الصوت الذي يوحّد العراقيين

الصوت الذي يوحّد العراقيين

فادي بعاج

إن كان لمصر هرمها الكبير في عالم تلاوة القرآن متمثلاُ بالمقرئ الشيخ عبدالباسط عبد الصمد، فإن للمشرق العربي والعراق هرماً كبيراً آخر لا يقل سحر بيانه وجمال حنجرته عن عبدالباسط كما عرف في الآفاق وبين مئات ملايين المسلمين، إنه الحافظ خليل إسماعيل، ابن بغداد القديمة.

وفي أيامنا هذه في شهر رمضان المبارك يحضر الحافظ خليل إسماعيل، بتسجيلاته في الاذاعات والقنوات التلفزيونية العربية، يحضر بتلاواته لآيات القرآن الكريم التي تسبق موعد الإفطار، تلاوات تطرب لها آذان مستمعيها، وخصوصا أولئك العراقيون الذين هجرتهم الحروب والأزمات التي عصفت ببلادهم.

هو بمثابة الطرب الرمضاني الذي يصغي إليه الإنسان بغض النظر عن كونه متديناً أم لا، يبحث عنه في مواقع الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ومنهم من يعتمد عليها للتدريب في تجويد القرآن الكريم، حيث أن هناك العديد من المواقع الالكترونية متخصصة بتقديم الدروس التعلمية والتطبيقية للتجويد على المقامات الموسيقية التي اشتهر بها الحافظ، ومن تلك المواقع، ما يقدم للمهتمين بعلم التجويد دروساً تفصيلية على عدة مقامات، مثل مقام الحجاز كار كرد ومقام الصبا و الحجاز على النهوند وغيرها من المقامات المعروفة، كما يقدم دروساً في المقامات العراقية القديمة كمقام الجبوري ومقام الدشت ومقام المخالف ومقام الأوشار، وغيرها من المقامات المنسية لمجودي هذا العصر.

وإن كان يمكن وضع التجويد في خانة الفنون، فهو فن روحاني يعتمد على مهارة مجوده وأسلوبه في تلاوة القرآن الكريم، خصوصا إذا اعتمد على المقامات الموسيقية والعراقية منها، التي تحمل شجناً يقرّب سامعيه من روح الله.

أبرز رواد هذا الفن الرفيع هو الشيخ الراحل الحافظ خليل إسماعيل عمر الجبوري شيخ القرّاء والمجوّد الأصيل، الذي امتلك صوتا ذا بصمة خاصة لا تخطئها الأذن، مع سحر في الأداء، يكمن سرّه في حلاوة نغماته في تجسيده للكلمات والمعاني في الآيات التي يقرأها، وتفرد في التلاوة، سرّ تميز به الحافظ وانفرد بفضله عن غيره، فلم يقلد غيره من العمالقة الذين ظهر في زمنهم، فأصبح بتلاوته الذاتية، مدرسة عذوبة أخذت مكانها بنغماتها القوية المؤثرة.

أصوات الكرخ البعيدة

ولد الشيخ المقرئ الحافظ خليل إسماعيل العمر في العام 1920، في جانب الكرخ من مدينة بغداد، من أبوين عراقيين ومن عائلة دينية معروفة بتقواها وتقاليدها العريقة.

ولما بلغ صباه، حفظ القرآن الكريم بإتقان وتجويد رفيعين، بعد أن تتلمذ على يد الملا محمد ذويب الذي كان إمام مسجد السويدي القريب من مسكنه في محلة خضر الياس، تعلم أيضاً وأتقن علوم التلاوة والتجويد على الملا جاسم سلامة الذي أشرف عليه واحتضنه كثيراً لذكائه المتميز، بعدها درس على يد الملا رشيد ثم الملا عبدالله عمر ثم الملا إبراهيم العلي ثم الملا عواد العبدلي، وقد كانوا من كبار القراء في بغداد. ولكنه تأثر كثيرا بالملا جاسم محمد سلامة الذي كان مدرسا بارعا لجميع القراء ومنهم عبدالفتاح معروف.

