علي حسين
نتذكر مرور 45 عاماً على غياب الفنان، الذي فقد الحب لكنه ظل طوال حياته يغني للحب. المطرب الذي ملأ ومازال يملأ حياتنا بهجة وسرورا، صوت وصفه يوسف ادريس بانه يحرض على الحب ويزرع الحب وحب الحب.
اكثر من اربعين عاما من الزمن، ولا يزال العندليب الاسمر حاضرا في الذاكرة، كما في القلوب، اسم طاغٍ في مخيلة اكثر من جيل عربي، اغنياته تثير شغف العشاق والمحبين الذين يتذكرون عبد الحليم اليوم، ويتذكرون معه كتيبة الفرح والجمال التي رافقته، من كمال الطويل صانع البهجة في « على قد الشوق، ونعم ياحبيبي نعم «، الى بليغ حمدي المتطرف في الفرح « خايف مرة احب، والهوى هوايا «، مرورا بمحمد الموجي مجنون الغرام في « صافيني مرة وحبك نار «، الى منير مراد وهو يرقص على كلمات « اول مرة تحب ياقلبي، وليس انتهاء برصانة محمد عبد الوهاب في « توبة وضي القناديل «.
اخترق الشاب الفقير الحياة الفنية في مصر. وأصر على أن يقارع جميع الكبار، رفضته الجماهير اول مرة عندما صعد على المسرح عام 1952 ليغني صافيني مرة، فلم يكن احد على استعداد لسماع هذا النوع من الغناء الذي يخلو من الآهات، لكنه يصر ان يعيدها بعد عام لتصبح اغنية الموسم
وستسنح له الفرصة ليصل الى جمهور اوسع، ففي عام 1953 بدأت الاذاعة المصرية تنظم حفلات سنوية بمناسبة اعياد ثورة “ 23 تموز “.. وغنى عبد الحليم ضمن مجموعة من المدربين المشهورين آنذاك: محمد قنديل، كارم محمود، محمد عبد المطلب، محمد فوزي، نجاة علي، عبد العزيز محمود، ولانه مطرب ناشئ، اقتضى الامر ان يكون دوره في نهاية الحفل، وكان الجمهور مشبعا بالغناء، لكنه تقبل اغنية هذا الشاب الخجول الذي يجلس وراءه صديق العمر محمد الموجي عازفا على العود وملحنا لاغنية يا حلو يا اسمر.
ادرك عبد الحليم حافظ وهو يشق طريقه الفني، ضرورة ان تكون له شخصية غنائية مستقلة، إلا يقلد احدا، شخصية لاتقوم على مجرد الطرب وحلاوة الصوت، ولكن تعتمد على القدرات التعبيرية، فقدم لنا صوتاً حساسا، مرهفا، معبرا، يستطيع ان يجسد بصدق وعفوية كافة الاحاسيس والمشاعر، ولانه يعرف ان صوته ليس من الاصوات القوية “ المجلجلة “ كما يقولون، فانه اختار ان يكون مغنيا وليس مطربا، وقد عمل بدأب ومهارة، على الاستفادة من طبيعة وقدرات صوته الى آخر مدى فاختار الكلمات والالحان، بل وطريقة الاداء التي تتناسب مع صوته. يكتب الراحل سعاد الهرمزي ان:” عبد الحليم حافظ اختار ما يمكن تسميته الاداء الهامس “، فتشعر وانت تسمعه ان صوته خارج من اعماق نفسه في نغمات حارة «..
لم يكن عبد الحليم يردد وراء الملحن الجمل اللحنية، بل كان يستمع الى اللحن ويستوعبه ويتمثله، ثم يفرزه بطريقته الخاصة على حد تعبير الناقد الفني كمال رمزي ولهذا مها اختلف الملحنون في اساليبهم، نجد ان اغنيات عبد الحليم لا تتغير. وكان عبد الحليم يحول الاغاني بالتعديلات التي يدخلها على نصوصها الى مشاعر خاصة به، مشاعر سبق ان عاشها من خلال تجربة حب، وهذا ما جعل الشاعر كامل الشناوي يقول حين استمع الى قصيدته “ حبيبها لست وحدك حبيبها “ الى ان يقول: “ عبد الحليم حافظ يخدعنا، لقد غنى القصيدة وهو يستعير تجربة خاصة عاشها بكل خلجاته «.
