قراءات في الرواية العراقية

قراءات في الرواية العراقية

عبد الحق فاضل

مجنونان

ناطق خلوصي

كتب الدكتور عبد الإله أحمد في كتابه “ نشأة القصة وتطورها في العراق1908 ــ 1939” الصادر عام 2002، أن رواية “مجنونان “ لعبد الحق فاضل “ هي من أفضل الروايات التي كتبت في الأدب العراقي الحديث.

فقد تضافرت لانجاح هذه الرواية كل الخصائص الفنية التي لمسناها في قصصه القصيرة. فالحبكة المحكمة، والسرد المتدفق، والتحليل النفسي العميق الذي ينفذ إلى دخائل الأبطال، والنفس الطويل، والحوار الذي يدار بقدرة مسرحية باهرة، والذي اعتمد عليه المؤلف اعتماداً كبيراً في تطوير أحداث روايته وفي بنائها، كل ذلك قاده إلى أن يكتب عملاً روائياً بديعاً “ (ص 267). صدرت هذه الرواية في طبعتها الأولى في الموصل عام 1939 وكتب الروائي انه انتهى من كتابتها في 13 أذار 1936. أما الطبعة الثانية، التي نعتمدها هنا، فقد صدرت ضمن كتاب “عبد الحق فاضل ــ الأعمال القّصّصية الكاملة “ الذي كان قد صدر عن “دار الرشيد “ عام 1979وهي تغطي 115 صفحة من القطع الكبير تمتد بين صفحتي319 و 433 منه. يوظف الروائي المصادفة بشكل واضح بدءاً من مدخل الرواية ومروراً بمفاصل أخرى منها. فمنذ ذلك المدخل وفي تلك المصادفة التي تعوزها العفوية، يقدم الروائي بطله: صادق شكري ليلتقي بسميرة فائق التي كان قد تعرّف عليها من قبل وتجاهلها الآن مثلما كان قد فعل في مرة سابقة على الرغم من أنها كانت في حالة حب معه ولكن من طرف واحد. كانت تراه عنيداً وجموحاً وكان قد فاجأها في مرة سابقة بأن أنتزع قبلة من شفتيها وتركها وهاهو يتجاهلها مرة أخرى، و” صادق معروف لدى أصدقائه القليلين ببغضه السيدات، وبتهكمه عليهن، خصوصاً منهن الجميلات المثقفات المعتدات بأنفسهن، ولو كانوا جميعاً يجهلون منه سبب ذلك “.وبذلك ترسم الرواية صورة أولى لصادق المحامي والأديب، قبل أن تزج بشخصية. صفية سعدي التي “كان صادق يومذاك معجباً أو هائماً بها.... لم يرها، ولكنه كان يقرأ لها في الصحف فصولاً ممتعة تنم عن ذكاء شديد وجرأة نادرة وروح ثائرة متمردة. وكانت تنادي بتحرير المرأة وتحرير الرجل “ (ص 340) لتصبح الطرف الثاني لمعادلة ظلت تتأرجح زمناً حتى توترت العلاقة بين طرفيها بسبب عدد من الملابسات. ويقدمهما الروائي،هي وصادق،على انهما مجنونا الرواية وقد استمدت عنوانها منهما ولم يكونا مجنونين في الواقع إنما أطلق الروائي عليهما هذه التسمية للتدليل على تطرفهما في أفكارهما وردود أفعالهما. لقد جمعهما الروائي في مصادفة من صنعه وبالتالي فهي تفتقر للعفوية هي الأخرى. شاء صادق، الذي كانت أمه تبالغ في الاهتمام به وتسميه صدقي، أن يستأجر عربة فشاءت المصادفة أن ترغب صفية أيضاً في استئجار العربة نفسها في الوقت نفسه لكنها حين رأت صادق يهم بالنزول اقترحت عليه أن يستأجراها لتنقلهما معاً، وكانت هذه بداية التعارف وتَشكّل العلاقة بينهما فتذبذبت سلباً وايجاباً. أخفى حقيقته عنها في ذلك اللقاء وما تلاه واستخدم معها اسم “ صدقي “ التي تناديه أمه به فلم تتعرف عليه أو على اسمه الحقيقي إلاّ في المقاطع الأخيرة للرواية.حيث فجّر الروائي مفاجأة كشف فيها عن كون صفية هي أخت صديقه الحميم فوزي الذي دار جزء من الأحداث قي بيته وكان ثمة خلاف عائلي قد أحدث شكلاً من أشكال القطيعة بين الأخ وأخته فانقطع التواصل بينهما زمناً. وكان على شقيقها أن يذهب ويبحث عن صادق ليعود به إليها بعد أن كان قد غضب منها. لم يفت الروائي أن يقف عند الجانب السياسي. فوجىء صادق شكري بالفتاة سميرة التي كانت تحبه وهي تزوره حاملةً نسخة من جريدة فيها اسماء الفائزين في انتخابات مجلس النواب ومنها اسمه دون أن يرشح نفسه فاكتشف أن وزير الداخلية في الحكومة آنذاك هو الذي رشحه دون علمه ربما لشراء سكوته. حاول أن يعتذر لكنه اقتنع بدافع الحرص على مصلحة الوطن. نجد من المناسب أن نختتم هذه القراءة بنموذج من لغة عبد الحق فاضل السردية: “كان اليوم عاصفاً اهوج، والريح الجنوبية العنيفة تملأ الجو بالغبار وتتواثب مولولة على سطوح المنازل، وتهرول كالمخبول في الشوارع الرحيبة، حاملة في طريقها ما تكتسحه من غبار واوساخ تقذي بها العيون “ (ص328). “ مجنونان “ هي الرواية الوحيدة لعبد الحق فاضل إلى جانب مجموعاته الفصصية الثلاث: “ مزاح وما اشبه “ و” حائرون “ و” طواغيت “،وكتب أخرى وما لبث أن شغله العمل في السلك الدبلوماسي عن الأدب.