«الأم» لمكسيم غوركي  المرأة التي حطّم الوعي قيودها

«الأم» لمكسيم غوركي المرأة التي حطّم الوعي قيودها

إبراهيم العريس

اثنان، على الأقل، من كبار كتاب القرن العشرين وفنانيه، أعلنوا في شكل عملي افتتانهم برواية «الأم» التي كانت – وتبقى – من أشهر روايات مكسيم غوركي.

الأول هو السينمائي بودوفكين، الذي حول الرواية الى واحد من أبرز أفلام المرحلة السوفياتية الأولى محملاً الفيلم العنوان نفسه، والثاني هو المسرحي الألماني برتولد بريخت الذي اقتبس من رواية غوركي واحدة من أكثر مسرحياته واقعية وثورية و ... ديماغوجية، بحسب تعبير الكثير من ناقديه. وحتى من دون تدخل بودوفكين وبريخت، حظيت رواية «الأم» منذ نشرت للمرة الأولى، بشهرة واسعة وترجمت الى لغات حية كثيرة، مركزة شهرة صاحبها، غوركي، بصفته كاتباً انسانياً ثورياً يدعو الى الاشتراكية والى النضال في سبيل المثل العليا. غير أن ثمة كثراً يعتقدون أن غوركي كتب «الأم» في روسيا، خلال العهد الثوري. لكن هذا ليس صحيحاً: «الأم» كتبت في أميركا، حيث كان غوركي «منفياً» بعد اعتقاله في روسيا بتهمة الانتماء الى ثوريي العام 1905، ما يعني أن «الأم» سبقت ثورة العام 1917 بسنوات طويلة.

الحكاية التي تقف وراء «الأم» حكاية باتت، على أية حال، معروفة: في العام 1905، وكان مكسيم غوركي في السابعة والثلاثين من عمره، وقد حقق شهرة طيبة، منذ بدأ يكتب وهو في الرابعة والعشرين... وهو كان اشتراكي النزعة، ثوري الأفكار منذ شبابه. وهكذا انضم في العام 1905 الى الثورة التي اندلعت عهد ذاك، من دون أن يكون في البداية ماركسياً بل كان انساني النزعة في شكل مبهم في أحسن حالاته. ومن هنا، حين اندلعت تلك الثورة كتب مؤيداً لها، ما جعل السلطات القيصرية تعتقله... لكنها ما لبثت أن أطلقت سراحه بفضل موجة عارمة من الاحتجاج العالمي. وهو ما إن خرج من المعتقل حتى توجه ليعيش في الولايات المتحدة الأميركية، حيث كتب «الأم». بيد أن السلطات الأميركية ما لبثت ان طردته بحجة ان المرأة التي تعيش معه ليست زوجته الشرعية. وهكذا عاد الى بلده لينشر الرواية هناك بعد سنتين على شكل حلقات في مجلة أسبوعية.

منذ صدورها للمرة الأولى وصفت رواية «الأم» بأنها الرواية الكبرى التي تتحدث عن «الشعب الذي سيهز العالم كله عما قريب»، فمع هذا فإن النقاد الذين تابعوها منذ البداية لم يروا فيها – لحسن حظها – سوى شهادة على الحياة التي يعيشها الناس البسطاء الطيبون. ونعرف أن هؤلاء الناس هم عادة أهل البيئة التي يتحدث عنها مكسيم غوركي في معظم رواياته، وحتى في رواياته الأولى التي حملت سيرته الذاتية.

هؤلاء البسطاء الطيبون يمثلهم، منذ البداية في هذه الرواية، بول وأمه، وخصوصاً أمه (الأم) ذات الأربعين عاماً، وتبدو مع هذا عجوزاً أثقل عليها الدهر بسنوات العمل الشاق الذي كانت تمارسه، ناهيك بالإذلال والوحشية اللذين كانت تعيشهما في شكل يومي مع زوجها، العامل مدمن الكحول. غير أن الأم لم تكن لتجد غرابة في الأمر طالما ان كل النساء في الحي، من بنات جيلها يتعرضن لما تتعرض له. ثم يحدث ذات يوم أن يموت الزوج، ما يعني أن الأم صارت حرة الى حد ما، اذ ذهب عنها جزء من عذابها اليومي. غير ان هذا الأمر لا يوفر لها الراحة المنشودة. كل ما في الأمر أنها تلاحظ أنها الآن لم تعد تملك سوى دموعها و ... ابنها بول. والمهم هنا هو أنها تلاحظ أن بول يختلف اختلافاً جذرياً عن بقية الأبناء الذين يعيشون في كنف أهاليهم في هذا الحي البائس. فبول لا يشرب الفودكا لأنه لا يريد أن يكون مدمناً الشراب. ثم ان الفتى يمضي جلّ وقته عند كل مساء في قراءة الكتب.

