حنون مجيد يكتب تاريخ العائلة

حنون مجيد يكتب تاريخ العائلة

هدية حسين

تاريخ مشحون بالتوترات يستعيده ويكتبه القاص حنون مجيد المتمرس، الذي لا يتجاوزه القارىء حين يريد قراءة القص العراقي منذ ستينيات القرن الماضي، إنه واحد من قلة قليلة من كتاب القصة العراقية الذين حافظوا على وهجها وتدفقها، ولا غرابة أن يغوص الكاتب في نفوس شخصياته، ويكشف دواخلها بهذا الإتقان، فهو الذي يحمل شهادة عليا في علم النفس جعلته لا يمر مروراً خاطفاً على الوجوه، أو يغفل تلك التفاصيل التي شكلت عالمهم، وظل وفياً للقصة القصيرة على الرغم من كتابته للرواية، وتعد روايته (المنعطف) إحدى أهم الروايات العراقية.

(تاريخ العائلة) مجموعة قصصية صدرت بطبعتين، الأولى عن دار الشؤون الثقافية ببغداد، والثانية عن دار فضاءات في عمان، تضم اثنتي عشرة قصة طويلة نوعاً ما، يتبع القاص فيها أحلام شخصياته التي تكسرت بفعل الزمن والشيخوخة وفقدان الحب، ويوثق لهم حياتهم قبل أن ينطفىء الضوء في عيونهم ويذهبوا الى عتمة النسيان.
قصة “ماسوف أفعله غداً” تتحدث عن رجل وحيد في الستين من العمر، يعيش على بقايا ذكرياته القديمة، يستعيد الأحداث التي مرت به وما صادفه في شوارع أحلامه وأزقة مدينته، ويفكر أن يكرر تلك الحياة بزيارة مدينته التي بعدت كثيراً في المسافة وفي الزمن، لكن العمر يغلبه على أمره، وهنا يقطع القاص سياق القصة ليأخذ كاتبها زمام الكلام عن الجدوى من كتابتها، ثم يقطعها ثانية تاركاً للبطل اعتراضه على المؤلف وكيف تجسس على أفعاله.. إنها قصة تأخذنا من خلال استعادة الذكريات الى بغداد القديمة بجانبيها الكرخ والرصافة، الى نهر دجلة وشارع غازي ومقهى الزهاوي وشارع الرشيد والباب المعظم وشارع النهر، ولكن من يعيد لهذا الرجل الوحيد اعتباره؟ وهي قصة مناجاة وحنين الى زمن مر وانقضى، ولم يعد غير الصمت هو الذي يسربل ما تبقى من أيام، وليس هناك ما يفعله هذا الرجل “غداً” سوى هذه الحفنة من أحلام اليقظة.
وهذا رجل آخر في قصة “هؤلاء من شباكه العالي” وحيد أيضاً، وكثير الوساوس بشأن شخصيته (كيف ينظر الناس إليه؟ هل من شيء مختلف في ملامحه؟ أين مكانه من بقية البشر؟) لكن ابتسامة امرأة تهديه وردة، تمنحه الكثير من الطمأنينة، إنه الآن يضحك من أعماق قلبه كما يضحك الآخرون، وينسى وحدته ولو لبضعة أيام، فالأمر يحدث كما لو أنه في حلم أو خيال، ولا بأس بذلك، مادامت هذه المرأة بوردة واحدة غرست في نفسه الأمل.
في قصة “على ورق صقيل” يضعنا حنون مجيد في قلب الحدث، رجل يحاول قتل بائع فواكه سبق أن قتل صديق هذا الرجل، وجاء بعد أربعين سنة ليأخذ بالثأر، يشتري منه الفواكه كل يوم حتى يصبح صديقاً له، وهو يتهيأ للانقضاض عليه، وفعلاً يقتله بالسكين، لكننا نكتشف في نهاية القصة أن الرجل كان يكتب قصة قصيرة ينتقم فيها من ذلك البائع الذي قتل صديقه منذ أربعة عقود.. إنها واحدة من قصص حنون مجيد المتميزة، قال فيها الكثير في عدد قليل من الصفحات، كما أن أسلوبها على جانب من الإثارة والتشويق.
أما قصة “استئصال عقل” فهي في غاية المرارة والرعب، عن سجين انفرادي أمامه كلب من فصيلة الذئاب، مقيد بسلسلة من حديد، يعمد الحارس الى تجويع الكلب حتى يتمكن من التهام السجين، لكن المشهد في نهاية القصة يقول فيه الراوي ” لم يكن الحارس ذكياً هذه المرة حينما انقض كلبه عليه” وسنعرف في تفاصيل القصة أن السجين من المناضلين، ومسموح قتله بأية طريقة، لكن فترة الاعتقال الطويلة خلقت بين السجين والكلب حالة من الألفة، وبدلاً من أن يأكله الكلب، مضى فوراً بعد فك السلسلة عنه الى الحارس لينشب أنيابه في لحمه.
وهذا رجل فقير الحال في قصة ” حتى يباع البيت” يعرض بيته للبيع ليشتري بيتاً أصغر توفيراً للنفقات، لكن البيت لا يباع، وفي الوقت المحصور بين أمنية بيع البيت والفاقة التي يعاني منها يقوم صاحب البيت باستعراض حياته، فهو رجل يحب هذا البيت وحديقته الصغيرة، وله فيه ذكريات لا يمكن نسيانها، ثم إنه هو نفسه من شيّده ويعرف كل زاوية فيه، كما إنه يحب القراءة، لكنه يقرر ترك الكتب لمن يشتري البيت، ولن يحتفظ بشيء منها غير كتب نيرودا ورسول حمزاتوف وميلان كونديرا وبورخيس وماركيز وتولستوي، لكن أين ذاك الذي يشتري البيت؟ فها هو يستبدل الرقعة المكتوب عليها “البيت للبيع” أكثر من مرة ولا فائدة.
