العالم في عين إميلي برونتي

العالم في عين إميلي برونتي

ترجمة وتقديم: د. ماجد الحيدر

شاعرة وروائية إنكليزية. ربما كانت إميلي أعظم الأخوات برونتي الثلاث (شارلوت وجين وآن) لكننا لا نعرف عن حياتها إلا النزر اليسير، إذ كانت في الغالب متحفظة كتوم ولم تترك مراسلات ذات أهمية، كما أن روايتها الوحيدة “مرتفعات وذرنغ” لا تلقي إلا مزيدا من الغموض على حياتها الروحية.

كان والد الأخوات برونتي رجل دين أيرلنديا تمتع بعمر ناهز الخامسة والثمانين غير أنه فقد زوجته وجميع أبنائه في أعمار مبكرة. بعد رحيل الأم تركت الشقيقات الثلاث وأخوهن “باتريك” ليمارسوا حياة طليقة في منطقة المرتفعات الجرداء العائدة للأبرشية التي عمل فيها الأب. تلقت إميلي – كشأن شقيقاتها- تعليما مدرسيا تخللته دراسة خارجية غير منتظمة ورحلة دراسية قصيرة الى بلجيكا استعدادا لتجربة حظهن في ممارسة التعليم أو تربية الأطفال بشكل متقطع. في عام 1845 نشرت الشقيقات مجموعة شعرية مشتركة بأسماء مستعارة ولم يبع منها سوى نسختين. غير أنهن فاجأن الأوساط الأدبية بنشرهن ثلاث روايات عام 1847: “جين آير” لشارلوت، “مرتفعات وذرنغ” لإميلي، و”أغنز غراي” لآن. ورغم أن رواية شارلوت لاقت نجاحا فوريا هائلا فإن النقاد لم يستقبلوا رواية إميلي استقبالا حسنا فهاجموها باعتبارها شديدة الوحشية والبهيمية وخرقاء في بنائها. غير أن الآراء اللاحقة عدتها واحدة من أعظم الروايات في تاريخ الأدب الإنكليزي. تتميز هذه الرواية عن معاصراتها ببنائها غير العادي وأسلوبها الرومانسي والدرامي وغياب أية تعليقات من المؤلف. وتختلف إميلي عن شقيقتيها بعدم توظيف تفاصيل حياتها الخاصة أو المصادفات المبالغ فيها وكون مشاهد الأحداث محدودة وقلة عدد الشخصيات التي تتحرك بدوافع عميقة وبدائية من الحب والكراهية حتى تصل الى نهاياتها المنطقية.

وأميلي برونتي تميل في شعرها الى الغموض والصوفية والتساؤلات العميقة عن طبيعة الحياة ومغزاها.

عانت إميلي بعيد نشر رواتها تدهورا سريعا في صحتها وأصبحت تقاسي آلاما شديدة وصعوبة في التنفس وما لبثت أن فارقت الحياة بمرض السل أواخر عام 1848.

«1»

أواجَه بالتعنيف

أواجَه بالتعنيف كثيراً

لكني أعود دوما

الى تلك المشاعر الأولى التي ولدت معي

وأهجر السعي المحموم للثروة والمعرفة

نحو أحلامٍ عقيمةٍ بأشياء لا يمكن تحقيقها

اليوم لن أقصد الأقاليم الظليلة

فاتساعها الموهن يفاقم الحزن

والرؤى التي تنهض جحفلاً بعد جحفلٍ

تدني الى حد عجيب

هذا العالم الموهوم

سأمشي ولكن ليس فوق آثار الخطى البطولية

ولا مسالك الخلق النبيل

ولا بين الأوجه النصف الواضحة

تلك الأشكال الغائمة لتاريخ غابر قديم

سأمشي الى حيث تقودني طبيعتي أنا

وإنها لتدفعني لاختيار دليل آخر

الى حيث ترتع القطعان الرمادية

في الوديان الصغيرة التي يغمرها السرخس

الى حيث تنفخ الريح الجموح بوجه الجبل

هذه الجبال الوحيدة

ماذا بوسعها أن تكشف ؟

مجداً أعظم وحزناً أشد مما في وسعي إحصاؤه

والأرض التي توقظ الإحساس بقلب إنسان واحد

قادرة أن تكون مرتكزا

بين عالمين من جنةٍ ونار

«2»

الذكرى

والآن إذ يلف الثرى

جسدك البارد

ويرتفع الثلج من فوقك أكواما

وإذ أنت بعيد بعيد

في الجدث البارد الكئيب

هل نسيت أن أحبك.. يا حبي الوحيد

وقد فرقتنا أخيرا

أمواج الزمن التي تفرق كل شيء ؟

والآن وأنا وحيدة

هل كفت أفكاري عن التحليق فوق الجبال

وفوق ذاك الشاطئ الشمالي

وإرخاء جناحيها حيث الخلنج

وأوراق السرخس التي تغطي

القلب النبيل الى أبد الدهر ؟

بارد أنت في الثرى.

عشرة أشتية موحشة مرت

فوق هذه التلال السمراء

تلتها خمس أخريات

واستحالت كلها الى ربيع.

مخلص حقا هو القلب الذي يتذكر

بعد هكذا أعوام من الشقاء والتحول.

أيا حب الشبيبة العذب

سامحني إن نسيتك يوما

إذ يجرفني موج الحياة

إن آمالا أخرى تحيط بي

آمالا ورغائب غامضات

لكنها لن تستطيع إيذاءك !

لم يضئ سمائي نور جديد

لم يشرق من أجلي صباح ثان

نعيم حياتي كله من حياتك العزيزة جاءني

ونعيم حياتي كله يرقد الآن معك.

ولكن حين مضت أيام الأحلام الذهبية

ولم يعد اليأس نفسه قادرا على التدمير

تعلمت ساعتها كيف أن الوجود

قد يكون عزيزا قويا

دون عون من السرور.

عندها كبحت دموع العواطف التي لا تجدي

وفطمت روحي الفتية من حنيني إليك

وأنكرت في قسوة

حرقتها لنزول الحفرة التي

هي ملكي وأكثر من ملكي

لكني لا أجرؤ على تركها للتواني

لا أجرؤ على الانغماس

في ألم الذكريات الشجي

إذ كيف لي وقد شربت حد الثمالة

من كأس الألم السماوي ذاك

أن أسعى وراء العالم الأجوف من جديد ؟

«3»

الرواقي القديم

الثروة مزدراة بعيني

والحب أراه بعين الاستخفاف

وما شهوة المجد غير أضغاث أحلام

زالت مع الصباح

وإذا صليت فما من دعاء على شفاهي إلا:

«ذر القلب الذي أحمل بين الضلوع

وامنحني الحرية»

نعم، وإذ تدنو أيامي المسرعات لغايتها

فهذا كل ما أرجو:

روحاً طليقا في الموت والحياة

وشجاعة على الاحتمال.