من ذكريات مدينة النجف في ثلاثينيات القرن الماضي

من ذكريات مدينة النجف في ثلاثينيات القرن الماضي

جعفر الخياط

في 1937 زارت النجف الكاتبة الإنكليزية القديرة، والموظفة في الاستخبارات البريطانية، المس (فرايا ستارك) وبقيت فيها اسبوعاً واحداً ضيفاً على القائمقام الذي أنزلها في جناح الضيافة الموجود في نادي الموظفين. وقد كتبت فصلا خاصاً عن النجف ضمنته ملاحظاتها عنها في كتابها الموسوم (صور بغدادية).

وتبدأ ملاحظاتها بما شاهدته في الكوفة. فهي تستهل الفصل بوصف جلسة مسائية على شاطىء الفرات، مع رئيس البلدية وسبعة من «الأفندية». وكان ذلك في أوائل ربيع الأول بعد أن انتهى صفر، الشهر الثاني من شهري الحزن المعتادين في كلّ سنة، ولذلك تقول إنها شاهدت وهي جالسة من بعيد شعلات من النار طافية في النهر، وقد كانت تنساب منحدرة مع تياره حتى تختفي. وترمى هذه في النهر في نهاية موسم العزاء (نهاية شهر صفر) لتأخذ معها أحزان السنة وتفرج الكربة عن الناس. وهذه على ما تقول عادة قديمة ترجع بقدمها إلى تاريخ هذه البلاد العريق في القدم. ثم تشير بالمناسبة إلى أن «الأفندية» الذين شاهدوا معها النار الطافية، لمحوا هلال الشهر الجديد (هلال ربيع الأول) وأخذ كلّ منهم يتمنى الخير والموفقية لصاحبه من دون أن يشعروا بأن ما فعلوه يعتبر من قبيل عبادة القمر أو التبرك به. وليس من المستغرب أن يحصل مثل هذا، فتبقى هذه الوثنية، في بلاد لا تبعد كثيراً عن قبر «الكفل» و «برج بابل» اللذين يدلان على ذلك العالم الغابر.

ولكن المرء حينما يعبر جسر الكوفة المستند على الزوارق ينتقل من العالم البابلي إلى عالم الإسلام على حد تعبيرها. وهي ترى ان الحيرة توجد مدفونة تحت الرمال ما بين النجف والكوفة، وان التلال الرملية المحيطة بالكوفة تحوي في باطنها خرائب كوفة العرب الفاتحين الاُولى. وبعد أن تشير (فرايا ستارك) إلى جامع الكوفة الكبير وغيره من عالم البلد تقول ان (قصر الإمارة) هدمه عبدالملك بن مروان الأموي، لأنه بينما كان جالساً فيه ذات يوم سمع عجوزاً من الأعراب يقول «ستكون الخامس». وحينما سأل عما كان يقوله هذا أجابه يقول: «عندما جئت لأول مرة إلى الكوفة رأيت رأس الحسين (عليه السلام) بين يدي قاتله عبيدالله هنا. فذهبت وعدت ثانية إليها بعد مدة فشاهدت رأس عبيدالله في نفس المكان بين يدي المختار بن يوسف الذي قتله. وبعد أن خرجت منها وعدت مرة اُخرى ألفيت رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير. ثم ذهبت فعدت هذه المرة، وها إني أرى الآن بين يديك رأس مصعب». ولذلك خرج عبدالملك من الكوفة وأمر بهدم قصر الإمارة الذي تشاهد خرائبه الآن بجنب دار الإمام (عليه السلام).

وقد كان الإمام عليّ هنا يعمل للخير ويتمسك بالاُمور المثلى على حد تعبيرها، فأفنى نفسه وهو مريض الفؤاد ما بين أهل الكوفة المتلونين. وعلى مسافة غير بعيدة من هذه البقعة جعجع ابنه الحسين إلى جهة البادية وظل يتجول حتى نزل في كربلا، فقتل قتلة فظيعة مع أهل بيته بعد أن منع عنهم الماء. وقصة قتله هذه من القصص القليلة التي تقول (فرايا ستارك) إنها لا تستطيع قراءتها من دون أن ينتابها البكاء. وتقول أيضاً ان التاريخ قد توقف في كربلا والنجف منذ يوم مقتله ذاك، لأن الناس أخذوا يعيشون فيهما على ذكرى الكراهية لأعداء الحسين.

