مرتفعات ويذرنغ  رواية واحدة وأفلام كثيرة

مرتفعات ويذرنغ رواية واحدة وأفلام كثيرة

رحمن خضير عباس

إميل برونتي هي إحدى ثلاث شقيقات مبدعات كتبن أجمل الأعمال الروائية، وقد عشن في سهوب يوركاشير في بيئة دينية متزمتة. لذا فقد كتبت أميلي روايتها وهي في السابعة والعشرين باسم مستعار (أليس بيل)، لأن النساء غير مسموح لهن بالكتابة آنذاك، حتى قال أحد النقاد عن كاتب الرواية المزعوم: «إنّه ذو مواهب استثنائية، لكنه وغدٌ، وحشيٌ ومكتئب».

تبدأ الرواية بالحديث عن شخص اسمه لوكوود، وهو ساكن جديد استأجر بيتا ريفيا قريبا من قصر مرتفعات ويذرنغ، وحينما كان يتسكع قرب القصر هبّت عاصفة ثلجية جعلته يلجأ إلى قصر هيثكليف، لأنه لا يستطيع العودة إلى بيته، ورغم جلافة استقبال هيثكليف له، ولكنه وافق على مضض أن يمنح الضيف غرفة في القصر ليقضي ليلة العاصفة. وفي الليل يسمع صوتا نسائيا مفجوعا ويرى امرأة شابة تستحلفه أن يفتح الباب. وتتشبث بيديه عبر زجاج النافذة وحينما يهرع فزعا، تحكي له خادمة البيت نيلي بأن هذه الأمرأة ماهي إلا شبح كاثرين التي ماتت قبل عشرين عاما، وتبدأ بسرد قصة القصر وأسراره على هذا الرجل الغريب، وهكذا فإن الكاتبة تلجأ إلى تنوع مستوى السرد على لسان المربية نيلي، وعلى لسان لوكوود نفسه.

والقصة تبدأ من خلال سيد قصر مرتفعات ويذررنغ ايرنشو والذي سافر إلى مدينة ليفربول، وقد وعد طفليه هنتلي وكاثرين بأن يجلب لهما هديتين، ولكنه بدلا من ذلك فقد جلب طفلا غجريا، أسمر اللون وجده متشردا في أزقة ليفربول، مما أثار حفيظة هنتلي الذي رفضه وتملكته الغيرة منه، بسبب تعاطف الأب مع الصغير، حيث رعاه ومنحه اسم هيثكليف، تيمنا بابنه البكر الذي مات قبل سنوات. وبعد ذلك يسافر هنتلي الابن الكبير للدراسة، وفي غيابه يموت الأب، فيعود هنتلي ليعتبر نفسه سيدا للبيت، ويعامل هيثكليف ليس كأخ بالتبني وإنما كخادم، ويمارس معه كل أنواع الإذلال والتعذيب الجسدي والنفسي.

أما كاثرين فقد ترعرعت مع هيثيكليف، ونشأت بينهما أواصر من المحبة الطفولية، والتي تحولت بمرور الوقت إلى حب حقيقي. وفي إحدى مغامرات هيثيكلف وكاثرين الصبيانية، يتسللان إلى قصر جيرانهم السيد إدجار نيلتون، فتهاجمهما كلاب الحراسة، وتبقى كاثرين في قصر الجيران لإسعاف جرحها، مما جعل ادجار الشاب الوسيم، وهو الوريث لقصر نيلتون ينجذب إليها، ويطلب يدها للزواج، فتصارح كاثرين المربية إيلين بمشاعر الاعجاب المتبادل بينها وبين إدجار. وحينما استفسرت عن حبها الأول قالت لها كاثرين بأن “لا أحد يستطيع أن يتزوج هيثيكليف، إنه حيوان وحشي”، ولم تعلم أنّه كان يسترق السمع إلى كامل أقوالها. لذلك فقد غادر مرتفعات ويذرنغ إلى جهة مجهولة، وكادت كاثرين أن تُجن وهي تبحث عنه. وحينما استغربت نيلي من سلوكها المتناقض، صرخت كاثرين بلوعة “أنا لا أحب هيثكليف فحسب، وإنما هو أنا”. وهذا التعبير يرتقي إلى الإتحاد الحقيقي، والذوبان في ذات المحبوب.