من الأسباب التي كانت تدفع الحافظ خليل إلى القراءة وفق المدرسة المقامية البغدادية الأصيلة، تشجيع الحاج نجم الدين الواعظ له، فقد كان يحب تلاوته ويحب أن يسمع منه مقام الخلوتي من الماهوري والحويزاوي والمخالف والبهيرزاوي، أما الشيخ قاسم القيسي فكان يحب أن يسمع منه قراءة القرآن الكريم على نغمة التوريز

عند بلوغه سن الثالثة عشرة، دخل خليل إسماعيل المدرسة العلمية الدينية في جامع نائلة خاتون في بغداد، والتي كانت وقتها بإدارة الحاج نجم الدين الواعظ والشيخ قاسم القيسي، وقد اختصت هذه المدرسة بتعليم أصول الفقه والحديث والتفسير والعقائد وقراءة القرآن، وتخرج منها سنة 1943، وقد كان للشيخ نجم الدين الواعظ الفضل الأكبر في مسيرة الحافظ خليل إسماعيل وفي شهرته وسمعته في عالم التلاوة والتجويد إذ كان له مرشداً ومعلماً ومربياً وموجهاً وكان يتلقى منه دروساً يومية منتظمة في النحو والصرف والتجويد، ودخل المدرسة ذاتها مرة ثانية سنة 1944، وتخرّج فيها سنة 1953 ونال الشهادة الدينية وكان الأول على أقرانه.

مقرئ الإذاعة العراقية

في سنة 1937، عين خليل إسماعيل بجامع السراي في بغداد، ليشغل بعدها رئاسة محفل القراء في جامع الإمام أبي حنيفة النعمان، وأخذ ينتقل إلى عدة جوامع منها جامع الشيخ صندل وجامع شهاب الدين السهروردي، وكان آخر المطاف في جامع البنية.

وفي سنة 1941، تقدم الشيخ خليل إسماعيل ليكون مقرئاً في دار الإذاعة العراقية، وكانت أول تلاوة له في يوم 11 سبتمبر 1941 وكانت من سورة المؤمنون، وكان البث في دار الإذاعة حينها على الهواء مباشرة، حينها سحر سامعيه ووصل صوته للعراقيين كافة، وبدأت شهرته تزداد، باتساع نطاق بث الإذاعة العراقية التي بدأ الكثيرون من أصحاب محلات بيع الأسطوانات تسجيل تلاوات الحافظ التي تبثها، وبعد أشهر عدة أصبح المقرئ الأول للإذاعة ذاتها.

وفي عام 1942، وجه الأستاذ الكبير نشأت السنوي دعوة إلى دار الإذاعة يدعوهم فيها إلى الرعاية والعناية بالمقرئين في دار الإذاعة وإلى توجيه الدعوة لجميع المقرئين في الإذاعة للحضور إلى ديوان مديرية الأوقاف لإجراء الاختبار والامتحان لمن يستحق أن يلقب بلقب الحافظ، لأن كلمة الحافظ تعني معرفته لعلوم القرآن الكريم، وبعد إجراء الاختبار والتمحيص من لجنة ألفت من ثلاثة من كبار العلماء وممثل عن الأوقاف وآخر عن وزارة العدل وقاضي بغداد وكاتب المجلس وكان أحدهم الحافظ سيد الجوادي وهو من أهالي الموصل، وكان مقرئاً آنذاك في دار الإذاعة، والوحيد الذي استطاع الحصول على هذا اللقب في ذلك الامتحان هو الحافظ خليل إسماعيل، لذا فإنه لم ينل لقب الحافظ اعتباطاً أو مجرد صدفة بل ناله بجدارة واستحقاق عاليين.

امتازت قراءة شيخ القراء العراقيين بنغمتها البغدادية لما لهذه القراءة من جذور عند قرّاء بغداد القدامى، فسجل إسماعيل القرآن الكريم مرتلا بالكامل، وأشاد به الكثيرون من علماء الدين في أنحاء العالم بكامله ووصفوه بأجمل الأوصاف، حيث قال عنه المغني والموسيقار الكبير محمد القبانجي “إن في صوته سحرا عجيبا وهو مقرئ العراق الأول دون منازع، نحن جميعاً أذلاّء بيد المقام العراقي، ولكن المقام ذليل بيد الحافظ خليل”.