إنها قصة عن الفقر والأسى الذي يحاصر العراقيين، وقد كتبها حنون مجيد بكثير من الحيادية إزاء ما يحدث في بلاد النهرين، وفكرة بيع البيت هي البديل الموضوعي للتخلي عن الجذور واختيار الشتات الذي انتهى اليه ملايين العراقيين منذ الثمانينيات من القرن الماضي حتى يومنا هذا.
في قصة “يوم المطر” ثمة علاقة غريبة تنشأ بين رجل وامرأة، إذ تتبرع إحداهن بمظلتها لتحمي رجلاً من المطر الغزير، المرأة ترتدي معطفاً مطرياً، وهي موظفة في البناية نفسها التي يعمل فيها الرجل، ولم تكن بينهما علاقة من نوع خاص قبل يوم المطر، لكن ما إن تتبرع المرأة بمظلتها له حتى تهبط عليه أحلام اليقظة، ويعيش حباً عارماً، إنها قصة طريفة ومحبوكة عن أشياء لا تحدث الا في الأحلام.
يقول الدكتور الناقد حسين سرمك “طبع حنون مجيد بصمته على جسد المنجز القصصي العراقي من خلال تمسكه بدور الحكّاء، مخلصاً بذلك لجوهر دور السارد في التراث العربي، والأهم ميزات القص الحقيقي التي أضعفتها التيارات الحداثوية أولاً، ومن خلال قدرته الفذة على تمرير أشد المعضلات الفلسفية والوجودية تعقيداً، تحت أغطية سردية بسيطة في الظاهر ثانياً، مذكراً إيانا أن طرح أفكار عظيمة ومعقدة في أشكال بسيطة هي روح الفن الحقيقي الباهر”
أما في قصة “تاريخ العائلة” التي حملت المجموعة عنوانها، سنقف أمام صورة زيتية معلقة على جدار، لكنها ليست أي صورة، أثارت رعب المرأة أمام طبيب العائلة حين اكتشفها معلقة على جدران بيته، وقد أفصحت له عن خوفها، منها ومن عشرات الصور المعلقة على الجدران في بيتها.. بدت المرأة غريبة الأطوار وهي تتحدث عن هذه الصورة تحديداً، وعن سماعها طرقاً متواصلاً على بابها من حراس الليل المجهولين، ولكي يخفف الطبيب من وقع ما ترسله الصورة من مخاوف في قلب المرأة فقد أنزلها عن الجدار، لكن المرأة غادرت البيت وما تزال مذعورة، ثم جاءه هاتفها لتتوسل إليه أن يحضر على عجل.
كان البيت صامتاً، أقفلت المرأة جميع النوافذ كمن يتوقع قدوم أعداء متربصين، وانكمشت على نفسها خائفة من شيء ما، إنها تسمع دوياً غامضاً يشبه انهيار سد أو انتشار وباء، هو أيضاً سمع ذلك، لكنه يعزوه الى الريح أو أية مؤثرات خارجية، في حين تعزوه هي الى زوجها الذي هجرها، والذي لا يكف عن تأليب الآخرين ضدها ليهدموا أمنها وطمأنينتها عبر الكثير من الأمور، ومنها هذا العدد الكبير من صوره الزيتية التي تحتل الجدران.
سنعرف لاحقاً أن المرأة هي التي رسمت كل هذه الصور لأسباب نفسية معقدة، يسبرها حنون مجيد ببراعة الطبيب النفسي، ليكشف لنا شخصية هذه المرأة التي تساوت لديها درجات الحب والكره لزوجها، وفي لحظة من لحظات الهياج ستنهار المرأة وتحكي الكثير من قصتها بكلام غير مترابط.
كان الطبيب يدون كل ما تتفوه به المرأة، ويقول لها إنها تتحمل جانباً كبيراً من الخراب الذي حل بهذه العائلة، وهنا سيزداد غضب المرأة وتفقد سيطرتها على أعصابها فتقول كلاماً أكثر غرابة، وسيجد الطبيب أنه أمام حالة ميؤوس منها، خصوصاً أن المرأة تعتقد أن كل حركة خارج البيت قادمة من الأعداء الذين سينقضون عليها، وحين بدا للمرأة أن الطبيب انتهى من تدوين حالتها، أخرجت دفتراً من تحت وسادتها وطلبت من الطبيب الأمين أن يكتب تاريخ عائلته، وهنا يقطع حنون مجيد القصة ليترك القارىء يتساءل: ترى أي تاريخ سيكتبه هذا الطبيب الذي وجد نفسه مأزوماً بعد أن جاء ليعالج المرأة المريضة؟
قصص حنون مجيد مشحونة بالوحدة والوحدانية، ومفرداته تنم عن حزن دفين، كما لو أن أبطالها سيموتون بعد قليل، لكنها تثير فينا الأسئلة عن جدوى كينونتنا في هذا العالم الذي لا يمنحنا الكثير.