وبعد أنْ يئست كاثرين من عودته، تزوجت من إدجار وانتقلت إلى قصره. وبعد ثلاث سنوات يعود هيثكليف بشخصية الغني المنتصر، فقد كسب ثروة من سفره، وقد وجد هنتلي الذي أنفق ثروته في القمار والخمر، مما جعل هيثكليف يساوم هيندلي ويشتري منه القصر، ويحوّله إلى خادم، ثم أغوى ايزابيلا شقيقة إدجار، وطلب منها الزواج، لا حبا بها، بل ليمارس لعبة الانتقام من أخيها الذي تزوج حبيبته، وعاملها بقسوة كما يُعامل العبيد، فبقيت تعاني من جحيمه ومن الخجل من موقفها، لأن زواجها كان ضد رغبة أخيها إدجار.

أما كاثرين فكانت تعيش على حافة الحياة بين حبها الجنوني لهيثكليف وبين واجباتها الأخلاقية كزوجة لإدجار. لذلك فقد كانت تعاني من جنون الانفصام بين الغريزة وبين الواجب، ومرضت وهي حامل، وقد ماتت لحظة ولادتها لطفلتها الصغيرة التي سميت بكاثرين أيضا. أما هيثكليف فقد عاش معذبا بعد موتها وتحول إلى مسخ بشري، يعيش على وهم كاثرين.

«لقد فقد الانتقام لذته، أشعر أني أصارع أمواجا عاتية ولم يبق لي سوى مسافة قصيرة حتى أصل إلى الشاطئ... لقد بلغتُ جنتي ولا حاجة لي بجنة الآخرين».

وهذا يفسر سلوكه الفظ مع جميع من يلتقي بهم، لأن الخذلان في حبه قد تحول إلى حقد على كل شيء.

بعد غياب طويل تذهب المربية نيلي مع كاثي التي أصبح عمرها عشرين عاما، وما أن يراها هيثكليف حتى يحبسها ويجبرها على الزواج من ابنه، كي تعود أملاك قصر أبيها ادجار لينتون إليه. وهكذا تنتهي الرواية التي تحدثت عن ثلاثة أجيال، عاشت وماتت في هذه البيئة المعزولة وهم يواجهون أقدارهم.

لقد كتبت إميلي برونتي أعمق العواطف في هذه الرواية اليتيمة، مع أنها لا تمتلك تجربة في الحياة والحب، لكنّ رؤيتها الثاقبة تسللت إلى أعماق أبطالها، فوضعتهم تحت المجهر، وأظهرت من خلالهم صراعا حادا بين الحب والقسوة والحقد، وكأن هذه العواطف قد تحولت إلى زوابع تقتلعهم، وتجعلهم ضائعين في أفلاك مجهولة. كان هيثكليف كالبركان الذي يرمي حمم الشر. فكيف يمكن للحب والكره، والوداعة والشراسة أن يجتمعا معا في شخص واحد؟ وكأنه مجموعة من المجسمات الحادة التي تتصارع في ما بينها. فقد تحمّل كل أنواع العذاب من أجل كاثرين، ولكنه في نفس الوقت كان مشحونا بكراهية من سواها.

أما كاثرين فلا تختلف عنه في تعقيد شخصيتها، فهي تهيم به إلى حد الجنون، وفي نفس الوقت ترى بأنه قذر وبدائي، وحينما تحتج المربية نيلي على تسرعها في زواج إدجار، تفسر كاثرين ذلك بشكل غريب ترد عليها بقلب مفجوع:

«زواجي بادجار هو الفرصة الوحيدة للحصول على هيثكليف بعيدا عن هيندلي، ثم نصبح أحرارا».

وحينما يعود بعد ثلاث سنين، تجده قد تبدل تماما في أناقته وثرائه وغموضه، ولكنها لم تكترث للتغيير، وإنما شعرت أن روحها التي تشظت قد عادت إليها، ولكنها من زاوية أخرى تعيش مع شخص في زواج لا علاقة له بالحب، لذلك تعرضت لأعنف صراع تعيشه امرأة، بين غريزة الحب البدائي وبين مؤسسة الزواج وقدسيتها، لذلك فقد ذوت كبرعم فقد ما يغدي نسغه من الماء، وماتت في لحظة الطلق وهي تتمخض لإنجاب طفلتها كاثرين.

أما شخصية هندلي، فهي هشة حقودة، تقوده شهواته في الإدمان على الخمر والقمار إلى الحضيض، فيفقد المال والجاه والزوجة والأولاد، لأنه شخصية تافهة لم تستطع أن تواجه مصيرها بشجاعة.

لقد كتبت برونتي روايتها بلغة أقرب إلى الشعر، باحثة عن الكمال المستحيل.