يكتب انيس منصور ان:” عبد الحليم حافظ كان مثل الطائر الذي يغني اجمل الحانه قبل ان يموت، عندما يقف على المسرح تدب فيه الحياة والحيوية والسعادة والنشوة ويتوارى المرض والضعف والوهن، لكنه ما ان يعود الى البيت حتى يسقط على الفراش فيشعر الجميع انها النهاية، ولم تكن النهاية، فهناك بعد كل اغنية وحفلة نهاية تقربه من الخاتمة «.
وفي رثائه يكتب نجيب محفوظ في الاهرام:” احببت عبد الحليم منذ اول مرة استمعت اليه، انجذبت له بقوة، لصوته الآسر والمؤثر. صوته حالم ورقيق وقوي، لذلك تعلقت القلوب به او علق هو بالقلوب.
كان عبد الحليم حافظ علامة من علامات الزمن العربي، وعلما من أعلام هذه الأمة التي استبدلت عدى النهار، بمناهج التكفير، وكلمات الغزل بوصايا جهاد النكاح، كانت للعندليب جمهوريته ومواطنون يرددون معه: “اشتقت اليك فعلمني ان لا اشتاق “ ويغني القصيدة لكي يسعدنا: “ الحب سيبقى يا ولدي أحلى الأقدار “، العندليب الذي صنع تأريخاً مليئاً بأعذب الألحان، نصفه عاميا على لسان مرسي جميل عزيز ومحمد حمزة وعبد الرحمن الابنودي ومامون الشناوي و الاخر فصيحا بأقلام نزار قباني وحسين السيد ومحمد حسن اسماعيل وصلاح عبد الصبور.
في الوقت الذي كان فيه عبد الحليم حافظ يخطو خطواته الاولى نحو الشهرة والانتشار، كان هناك جيل كامل، يتحرك لياخذ مكانته على خريطة الشعر والموسيقى، وهو الجيل الذي سيعيش بفنه ووجدانه قضايا الوطن وهمومه وآماله واحلامه، وكان من ابرز ابناء هذا الجيل الشاعر المتعدد المواهب صلاح جاهين التي تميزت قصائده التي كتبها لعبد الحليم بنكهة جديدة، نكهة ذات نزعة شعبية تستوحي مشاعر الناس وتفوح منها رائحة قضايا الناس البسطاء، فعند صلاح جاهين لم يكن الوطن هو الماضي الذي يتغنى به الشعراء، وانما الوطن هو الشعب الباحث عن المستقبل، هو الفلاح والعامل وابناء الحارات الضيقة، لكن سرعان ما اطاحت نكسة حزيران باحلام صلاح جاهين الذي اصيب بنكسة نفسية جعلته يتجه الى الكوميديا و “ خلي بالك من زوزو “ ذلك ان صلاح جاهين بعد ان انهارت دعائم العالم الذي غنى له، لم يعد قادرا على تجاوز المحنة، ولم يعد قادرا على كتابة القصائد الوطنية، وتحولت قصائده الى اناشيد مليئة بالحزن، وستغرق بعد رحيل جمال عبد الناصر في بئر اليأس.. لكن هل سيتوقف عبد الحليم حافظ، وسيجرفه اليأس مثل صديقه صلاح جاهين؟، سنجده في هذه اللحظة الحرجة يعثر على عبد الرحمن الابنودي احد فرسان الستينيات، شاعر مشاغب احب عبد الناصر لكنه لم يكن ناصري الهوى، فقد اكتشف مبكرا الخلل في التجربة الناصرية، ورغم انه يلتقي مع النظام في الاهداف الرامية الى انصاف الفقراء والضعفاء، لكنه يختلف مع النظام في الاسلوب والمعالجة.. كان يؤمن بالمجموع و لايؤمن بالبطل الفرد..وجاءت قصائده التي استوعبت التجارب الشعرية السابقة لبيرم التونسي وبديع خيري وفؤاد حداد وصلاح جاهين لتقدم تجربة جديدة، حيث ستمد قصائد الابنودي صوت عبد الحليم بالعديد من الصور الجديدة النابضة بالامل والحياة والمعبرة عن الحالة الجريحة التي يمر بها الانسان العربي فكانت القمة في الاغنية الشهيرة “ موال النهار “ التي لحنها العبقري بليغ حمدي، فهذه القصيدة – الاغنية، لا تكتفي بمجرد التعبير عن الحالة النفسية التي يعيشها الشعب المجروح بسبب النكسة، لكنها وهي تحترم احزان الناس وتتفهمها، تسعى للتسامي بها، وتجاوزها الى افق اكثر اشراقا وأملا، وهو الأمل المبني على الثقة بالانسان القادر على انتزاع النهار من ظلام الليل.
