حدثني الاستاذ الزهاوي:كيف أبعدني السلطان عبد الحميد الى بغداد؟!

حدثني الاستاذ الزهاوي:كيف أبعدني السلطان عبد الحميد الى بغداد؟!

أنور شاؤول

حدثني الاستاذ الزهاوي، انه خلال شهر كانون الاول من عام 1896 يوم كان بعيداً عن دياره واقاربه، يراقب بعيني شاعريته الحساسة اشباح الظلم والاستبداد تبدو باشكال مؤسفة مرعبة.

وجميل الزهاوي يومذاك يسكن الاستانة التي كانت تغلي، بما فيها من ظلم وتعسف وجور واستبداد غليان المرجل، وفي غربته هذه كان الشاعر يذكر وطنه النائي وما يعانيه من الاهوال تحت ضغط المتجبرين المهيمنين، فيخفق قلبه وتدمع عيناه! وللشباب نزوات وطموح، وللغربة وحشة تبعث على التفكير العميق. والقلب الذي يفتح نوافذه للحب، سيما قلب الشاعر، يسمح لاشعة الحكمة والحق بالولوج.

وكان جميل الزهاوي يشعر بفراغ في روحه، فيرجو ملأه، لذلك فهو يريد ان يحب، يريد ان يطير صيته يريد مقاومة الاستبداد ويريد امورا جسيمة يضيق بها خياله الشعري.

وقد كان يجد في نفسه ميلا شديداً لمناصرة الترك الاحرار الذين اخذوا يسعون لهدم قلاع الاستبداد الحميدي فكان يجتمع بهم بين حين وآخر عاملا معهم يداً بيد.

***

الساعة التاسعة زوالية ليلا والقاعة خالية إلا من شخص يخطر فيها ذهاباً واياباً وما هي الا هنيهة حتى طرق الباب طرقتين خفيفتين ثم سمع من الخارخ صوتا خافتا يقول بالتركية:

«الحرية نعشقها، الحق ينصرنا” سمع صاحبنا هذا الكلام فاسرع وفتح الباب غاضباً على زر خفي فدخل شاب طويل القامة نحيف البنية وقبل ان يرفع التحية طرق الباب ثانيا طرقتين خفيفتين وسمع صوت يقول:

«الحرية نعشقها، الحق ينصرنا” وفتح الباب فدخل شخص ثان، وبعد بضع دقائق اصبح في القاعة ما يقارب العشرة اشخاص بينهم جميل الزهاوي وعبيد الله البغدادي وعبد الحميد الزهراوي وعدد من الاتراك الاحرار وانبرى رب المحل مفتتحا هذا الاجتماع السري لخطير الذي كانوا يرمون من ورائه وضع الخطط لمقاومة الاستبداد الحميدي الهائل فالقى خطبة مسهبة عن سوء التصرف المتفشي في الامبراطورية العثمانية محرضا رفقاءه الزعماء على ان ينهضوا للدفاع عن الحق والحرية الى ان قال:

- وانا ادعو الرفاق لابداء ارائهم فان المناقشة في مثل هذه الظروف لمن اهم الامور.

فانبرى المتآمرون واحداً فواحداً يجيبون على خطاب الرئيس الذي لم يكن سوى “صفا بك” الشاعر التركي المعروف وعندما جاءت دورة جميل نهض صفا بك قائلاً:

- كلنا هنا نحسن العربية فالاوفق لرفيقنا الزهاوي ان يلقي خطابه بلغة بلاده.

فانطلق الزهاوي يدفعه الحماس، ويرشده الحب الوطني، ملقياً خطاباً ندد فيه بمظالم عبد الحميد حاثا اصحابه على الاستماتة في سبيل التحرر من هذا النير حتى قال:

- اولا ترون ان حياة الذل والخنوع لاهون منها الموت، نحن قوم كرام نريد ان نحيا بحرية وطمأنينة وما نريده حق من حقوقنا المشروعة ايموت الشعب كداً وتعباً ليتنعم امراء يلدز في مقصوراتهم حيث الخلاعة والفجور، في ذمة الله تلك الارواح الطاهرة التي ازهقت على غير جرم او ذنب! لنمت في سبيل الحرية! ليسقط الظالمون!

وكان قد اخذ منه التأثر كل مأخذ وما لبث ان شرع في انشاد قصيدة يخاطب بها عبد الحميد حتى اذا قال:

تمهل قليلا لا تغظ امة اذا

تحرك فيها الغيظ لا تمهل

وايديك ان طالت فلا تغترر بها

فان يد الايام منهن اطول بدا الانزعاج على وجهه فارتمى على مقعد قريب خائر القوى.. وفي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل خرج الرفاق مثنى وثلاث وكان قد رافق الزهاوي في خروجه شخص يسمى عماد الدين بك تعرف به منذ اسبوعين في مثل هذا الاجتماع السري وكان عماد الدين بك هذا لا ينفك مظهرا اعجابه بالزهاوي.

وقبل ان يفترقا عن بعضهما قال البك:

- اودعك يا عزيزي شاعر دجلة وحذار ان تنسى موعدنا غداً لتناول العشاء في دارنا فاجابه جميل مداعباً:

اتدعوني الى العشاء، اذن سانقطع عن الاكل منذ هذه الدقيقة كيما يتسنى لي افراغ كافة الصحون!

وافترقنا...

***

وكان مساء الغد فجلس عماد الدين ينتظر الزهاوي الذي لم يلبث ان اقبل عليه هاشاً باشاً.

وقدم الطعام شهيا فاكل الصديقان بين المداعبات والممازحة وكان يثلثهما شخص غريب ادعى عماد الدين انه شقيقه.

واذ ابصر صاحب البيت ان الزهاوي فرغ من الطعام، قاده الى غرفة قريبة قائلا:

- هذه هي قاعة الاغتسال.

فدخلها جميل وحده متقدما الى الحنفية لغسل يديه وفمه، وما كاد يحرك الحنفية حتى هبطت به ارض القاعة وسرعان ما ابصر نفسه في قفص حديدي ضيق.

واستولى الرعب على جميل من جراء هذه المباغتة المزعجة، ولكنه تجلد وما لبث ان سمع صوت عماد الدين يقول:

- لقد وقعت اليوم في ايدي اعوان جلالة الخليفة عبد الحميد، فانتظر صدور الحكم ايها المغرور.

بعد مرور ثلاثة اشهر على هذه الواقعة كان جميل الزهاوي في داره القائمة في محلة ميدان بغداد يقص على بعض الاصدقاء المقربين طرفا مما صادفه في الاستانة من الاهوال وكيف ان السلطة العثمانية ابعدته الى بغداد مخفوراً.. فقال له صديق حميم:

- واليوم، الم تزل تحاول مقاومة عبد الحميد واتباعه، فاجاب جميل بافتخار وشمم.

- ساقاومهم حتى النفس الاخير وليس بعيداً ذلك اليوم الذي سيعلم به الظالمون اي منقلب ينقلبون!

م. الحاصد 1937