مقهى «الشابندر»... ذاكرة العراق الحديث

مقهى «الشابندر»... ذاكرة العراق الحديث

حسام السراي

كم كان يوم الخامس من آذار (مارس) 2007 مشؤوماً بالنسبة إلى المثقّفين العراقيّين. الانفجار الذي دوّى يومذاك في شارع المتنبي، حوّل أحد أبرز معالمه إلى حطام. إنّه «مقهى الشابندر»، حيث اختلطت أوراق الكتب المحترقة بدماء الضحايا، واصطبغت صور بغداد القديمة التي كانت تزيّن جدرانه، بلون الفجيعة الدامية. حينها وتحت عنوان «مراثي الكتب»، تجمّع الشعراء وتلوا قصائدهم في رثاء المقهى، وأحرق بعضهم قميصه استنكاراً لما حصل.

تأسّس المقهى العريق في بغداد عام 1917، على أنقاض «مطبعة الشابندر» (أو الشاهبندر) التي أغلقت حينها لأسباب سياسيّة. احتضن الفضاء المديني الجديد الأجواء الثقافية في عراق تلك الأيام، وسرعان ما أخذ يرتاده الأدباء والصحافيّون والفنانون... واكتسب أهميةً مضاعفة بحكم وجوده في شارع المتنبي، قبالة البوابة الرئيسيّة لـ«سوق السراي». وباتت أيام الجمعة تشهد حركة وازدحاماً في المقهى، الذي ازدهى بروّاده القادمين، ليس فقط من بغداد، بل من مختلف المحافظات العراقيّة. مع عبور السنوات وتقلّب العهود صار «الشابندر» ذاكرة العاصمة العراقيّة، والعراق الحديث... لقد أرّخ لبغداد في مراحلها المختلفة، كما كانت تشهد عشرات الصور المنسيّة على جدرانه.

في أواخر عام 2008، افتُتح «شارع المتنبي» العريق في احتفال رسمي. إلّا أنّ الاحتفاء الحقيقيّ كان منذ أشهر قليلة فقط، حين عاد الروّاد إلى أمكنتهم الأثيرة، وأوّلها «مقهى الشابندر». لم يمنعهم من ذلك لا العنف ولا حرارة الصيف، ولا حتّى إهمال الدولة للثقافة. المصوّر الفوتوغرافيّ كفاح الأمين يرى «أنّ المقهى عاد اليوم بشكل أفضل من السابق، لأنّ المثقفين ينظرون إليه بوصفه مشغلاً ومحفلاً لعمق الثقافة العراقيّة». ويعلّل ذلك بـ«أنّ هناك حركة دؤوبة في هذا الفضاء، تعود إلى الجهد الشخصيّ للمثقفين، وأصحاب المكتبات، وباعة الكتب على الأرصفة، وروّاد الشارع نفسه».

قاوم الحاج محمد الخشالي كلّ الإغراءات لتحويله إلى محل تجاري

ويشدّد الأمين: «علينا ألّا ننسى صاحب المقهى محمد الخشالي. رغم مرضه واستشهاد أولاده الخمسة في التفجير المروّع، إلّا أنّه ظل صامداً، مكتفياً بالمردود المادي الضعيف للمقهى. ذلك الرجل يمكن اعتباره مثقّفاً عضويّاً بامتياز». الفنان الفوتوغرافيّ الذي يعمل مع زملائه على استعادة المكان البغداديّ بالصورة، يرى أنّ هناك تحديّاً كبيراً يخوضه المثقفون عبر حضورهم إلى المقهى بهذه الكثافة كلّ يوم جمعة. ويجد أنّ «المقهى يضم مختلف شرائح المثقّفين العراقيين. هناك الجيل القديم الحالم بأيام الملكية، وجيل الشباب المتمرد.