منذ عشرينيات القرن الماضي والسينما تتهافت على التزود من معين هذه الرواية. وأول فيلم تعرض للرواية عام 1920 كان صامتا، وبعد عقدين تقريبا أي عام 1939 استطاع المخرج الأميركي وليم يلر أن يحول الرواية إلى فيلم حصل في وقتها على الأوسكار. وفي 1970 كانت السينما الملونة قد قدمت الرواية بثوب جديد من إخراج روبرت فبوست، الذي تناول الأجزاء الأولى من الرواية والتي تبدأ من خلال مراسم دفن كاثرين. وكان هيثكليف يراقب المشهد بحزن. وحينما غادر المشيعون ذهب إلى جثمانها ليحتضنه وينام إلى جانبه إلى الأبد. كما أكد الفيلم على البيئة الصخرية المعزولة، وقد أهمل الفيلم الكثير من التفاصيل، وتناول شغف عاطفة الحب، وقد أظهر ادجار بمظهر الرجل الهزيل الشخصية.

أما الفيلم الذي أخرجته أنريا أرنولد، فقد كانت لها رؤية أخرى، فقد جعلت من هيثكليف أسود البشرة، وذلك لأن ليفربول كان ميناءً للعبيد آنذاك. وقد ربطت ما بين عبودية المرأة وبين عبودية العرق، وكأن الروح المتوثبة والمعذبة لهثكليف ما هي إلا صدى لروح أميلي برونتي التي تبحث عن الانعتاق. وقد كان الإخراج في مستوى عال، رغم أنّ المخرجة لم توفق في رسم شخصية الأب إيرنشو، فقد أظهرته شابا قاسيا، على عكس الرواية التي أكدت طيبته، وتعاطفه مع هيثكليف، واعتبره ابنه بالتبني رغم اعتراضات هنتلي.

أما الفيلم الذي تم إخراجه في عام 1992 فقد جعل “مرتفعات ويذرنج” ذات بيئة قارسة البرد وثلجية، وقد تعاطف مع شخصية هيثكليف أكثر من إدجار. وقد رسم الأجواء التقليدية للطبقات الارستقراطية، في الرقص والموسيقى، وطبيعة الاكسسوار. أي أن المخرج استطاع أن يقبض على روح العصر ويكشف تناقضاته الصارخة، بين الثروة المتوارثة لبعض البشر، والتي تأتيهم من خلال ملعقة ذهبية، ولكنّ بعضهم لا يدركون قيمتها، لأنهم لم يدركوا متاعب الحياة، لذلك يتم التفريط بها، كما هو حال هندلي الذي كان سيدا للمرتفعات، ولكنه أصبح ضحية لرغباته الرخيصة في المقامرة والخمر فخسر حياته وأملاكه وانتهى مشردا. أما أدجار الذي ورث ثروة عائلة نيلتون، فتراه شخصية تقليدية لا تمتلك العمق الإنساني، فيعيش على فُتات العواطف، فهو يحب كاثرين مع علمه بجنون حبها لهثيكليف، وقد بقي أسيرا لشخصيته الضعيفة التي تتأرجح ما بين النبل والوضاعة.

جميع الأفلام طرحت رؤية جديدة عن الرواية، ولم تلتزم بها، لأن الرواية تُسهب في تسلسل الأحداث وتطورها، ولذلك كانت نهاية هيثكليف تختلف من فيلم إلى آخر، وكذلك نهاية هيندلي، وهذا شيء طبيعي لأن أي فيلم لا يريد أن يكون نسخة مكررة من الرواية، ومع أن ذلك يفقد الفيلم التزامه بمجريات العمل الأصلي، ولكنه يمنحه حرارة الإبداع. ومن زاوية أخرى،يمكن القول إنّ هذه الأفلام لم تكن وفيّة لروح الرواية، لأنها ركّزت على المنحى الغرامي بين هيثكليف وكاثرين، اللذين اتحدا بحب روحي أشبه بالحب العذري، أو ما يُشبه عشق روميو وجولييت، ولم تلامس أغلب هذه الأفلام روح الرواية، تلك الروح التي تبحث عن الخلاص والانعتاق، في مجتمع يؤمن بقيود متحجرة. وفي وسط عزلة لا نهائية، تمتد من الغرف المغلقة في داخل البيوت المعتمة، وتنتهي بقسوة الطبيعة وحدّتها.

لقد كانت أميل برونتي تبحث عن الحرية التي تجعل الإنسان يتطهر من رجس أفعاله، وما جنون الحب إلا جزء من هذا البحث عن الحرية، لذلك اكتسب عملها صفة الخلود.