حنون مجيد ينسج شخصية روايته من ملامح صدام حسين..حيلة أدباء العراق في اللعب على النظام السابق روائياً

حنون مجيد ينسج شخصية روايته من ملامح صدام حسين..حيلة أدباء العراق في اللعب على النظام السابق روائياً

يوسف أبو الفوز

اذا سلمنا بحقيقة اختلاف الظروف المحيطة بحياة الكتاب العراقيين من كان داخل او خارج الوطن أيام صدام حسين، فاننا لا نسلم بتلك الفواصل القسرية التي تروم عزل الفئتين عن بعضهما البعض، والتقليل من قيمة ما قدمته كل فئة من ابداع، لم يخضع لرغبة الديكتاتور، بل امتاز بروح المقاومة، وادانة الديكتاتور ونظام حكمه، والأمثلة على ذلك عديدة، في داخل العراق وخارجه. وكلما امعنا في قراءة هذا الأدب ازددنا إحساسا بجرعة الشجاعة والتحدي، التي كان يمكن أن تودي بأصحابها.

إلى الشريحة الشجاعة من «مثقفي الداخل» ـ رغم التحفظ على التسمية ـ، ينتمي الكاتب العراقي حنون مجيد «مواليد 1939»، والذي نشر قصصه في العديد من الدوريات، وصدرت له عدة مجموعات قصصية. سنحاول هنا التوقف في قراءة لرواية الكاتب «المنعطف» التي صدرت عام 2002، في زمن نظام صدام حسين، في بغداد في طبعة خاصة، وزعت بشكل محدود. وكان يمكن لهذه الرواية ان تؤدي بكاتبها الى الموت لانها كانت صرخة حادة ضد الديكتاتورية. بعد سقوط نظام صدام حسين، وفي عام 2004، اعيد اصدار الرواية عن «دار الشؤون الثقافية» التابعة لوزارة الثقافة العراقية، وصار بإمكان الكثيرين الاطلاع عليها.

استلهام صدام روائياً

* حاول العديد من الكتاب العراقيين، استلهام شخصية صدام حسين في الرواية والقصص، وان اختلفت اساليب هذا الاستلهام. في المنفى، وبالاستفادة من فسحة الحرية الكبيرة المتوفرة، حاول ذلك سلام عبود («امير الاقحوان» اصدار 1996 مركز الحرف العربي/ السويد)، محمود سعيد(«الموت الجميل» 1998 دار المدى/دمشق)، وزهير الجزائري («حافات القيامة» 1998 دار المدى/ دمشق)، وهناك محاولات اخرى ربما اكثرها جدلا هي رواية «عالم صدام حسين» التي صدرت عن دار الجمل عام 2003، بقلم كاتب مجهول يتستر تحت اسم مهدي حيدر. ادباء المنفى كانوا يملكون ما يكفي من الشعور بالحرية لاستلهام شخصية صدام حسين، والتلميح الى طباعه والمآسي الناتجة عن سياسة نظامه بجرأة اكثر. الكاتب حنون مجيد، وهو يعيش وسط رعب امني حقيقي، واوضاع سياسية لم تعد خافية على احد، وينجز روايته في عام 2000، كما مثبت في الكتاب، لم يستطع الا الاستجابة الى شرط الكتابة الملتصقة بالهم الانساني والصدق الفني، فقدم لنا رواية تعد من اجرأ الروايات، التي سجلت لمرحلة وحقبة كارثية من تاريخ العراق، ولا تزال هذه الرواية وعند كل مراجعة لها تثير الاعجاب بشجاعة كاتبها. فرواية «المنعطف»، ورغم انها تقدم افكارها عبر موضوعة، سبق للعديد من الاعمال ان تناولتها، الا انها تنفرد بكونها تلامس الواقع العراقي، وفق بناء رمزي لا يبدو خافيا على القارىء الفطن.