عدى النهار
والمغربية جاية جاي تتخفى وراء ظهر الشجر
وعشان نتوه في السكة
شالت من ليالينا القمر
وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها
جانا النهار ما قدرش يدفع مهرها
وتعبر الكلمات اللحن عن حيرة الناس وقلقهم وتساؤلاتهم المفعمة بالشجن:
يا هل ترى الليل الحزيم
ابو النجوم الدبلانين
ابو الغناوي المجروحين
يقدر ينسيها الصباح
ابو شموس بترش الحرير
ولعل اداء عبد الحليم في هذه الاغنية التي كلما اسمعها تثير الشجن في نفسي، تختصر على نحو بالغ الصق والتاثير، احزان الشعوب المقهورة، إلا انها اغنية لا تغرق في الاحزان، فصوت عبد الحليم سيتدفق من خلالها يؤكد ان الليل المتسلل لا يمنع الاهالي من ان تحلم “ بالسنابل “ وان الاطفال والنساء والرجال يسمعون نداء النهار، وانهم جميعا، سيخرجون لاستقباله ن ذلك انه سياتي حتما:
ابدا
بلدنا للنهار
بتحب موال النهار
لما يعدي فى الدروب
ويغني قدّام كل دار.
العام 1955 ستتاح الفرصة لعبد الحليم حافظ ان يظهر للمرة الاولى على شاشة السينما حيث قام ببطولة فيلمين هما “ لحن الوفاء “ و” ايامنا الحلوة “ ويسحر عبد الحليم المشاهدين بصورته التي ستكون متشابهه في جميع افلامه، صورة الفتى الوديع، الاليف، البسيط، الموهوب، صادق المشاعر، المتفاني من اجل فنه والمحب للآخرين، الفتى الذي ياتي من الفقر والبؤس ليشق طريقه مكافحا، يتعثر لكنه يصر ان يثلت حقه في الحياة والفن، وهي الملامح التي اثارت تعاطف المشاهدين الذي كانوا يشعرون انه فرد من افراد اسرتهم.
اليوم نتذكر درس عبد الحليم عن الحب والفرح والمسرة، حين نجد الناس تُذبح تحت رايات دينية وطائفية.
حاولت أن أتجنّب الكتابة عن العندليب في ذكرى رحيله. فعندما أكتب عن هذا الزمن أفقد ضوابط الكتابة، وأعود شاباً هائماً بين القصائد الرقيقة ومتعة العشق وعبقرية الفرح.، فأنا ل لا ازال ذلك الفتى الحالم الذين يريد ان يعثر على مرفأ ليس فيه فوارق، ولا عنصريات، ولا طوائف، ولا أحقاد، ولا انتقامات.
مرفأ تاخذنا كل دروبه للنهار
« واحنا بلدنا للنهار بتحب موال النهار
لما يعدي فى الدروب
ويغني قدام كل دار «