ينفي الأمين صفة النخبويّة عن «الشابندر»، وهو يختلف بذلك عن الكاتب كريم حنش، الذي يرى أنّ «بعض المثقفين يأتون إلى المقهى ولا علاقة لهم بالشارع. هذا يتعلّق بمزاج خاص بالمثقف النرجسيّ العاجز عن المجيء إلى المكتبات». ويصف حنش المقهى بأنّه «المكان الأكثر نخبويّة في شارع المتنبي». ويوضح صاحب «مكتبة الحنش» أن «هناك تواصلاً وتوافقاً بين نخبويّة المثقف العراقيّ والطابع العمرانيّ للمقهى. هذا النموذج لا يلتقي الجمهور المثقف غير المحترف للكتابة والإبداع، وما طَرد بعض الشعراء الصعاليك منه مثل عقيل علي وصباح العزاوي، إلّا تعبير صادق عن نخبويّته ومناخاته الانتقائيّة.

هل جمهور شارع المتنبي مختلف حقاً عن روّاد «الشابندر»، تقول الأكاديميّة والباحثة العراقيّة نهلة النداوي: «من الطبيعي أن تمرّ بمقهى «الشابندر» لدى زيارتك شارع المتنبي». النداوي التي كانت ترتاد المقهى منذ عام 1995، ترى أنّه «ليس جديداً أن تدخل المثقفات إلى المقهى، لأنّ ذلك كان معهوداً في السابق. هذا مكان للقاء المثقفين والمثقفات بعد غيابهم عنه لعامين للأسباب الأمنيّة المعروفة». الحاج محمد الخشالي الذي يدير «الشابندر» منذ عقود، يؤكّد أنّه «بعد عودة العافية إلى شارع المتنبي، فإن «الشابندر» صار في حال أفضل». ويضيف: «بصفتي مستأجراً لهذا المقهى، فقد خدمت فيه التراث البغداديّ لمدة خمسين عاماً»، ثم يستدرك قائلاً: «جعلت لاسم «الشابندر» شهرةً عالميّة، وصبرت على كل ما أصابني وعائلتي المنكوبة، وليس لي أمل إلا أن يتعاون معي أصحاب الملك لإبقاء هذا الصرح، وإدامته كواحد من أهم الأمكنة الثقافيّة البغداديّة». ثم يشرح كيف أنّه لم يستجب لكلّ محاولات تحويل المقهى إلى محل تجاري، معلناً: «سأبقى في هذا المكان حتى موتي، وسأوصي من بعدي بأن يظلّ المقهى على حاله، كي يبقى «الشابندر» محتفظاً بهويّته التراثيّة.

وكانت أمانة بغداد، قد رفضت في أيار (مايو) الماضي «إحداث أي تغيير يشمل استخدام بناية «مقهى الشابندر» الحالية الواقعة في نهاية شارع المتنبي، تعقيباً على ما أشيع وقتها عن تعرّض إدارة المقهى لضغوط، كخطوة في اتجاه بيع البناية وتغيير وظيفة «الشابندر» من مقهى تراثيّ إلى استخدامات أخرى.

مقاهي الزمن السعيد

دخلت المقاهي الحياة البغداديّة في عشرينيات القرن الماضي. دوامة العنف التي تجتاح العاصمة العراقيّة منذ سبعة أعوام، أفقدت تلك المقاهي روادها ورونقها، وأقفلت أبواب الكثير منها. إلى جانب «الشابندر» ملتقى الأدباء والمثقّفين، اشتهر في بغداد «مقهى الطرب» أو مقهى أبو ناطق في الصالحية على الطريق المؤدي إلى المبنى السابق للإذاعة والتلفزيون. مؤسس المقهى خليل شهاب العزاوي المكنّى بـ«أبو ناطق»، افتتحه عام 1956 وأطلق عليه تسمية «قهوة عزاوي» وقد اشتهر بأغنية «يا قهوتك عزّاوي... بيها المدلل زعلان». ومرّ على هذا المقهى عمالقة الفن في العراق، في مقدّمهم حضيري أبو عزيز، وداخل حسن، وناصر حكيم، وناظم الغزالي وقافلة من المسرحيّين والسينمائيّين. كذلك اشتهرت مقاهي «البرلمان» و«البرازيلية» و«المربعة» وقد تحول الأخيران إلى مخازن ومستودعات، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مقهى «أم كلثوم».