ليسلموا انفسهم، ولم يكن مع طاوزند سوى خمسة و عشرين ملاحًا و جنديًا بريطانياً!.

مثّل طاوزند دورًا مع متصرف العمارة لإيهام الترك بقوته وإخفاء ضعفه فطلب منه ارزاقاً لقوة مؤلفة من خمسة عشر الف جندي ستصل العمارة بعد وقت قصير، فأجاب ان لديه كميات كبيرة من (البسكويت) فقبل (البسكويت) متذمراً ! ولكنه الح عليه بجمع الأغنام للجيش بلا امهال !.

في صباح اليوم التالي استولى العرب القاطنون بلدة العمارة على منازل الضباط الاتراك و مستودعات الطعام ثم شرعوا في نهب المستشفى الكبير وكانوا يبدون كالنمل حاملين الأثاث والطنافس والاسرة والاحرامات عندها أمر طاوزند بإطلاق النار فسقط منهم اربعة او خمسة اشخاص فهدأت الامور على ساحل النهر لكن صوت اطلاق النار اشتد داخل المدينة و سرعان ما علم العرب ان عدد قوات طاوزند قليلة وهو بالكاد لا يتمكن من انزال جندي الى البر لاسيما و معه سبعمائة او ثمانمائة اسير يتحتم عليه حراستهم وهو على هذا الاحراج وصل الفريق نيكسون واركان حرب المقر وبهذا كُتب لطاوزند النصر من غير خسارة ولو تأخر نكسون ساعتين لأنقض الاتراك عليهم.

كان نورالدين بك القائد التركي الجديد قد وصل قادمًا من الإستانة وشاع انه قائد عصري ومهما بلغت مقدرته على القيادة لن يستطع القيام بهجوم قرب العمارة بالقوات المتيسرة له. كان عرب العمارة يضمرون العداء للأنكليز والمسالمة للترك لذا لم يستحسن طاوزند سكن جنوده في شوارع البلدة وأزقتها الضيقة. طلب ارزاقاً احتياطية لمدة ستة اشهر لخزنها في العمارة وعتاد ومدافع وبنادق، اذا زحف نورالدين و طاوزند في العمارة عليه لابد من القيام بالتعرض له على مسيرة يوم منه، فكان عليه المدافعة عن العمارة بقوته الصغرى على ضفة النهر بينما قوته الكبرى تتولى الهجوم على فرقة نورالدين بك. نالت هذه الخطة موافقة نيكسون قائد الحملة العراقية ماعدا ان له رأيًا في ان القوة الصغيرة في العمارة محتمل ان تنال أذى البلدة وساكنيها، و موضع القوة الكبرى ارتأى ان تكون في الأبنية وليس الخيام، والأرزاق يتم طلبها لمدة ستة اسابيع ليس اكثر على ان تعاود الطلب ان لزم الأمر.

عاد نيكسون للبصرة لغرض دراسة واعداد المعدات للاستيلاء على الناصرية، خرج طاوزند بسفرة استكشاف على مسافة ٤٠ ميلًا في دجلة شمال العمارة فرجع مصابًا بضربة شمس وحمى فتم نقله الى البصرة لإنه لم يكن يومها في العمارة ثلج، تم إرساله الى مركب مستشفى في بومبي لمدة شهر وكان في حالة إعياء وبينه وبين الموت قيد شعرة وتولى الطبيب (سيمنز) من اطباء الجيش الهندي امر العناية به.

عاد للبصرة بعد شفائه في الأسبوع الأول من شهر آب حيث التقى نيكسون وتباحث معه أمر الزحف على كوت الإمارة، لم يكن احتلال بغداد خياراً مطروحًا لوضع القوات البريطانية التي كانت تعاني من شحة في العدد والعتاد. لكن كوت الإمارة كان هو القرار الذي يُنتظر الموافقة عليه تصل من انكلترا لكي يُنفذ، قال طاوزند لنيكسون: “ انا اتكفل بقهر نورالدين المتحصن في موضع يستر كوت الإمارة واهزمه الى دجلة لكن لا تصدر اوامرك لي بالزحف على بغداد بهذه القوة المتيسرة لي “ رد القائد العام بأنه لن يزحف من كوت الإمارة قيد عقدة ما لم يوضع تحت إمرته القوة الكافية.