وقد أخذت النجف محل الكوفة، على ماترى. ومع ان سكانها قد استقروا وتمدنوا فإنها لا تزال تعد من مدن البادية، المحاطة بسور خاص ترتفع هي في داخله فوق هضبة واطئة من الأرض كأنها تاج يعلوه ذهب القبة المتلألىء. وما زال بدة عنزة وشمر يقصدونها من رمال النفوذ البعيدة للتزود منها، بينما تسلك السيارات الطريق الممتدة منها إلى مكة، وهي طريق الحج المسماة بإسم زبيدة ويرتفع (بفرايا ستارك) الخيال فيخترق نظرها الاُفق البعيد مع الطريق التي تتضح معالمها لعيون الايمان على حد تعبيرها، ولذلك نجدها تقول ان المرء لا يسعه سوى أن ينحني خاشعاً أمام زهد الإنسان وورعه وتعجب كيف ان الساسة الانكليز يعتقدون بأنهم يستطيعون السيطرة على قلوب الناس بالوسائل المادية وحدها.

وقد دبر القائمقام لها مواجهة العلاّمة الأكبر الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء، الذي كان آباؤه لخمسة أظهر من زعماء الدين ولما كانت زيارتها للشيخ وهي امرأة شيئاً يلفت النظر، فقد دبرت الزيارة في أقل الأوقات تعرضاً لأنظار الناس. فجاء الشيخ هادي، نسّاخ الكتب، ليلقي نظرة عليها أولا، وبعد أن بعث أخباراً مناسبة عنها قادها مع خادمها خلال طرق ودرابين متعرجة إلى دار غير كبيرة يعيش فيها الشيخ مع أهله عيشة بسيطة كما كان يعيش المسلمون الأقدمون من قبل. وبعد أن تأتي على وصف الشيخ ـ الذي كانت لحيته مخضبة بالحناء ـ ووقاره وذكائه تقول إنها فهمت من حديثها معه بأنه كان يعرف (المس بيل) والسر (بيرسي كوكس)، ويعتبر الذين جاءوا بعدهما من الانكليز أقل منهما شخصية وقدراً. وحينما تطرق إلى الحديث معها عن العالم الشرقي، أخبرها برأيه عن بريطانيا والإسلام بقوله «إنه لا يوجد الآن بيننا وبين الانكليز سوى الصداقة لولا الأخطاء التي ارتكبت ضد إخواننا العرب في فلسطين. وما زالت هذه الظلامة موجودة فإننا لا يمكن أن تحل المحبة ولا السلام بيننا من البحر المتوسط إلى الهند. وآمل أن تبيني هذا إلى حكومتك، وتقولي لهم ان ما يلعبون به هناك هو ليس أراضي فلسطين وحدها، وإنما يلعبون بالعالم الإسلامي كله الذي يقدر بنصف امبراطوريتهم ويتشوقون إلى الابقاء على صداقته لهم». ولما كان رأيه هذا يتفق

تمام الاتفاق مع رأيها هي في هذه المسألة الدقيقة كان يسرها أن تعد الشيخ بأن تبذل جهدها في نقله أمانة إلى الجهات المختصة.

ثم زارت بعض المدارس، ومعالم البلدة الاُخرى، بما فيها (المغتسل) الذي كان يقوم بتغسيل الموتى فيه رجل واُخته بسعر زهيد للجثة الواحدة. وقد تجولت ما بين القبور في بعض الاُمسيات كذلك، وأمضت اُمسية واحدة منها في التفرج على ما يجري عند الباب الكبير المؤدي إلى الصحن فكانت من أجمل الاُمسيات التي قضتها في حياتها كلها. وكان ذلك من غرفة تعود للشرطة وتطل شبابيكها على باب الصحن وقسم من السوق. وبعد أن تصف ما شاهدته هناك وفي الداخل تقول إنها خرجت تقطع السوق الذي امتلأ بالأضوية، وهي تشعر بحبها للعالم بأجمعه. وبينما هي كذلك لاحظت في دكان بائع أحذية رجلا كان يرمقها بنظرات شزراء ممتلئة بالحقد والكراهية، فتأثرت أشد التأثر لأنها يحز في نفسها أن يكرهها أحد من دون سبب. وهي تقول: «ان ذلك الرجل لو كان بوسعه أن يخترق جسمها الانكليزي بنظره إلى أعماق قلبها لوجد ان ما كان يمتلىء به هو الاحترام الودي لعتبته المقدسة بالذات التي تعلو أرواح الناس كما تعلو قبة النجف المذهبة فوق اُفق البادية، فتجذبهم إليها من بعيد» وتنهي الفصل بوصف جماعة من فقراء الأفغان كانوا يعيشون على الكفاف، ويحصلون على قوتهم من حياكة بيوت الشعر، ثم ينتزع كلّ منهم فلساً واحداً من وارده الشحيح بين حين وآخر فيعطيه للانفاق على العتبة. وتعلق على ذلك بكل إكبار وإجلال قائلة: «من نكون نحن لننتقد عقيدة تعطي مثل هذا المقدار ياترى؟».

عن موسوعة العتبات المقدسة ــ قسم النجف ، ج