تعالج الرواية بلغة جميلة، حكاية رحلة عربة وركابها «عشرون راكبا او يزيد» ص12 باتجاه مدينة تدعى «سرمارا» عبر طرق وعرة وثم التيه في الصحراء والمجهول. و«سرمارا تعني المدينة الكبيرة الواسعة، والشوارع المستقيمة الممتدة، كما لو بلا حدود، كما في الخيال، الحياة فيها امنة سعيدة... لا يحرسها حراس ولا ينام على عتبات بيوتها مشردون... انسانها نشيط والعمل فيها قائم ليل نهار، واجمل ما فيها شرفات بيوتها المشرعة للنور والهواء» ص 45.

ركاب العربة

* اذا القينا نظرة على ركاب العربة وجدنا انهم «من ذلك الأول على اليمين مقطوع اليد، وقد غاض في فراغها كتف جاره الذي اخترقت رصاصة جلدة رأسه بعد ان أكلت أعالي أذنه، إلى ذلك مقطوع الساق الذي يجلس في الصف الأمامي ويهمس بأذن جاره الذي بترت أصابع كفه اليسرى وأصيب في ذراعه اليمنى اصابة هشمت عظامها وأوهت حركتها، إلى ذلك الذي حاول أن يستغني عن العكازة بطرف صناعي بدائي الصنعة كانت تفضحه مشية مضطربة وعناء كلما اضطر إلى جلوس أو قيام والى أولاء أولئك ممن على يمين أو يسار وممن في وسط أو خلف، معوقي حرب مبتوري الأذرع والأصابع والسيقان. وعدا ذلك الذي انفجرت قريبا منه قنبلة أذهبت ببصره، فقد كان الجميع اسوياء السمع والبصر» ص22. هؤلاء الركاب المبتلون بالحروب، ليس امامهم من حل سوى المخاطرة في رحلة فرضت عليهم، مع سائق ومساعده، يبدوان مريبين، فمن اول الرحلة يضعنا الكاتب امام قلق ركاب العربة من السائق «أتراه جديرا بهذه المهمة وهذا الطريق؟».

ليس من صعوبة امام القارئ ليدرك عن اي بلاد يتحدث الكاتب، لأن التلميحات كثيرة، وتضع امامنا حجم المجازفة التي اقدم عليها الكاتب لطبع كتابه في عام 2002. ولا توجد صعوبة لفك رموز الرواية، فالعربة والطريق وسرمارا والركاب والسائق كلها تعيدنا الى العراق، البلد الذي ابتلي بالحروب والحصار وسلطة جائرة تتحكم بمصائر ابناء الشعب وتقودهم نحو المجهول.

السائق/ القائد الأرعن

* واذ نتفحص شخصية السائق، نجد انفسنا امام رجل متهور «هذا العملاق الرابض خلف مقود مطواع، رجل مجنون «ص 38، مغامر» اخي السائق... خفف من سرعتك فأنت تغامر بحياتنا «ص 30، كذوب» رجل مغامر كذوب «ص105، داعر» من خلال مرآته الطويلة المحدبة، بدا السائق يحاور بنظر داعر احدى ثلاث نساء جميلات هن ازواج ثلاثة ركاب «ص 23، وقح» نظرات السائق الوقحة المحمومة التي كانت تحوم حول نقطة محددة «ص 28، لا ابالي» ضحك مهموس يتأجج كل لحظة بين السائق ومساعده «ص 18، ومريب» معرفته برجل انشقت عنه ارض لا قرية عليها ولا بيت، فلقد ظل سرا فجر كوامن شكوكنا «ص 34. يقود السائق العربة بطريقة تثير الرعب في نفوس الركاب. في اول توقف للعربة عند مطعم على الطريق يهرب احد الركاب وزوجته الى سيارة ثانية تخلصا من تمادى السائق التحرش بالزوجة الجميلة، هذا الهروب الذي لاقى الاستحسان عند بعض الركاب. ثم فجأة يبادرهم السائق بقرار الانعطاف عن الطريق الاساس» لعل احدا منكم لا يستطيع تقدير المسافة الى سرمارا، وما يعترض الطريق اليها من مشاكل وصعوبات جمة، لذلك سوف ننعطف بكم نحو الصحراء... نحو عمق محدد منها لنقطع، من ثم، طريقا سهلا يفضي بنا بعد وقت قصير الى الشارع العام من جديد، بذلك اكون قد اختصرت لكم الوقت والطريق، وجنبتكم مواجهة متاعب اعرفها ولا تعرفونها «ص 51. هكذا صار السائق يتحكم بحياة ركاب العربة، وهو يقودهم الى طريق يعتبر نفسه عالما باسراره، فلم تكن النتيجة غير قيادتهم نحو المجهول. بعضهم لم يحتملوا هذا التهور في قيادة السيارة فاعترضوا بصوت عال ايها السائق لماذا السرعة الجنونية هذه انظر الى جانبيك وتبين شيئا من هناك». ابرز المعارضين للسائق رجل اعمى، ونجد هذا الاعمى هو الاعرف، من بين ركاب العربة، بتاريخ السائق، ويستدل عليه من صوته «اما زال صوت الصبي الذي كنته يرن في حنجرة الرجل الذي هو انا الان؟»، ولذا نرى الاعمى صار يشكل خطرا على افتضاح هوية السائق «فمنذ زمن ليس بقريب واسمه سعيد عبد الله، بعد ان غير اسمه واسم ابيه»، وفي اقرب فرصة سانحة، نجد السائق يغتال الرجل الاعمى محاولا طمس ما يعرفه عن تاريخه.