ويزداد عجب الأم ذات يوم، حين يقول لها بول – في معرض نقاش حول الأمر بينهما – ان ما يريده حقاً في هذه الحياة، وما يتوخاه من قراءاته المستديمة انما هو معرفة الحقيقة. «ان على المرء، يا أماه، أن يتعلم حتى يتمكن من تعليم الآخرين». وتجد الأم نفسها، أمام تأكيدات بول هذه، مندهشة... خصوصاً أن أموراً أخرى من لدن ابنها كانت تثير دهشتها أيضاً. وفي مقدم ذلك أخلاقه الطيبة وانفتاحه على الآخرين، ثم نوعية الرفاق الذين يأتون لزيارته والاجتماع به ومناقشته. انها تلاحظ أن ثمة في السجالات التي تدور بين بول ورفاقه، قدراً كبيراً من القيم الانسانية والمثل العليا. وكل هذا يدفعها الى التفكير بجدية: اذ ها هي تنفتح أمامها أبواب معرفة لم يكن لها بها علم في السابق. ومن المعرفة الى الأمل والإيمان بمستقبل يصنعه الانسان بنفسه، خطوة تقودها فيها أفكارها. فإذا بالأم تبدأ بالتعمق في التفكير، وتصبح بفعل ذلك، قادرة على التعبير عن نفسها وأفكارها، ومن ثم على اقناع الآخرين.

وتدرك الأم، بالتالي، أن التفكير سيظل شيئاً جيداً انما عقيماً ان لم يصاحبه فعل عملي. وهكذا، اذ تؤمن بأن بول ورفاقه انما يفعلون ما هو صواب وفي مصلحة الناس، تبدأ الانتقال من مرحلة التفكير والتأييد العاطفي، الى مرحلة الفعل الثوري: تبدأ بنقل المنشورات الثورية في ثنايا ثيابها لتوزعها على الناس. وهكذا تجد نفسها في خضم العمل الثوري. ويزيد احتكاكها بالناس من كل الفئات والأنواع: «عمال ثائرون على أوضاعهم، مثقفون يضعون جهدهم ووقتهم في خدمة الشعب... فلاحون لا يكفون عن ابداء الرغبة في التحول من أميين الى أناس متعلمين وقد أدركوا أن العلم هو طريق المستقبل ودرب التغيير الاجتماعي»، بحسب ما تصف الأم بنفسها، بل انها تتحدث أيضاً، عن «شبان ارستقراطيين فضلوا أن يعيشوا قطيعة مع بيئتهم وأهلهم من أجل خدمة الفعل التغييري الانساني». والحال أن الأم في ازاء هذا المشهد الجماعي الذي تعاينه بنفسها ميدانياً، والذي لم يكن لديها أية فكرة عن وجوده في الماضي، تنتعش في داخل نفسها الآمال بأن «مستقبلاً مضيئاً وخيّراً» ينتظر البشرية إن هي سلكت هذا السبيل، «مستقبلاً مفعماً بالأخوة والتكافؤ الاجتماعي، يمكن البشرية جمعاء أن تصل اليه إن هي آمنت به وعملت من أجله»، مدركة أنها هي، المرأة المتواضعة البسيطة والعاملة أم العامل الفقير، يمكنها أن تساهم بقسط من ذلك كله... ومن دون مساهمتها قد لا تكون الأمور على ما يرام. وهكذا تصبح «الأم» جزءاً من الحركة الثائرة، الى درجة انها، لاحقاً، حين تعتقل السلطات ابنها وتنفيه الى معسكرات الاعتقال في سيبيريا، لا تذرف الدموع، بل تواصل حصتها من العمل النضالي... اذ، في حياة أمثالها من الناس، ليس ثمة أي وقت للدموع.

من نافل القول هنا ان رواية «الأم» لغوركي تعتبر من النصوص الممهدة، حقاً، لاندلاع الثورة الروسية. ومع هذا لا بد لنا من أن نذكر هنا ان ألكسي بشكوف (1868 – 1936)، وهو الاسم الأصلي الحقيقي لمكسيم غوركي، ما إن تحققت نبوءته في «الأم» واندلعت الثورة البولشفية الروسية في العام 1917، حتى وقف موقفاً سلبياً تجاهها، إذ رأى انها كانت شعبوية ديماغوجية أكثر من اللازم، ثم ما لبث أن غادر روسيا في العام 1921، ولم يعد اليها الا في العام 1928، بناء على طلب شخصي من ستالين، الذي سيحيطه بعنايته، وسيوصله في العام 1934، الى منصب رئيس اتحاد الكتّاب. ومع هذا، على رغم هذا المجد السلطوي، ما لبث غوركي أن رحل عن عالمنا في شكل مفاجئ بعد عامين من ذلك. وحتى اليوم لا يزال كثير من الشكوك يحيط بوفاته: هل مات حقاً بفعل داء الرئة الذي أصيب به، أو قيل انه أصيب به، أم تراه مات مسموماً بأمر من ستالين شخصي.

من أرشيف جريدة الحياة اللندنية