المستمع اليوم إلى تسجيلات الحافظ خليل إسماعيل، لا يصدق أنه سيسمع من ذلك الرجل تجويدا قرآنيا على أغلب المقامات والنغمات ومنها نغمة مقام الحجازكار، نغمة مقام الراست، نغمة مقام الحجاز كرد، نغمة مقام الحجاز نهاوند، نغمة مقام الصبا، نغمة مقام العجم عشيران، نغمة مقام الخنبات، نغمة مقام الحديدي، نغمة مقام المنصوري، وغيرها من المقامات والنغمات

وتر الكمان

الموسيقار الكبير سامي الشوا خاطب الحافظ خليل بقوله “أنت التراث وتراثكم في التلاوات هو الأصل، ولقد زرت عدة أقطار ولم أسمع بمثل هذا التراث العظيم”.

أما العلامة الشيخ جلال الحنفي فقد رأى أن الحافظ خليل إسماعيل يعد أرشيفا للأنغام البغدادية يجيد استعمالها ويحسن التجوال على أرجائها قرارا وميانة “وما من نغمة يتقنها قدامى المقرئين إلا كان الحافظ خليل في هذا المدخل تصل درجته إلى تسعين درجة وهي درجة عالية لا يرقى إليها سوى العدد القليل في العالم”.

وفي العام 1951، عندما زار العراق المقرئ الشيخ عبدالفتاح الشعشاعي، قال بحقه “إني لم أطرب ولم أكن أسمع مثل الحافظ خليل” ووصفه بأنه “وتر الكمان”.

“بستان الأنغام العراقية” كان من أجمل الألقاب التي نالها الحافظ خليل إسماعيل، والذي أطلق هذا اللقب عليه، كان محمد القبانجي بسبب إتقان الحافظ وترتيله القرآن على نغم ومقام الزنكران، الذي لم يجرؤ أحد من المقرئين على أن يقرأه، وذلك لصعوبة أدائه وترتيله، ولكن الحافظ إسماعيل قرأه بكل إتقان ودقة متناهية، كانت قراءته تصويرية لمعاني الآيات تؤثر بالسامعين والسبب في ذلك قوله “إنني عندما أقرا القرآن الكريم أجعل أمامي قول النبي (ص) “زيّنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا”.

وكان هذا من الأسباب التي تشجّعه على القراءة وفق الأنغام المقامية البغدادية الأصيلة، كما كان تشجيع الحاج نجم الدين الواعظ له فعله المؤثر في نفس الحافظ، فقد كان يحب تلاوته ويحب أن يسمع منه مقام الخلوتي من الماهوري والحويزاوي والمخالف والبهيرزاوي، أما الشيخ قاسم القيسي كان يحب أن يسمع منه قراءة القرآن الكريم على نغمة التوريز.

أتقن خليل إسماعيل التجويد على أغلب المقامات والنغمات ومنها نغمة مقام الحجازكار، نغمة مقام الراست، نغمة مقام الحجاز كرد، نغمة مقام الحجاز نهاوند، نغمة مقام الصبا، نغمة مقام العجم عشيران، نغمة مقام الخنبات، نغمة مقام الحديدي، نغمة مقام المنصوري، وغيرها من المقامات والنغمات.

المدرسة الخليلية

أصاب الحافظ مرض عضال ولم يمهله طويلا، فتوفي يوم الأربعاء الخامس من يوليو من العام 2000، وفي صباح اليوم التالي شيعت بغداد مرتلها وشيخ قرائها الحافظ خليل من جامع المعز تشييعاً مهيباً إلى مثواه الأخير في مقبرة الكرخ، ويتقدمهم العلماء والأحباب والكتاب والشعراء والمقرئين والمواطنين، وبدأ أقرباؤه بحفظ وأرشفة كل تسجيلاته لتتناقلها الأجيال حتى يومنا هذا، حيث أصبح تداولها أسهل من ذي قبل، بسبب انتشار الشبكة العنقودية، ونشوء مواقع التواصل الاجتماعي، وتكون متاحة بشكل أوسع لمتذوّقي التجويد، ولتكون هذه التسجيلات مراجع لطلاب العلم في تلاوة القرآن الكريم.

كان الحافظ خليل اسماعيل أحد عمالقة القراء، فهو كبير مدرسة التلاوة العراقية في القرن العشرين، حتى أن تلاواته أصبحت تسمى المدرسة الخليلية لما احتوته من أساليب رفيعة ونغمات وألحان وتلاوين غنية كل الغنى لمن أراد أن ينهل من كنوزها ويتمتع بسماعها.