وبالرغم من ان موضوعة الرواية تقود لمقارنة وضع العربة التي يقودها سائق ارعن نحو المجهول، بوضع العراق، الا ان الكاتب وعند الحديث عن السائق، صفاته وتاريخه، وطباعه، نجده وبجرأة، ينثر العديد من التلميحات الى شخصية الديكتاتور صدام حسين نفسه. سواء من خلال انفراده بمصير ركاب العربة، او بما يعرفه الرجل البصير عن السائق المتهور، حيث يتساءل الرجل الاعمى: «ايمكن ان يكون هو؟»، فيخشى السائق ان يدرك الراكب حقيقته، «نعم، انا غريب الذي ليس ابنا لاحد». ونجد الكاتب يعمد ليس الى ادانة قيادة عربة نحو المجهول، في تيه الصحراء حيث الضباع والكواسر، بل والى حث القارئ للانتباه الى انه يتحدث عن نموذج محدد لسائق / قائد لا تزال الشكوك طرية وساخنة في الحديث عن نسبه وكونه لقيطا وليس ابنا لرجل محدد، والعراقيون يتداولون الكثير من القصص عن حقيقة شخصية والد صدام حسين وسلوك امه وحياتها، وعن تشرد صدام في طفولته قبل ان يتبناه خاله طلفاح والد زوجته «طفلا اشعث الشعر، رث الهيئة، ممزق الثياب، يتسكع في الازقة والطرقات، يعطف عليه المارة والجيران» ص 74. وحتى في الصفات الخارجية للسائق نجد الكاتب يشير الى «حين نهض من مقعده بدت قامته جلية على حقيقتها، قامة ممدودة للاعلى مثل نخلة ملفوفة بامعان تثير الهيبة والرعب، يغلفها الصمت الدؤوب بظلال تثقل النفس، ويتقدمها انف شامخ يميل قليلا الى الطول، لكنه غذي الوجه ببعض ملاحة تتعارض مع صورة العينين الذئبيتين» ص 32،وذلك في احالة لماحة الى شكل صدام حسين.

الضياع الذي وصل إليه الركاب لا يبدو لهم من صنع الغيب، بل من صنع ايديهم، هذا الامر يدعو للانتفاض، والتخلص من السائق، خصوصا بعد مقتل الرجل الاعمى، واصابع الاتهام كلها تشير الى السائق ومساعده، فيحتدم الغضب في النفوس للانتقام «الطريق اليه سهل... لا اسهل منه... وهؤلاء المساكين سيكونون الى جانبك، الابتر والاعرج والاعور... سينزعون قشرة الخوف، وسترى ما يمكن خلف ذلك من رجال».