استولى (غورنج) على الناصرية في ٢٤ تموز ١٩١٥بعد مقاومة عنيفة لقيها من الترك مدة اسبوع فتراجعت معظم قوات الترك شمالًا وانضمت الى قوات نورالدين في كوت الإمارة حيث تحصن في موضع (السن) على كلتا ضفتي دجلة على مسافة ٨ أميال شرق كوت الإمارة وهناك اخبار من ان الترك يسعون لسد النهر وكانت تحت إمرة نورالدين ثلاث فرق. كان لدى الترك أيضًا في خانقين خمسة أفواج يتألف كل فوج منها من ستمائة جندي ومن المتوقع ان تنضم لقوات نورالدين، كانوا الترك منهمكين في تحصين طيسفون (سلمان باك) للدفاع عن بغداد وقد تركوا مفرزة جنوب موضع (السن) في محل يدعى (الشيخ سعد).

وصلت يوم ٢٣ آب ١٩١٥ برقية من البصرة مفادها آن الأوان لشن الهجوم و دحر قوات نورالدين واحتلال كوت الامارة وقد وضعت تحت إمرة طاوزند الفرقة السادسة بكتيبة الرماح ولواء المدفعية مع مدافع و ثلاث مراكب بحرية وطائرتان وجهاز تلغراف لاسلكي نقال.

عزم طاوزند على الهجوم على قوات نورالدين في موضع (السن) يوم ٢٧ ايلول ١٩١٥بعد وضع خطة عسكرية للالتفاف عليه وسيحضر المعركة السير جون نيكسون بنفسه، دارت رحى الحرب بين الطرفين مع بعض سوء الحظ في تلكأ قوات طاوزند للالتفاف لكنها انتهت بالفوز و خسر الترك ١٧٠٠ رجلًا بين قتيل وجريح واخذ ١٧ مدفعًا وأسر ١٢٨٩ أسيرًا تركيًا، اما الانكليز كانت خسارتهم ١٢٢٩ رجلًا و كثير من الجنود تم ارسالهم للمستشفيات بسبب الحر وملوحة الماء.

أمر طاوزند اللواء (ديلامين) لإحتلال بلدة الكوت وأمر اللواء (هوتن) بالعسكرة على ضفة النهر بجوار العطفة جنوب (تل السرج) لنقل الجرحى و جمع الأسلحة، على ان يطارد طاوزند بقايا قوات نورالدين وإبعادهم عن النهر لتكون هزيمتهم مختلة النظام فلا يستطيعون تجميع قواتهم في موقع طيسفون (سلمان باك) ولأصبح أمر احتلال بغداد يسيرًا.

٣ تشرين اول /١٩١٥ وصل طاوزند (العزيزية) وهي قرية صغيرة واقعة على ضفة دجلة اليسرى على مسافة ٦٠ ميلًا شمال كوت الامارة وفيها مركز تلغراف، تلقى طاوزند تقريرًا رفعه المقدم (ريلي) في الاستكشاف الجوي ان الترك يستجمعون قواتهم قرب طيسفون (سلمان باك) وهو موقع هائل محصن بالخنادق وهناك ثلاث بواخر مع ست معونات حديدية وكثير من الجند ومخازن المدخرات.

كانت فرقتين أحداهما لطاوزند مكلفة بمقاتلة العدو والاخرى بقيادة (غورنج) موكل إليها أمر المحافظة على خط المواصلات من البحر الى الكوت لذا لا قوة تعاضده في معاركه اذا تمكن العدو من صد طاوزند.

كان الرأي هو عدم مطاردة العدو وإنزال القوات في العزيزية وإبلاغ نيكسون بالأمر ببرقية ارسلت بالتلغراف خوفًا من ان تقع في يد العدو. تلقى طاوزند برقية من رئيس اركان الجيش وفيها (ان جميع الامور تقضي بأن تطرد الترك من موقع طيسفون(سلمان باك) ومن المرجو ان تجمع قوتك في مكان واحد هو العزيزية). فهم طاوزند رغبة نيكسون بإحتلال بغداد بالقوة المتوفرة لديه رغم كل المراسلات والجدال حول مسألة تعزيز القوات قبل بدء بالحملة.

يتبع الجزء الثاني