صديقي ..  مفكر  رودان!

صديقي .. مفكر رودان!

د خالد السلطاني

أتقصد المرور، سواء عندما كنت في السابق، اعود من “كليتي”: مدرسة العمارة في كوبنهاغن (حيث عملت باحثا/ زائرا فيها)، أو، الان، بكوني قارئ دائم في المكتبة الملكية؛ أتقصد ان امرّ على “صديقي” تمثال <المفكر> The Thinker للنحات الفرنسي “أوغوست رودان” (1840 -1917 Rodin،

الموجود في الحديقة الخلفية الانيقة لمتحف “نو كارلسبيرغ غلوبتوتيك، المتحف الفني المعروف في العاصمة الدانمركية، وانا راجع الى بيتي عبر “المحطة المركزية” حيث قطاراتها المتوجه صوب محل سكناي. ولئن وصفت منحوتة رودان “بالصديق”، فما هذا الا تعبيراً صادقاً لما اكنه تجاهها وتجاه اسلوبها الفني؛ هي التى تمنحني كلما مررت بجانبها إحساساً بمتعة جمالية عميقة، وتغمرني بفيض من الفة حميمية أنِس بها واعتدت عليها لكثرة مشاهدتها والتمعن بتفاصيلها. وهذا كله اسس لوشائج “صداقة” عميقة بيننا، جعلني لا افوت فرصة لرؤية صديقي المفكر (“شوفته”..كما نقول بالعراقي!) كلما مررت بتلك الحديقة الآسرة المزهرة دوما، او كنت بالقرب منها. لكني اود ابتداء ان احدثكم، ولو بعجالة، عن المتحف اياه قبل الحديث عن منحوتة “صديقي” المفكر.

ثمة تاريخ حافل بالاحداث المثيرة، ينطوي عليه تاريخ المتحف الكوبنهاغني المعروف عالميا نظرا لمقتناياته الفنية الهامة. ولم تكن بداياته الاولى تشي بما وصل اليه المتحف من مكانة وشهرة استحقهما بجدارة لاحقا. اذ تعود “حكاية” متحف “نو كارلسبيرغ غلوبتوتيك” الى سنة 1882، عندما افتتح رجل الاعمال الثري ومقتني القطع الفنية الشغوف “كارل ياكبسون” (1842 - 1914) Carl Jacobsen <وهو بالمناسبة وريث وابن مؤسس مصانع البيرة المعروفة على نطاق واسع “كارلسبيرغ» Carlsberg> افتتح في موقع سكناه “قاعة فنية” تحتوي مقتنياته الفنية لاول مرة للجمهور، بعد ان اكتظت جدران منزله بنماذج عديدة من مقتناياته للفن الفرنسي والدانمركي تعود الى القرن التاسع عشر. وفي سنة 1888، يهدي مقتني اللوحات الموسر “كارل ياكبسون” ذاته جميع لوحاته التى جمعها عبر سنين طويلة الى الشعب الدانمركي، على ان تشيد الحكومة الدانمركية متحفا خاصا بها. واختير موقع للمتحف خارج اسوار كوبنهاغن وقتها، بالقرب من حدائق “تيفولي” الشهيرة التى تأسست سنة 1843. لم يكن “ياكبسون” راضيا عن الموقع المختار، اذ اراد ان يكون مبنى المتحف ضمن ابنية وسط المدينة، كما لم تعجبه فكرة جوار متحفه مع “التيفولي” التى وجدها جد ترفيهية وبنكهة شعبوية. لكنه في الاخير اعطى موافقته على الموقع، وتم انشاء المتحف الذي أفتتح سنة 1897 باسم “نو كارلسبيرغ غلوبتوتيك”. وتعني كلمة “نو” <الجديد> بالدانمركية، في حين يذهب جذر “ غلوبتوتيك” الى اللغة الاغريقية، وتعني “ينحت، او مكانا للنحت والتزيين”. وعندما اهدى “كارل ياكبسون”، مرة اخرى، سنة 1899 مجموعته النحتية المتكونة من اعمال نحتية عديدة تعود الى حضارات البحر الابيض المتوسط كمصر واليونان وايطاليا وغير ذلك من الدول والحضارات، كان لزاما ولا بد ان يتوسع مبنى المتحف باضافة جناح جديد افتتح سنة 1906، متكون من اربع قاعات كبيرة تتصل مع مبنى المتحف الاول من خلال “حديقة شتوية” رائعة، تعد الان من مباهج “مقتنيات” المتحف، والمكان الاثير لراحة كثر من زوار المتحف وموظفيه. وفي فضاء الحديقة الخلفية لهذة التوسعة الثانية، تنهض منحوتة “المفكر” لأوغوست رودان في الهواء الطلق.

في سنة 1996 يضيف المعمار الدانمركي المعروف “هيينغ لارسن” توسعة جديدة الى المتحف، من مفرداتها الاساسية “سلم” رخامي مدهش يصل احياز تلك التوسعة ويربطها مع بعضها. واعترف باني مفتون بـ <عمارة> هذا “السلم”ـ الذي يذكرني، كلما اكون عنده، بمقولة “لو كوربوزيه” المجنحة، من ان “العمارة»

ماهي الا مقدرة لتصميم “سلم”! كما خضع مبنى المتحف سنة 2006 الى اجراءات تجديدية واسعة تحت اشراف مكاتب استشارية دانمركية مرموقة.

تشمل مقتنيات المتحف في الوقت الحاضر على نماذج من المنحوتات الكلاسيكية اليونانية والرومانية فضلا على منحوتات من مصر ونماذج طبق الاصل لاعمال حضارات مختلفة بضمنها حضارة وادي الرافدين. لكن ما يجعل متحف “نو كارلسبيرغ غلوبتوتيك” مميزا هو مجموعته الانطباعية الفرنسية الغنية وكذلك ما بعد الانطباعية بالاضافة الى لوحات “العصر الذهبي” من الفن الدانمركي. ثمة اعمال متفردة في المتحف للفنانيين امثال “فينسينت فان كوخ “ و تولوز لو تريك” و”إدغار ديغا” و “أوغوست رينوار” وغيرهم. كما يمتلك المتحف الكثير من المنحوتات الحديثة، وتعد مجموعة اعمال النحات الفرنسي “اوعوست رودان” الاكثر أهمية خارج فرنسا. هذا فضلا على اعمال الفنانيين الاسكندينافيين الحديثيين.

تعتبر منحوتة “المفكر” لاوغوست رودان (الذي دعوناه.. “بالصديق”!) من القطع النحتية النادرة التى يفخر بها المتحف. وهي بموقعها الحالي في وسط الحديقة الخلفية لتوسعة مبنى المتحف الثانية، تبدو وكأن فضاء الحديقة الحميمية واسلوب تصميمها “اللاندسكيبي” الزاخر بالاشكال الهندسية يعملان كـ “خلفية” موفقة للمنحوتة، هذا فضلا على غلبة استقامة سطوح جدار المتحف الآجرى الضارب للحمرة الخلفي، وتفاصيله المختزلة الذي ينهض “المفكر” امامه، ما يزيد من قوة وضوح المنحوتة ويكرس حضورها في المشهد!

معلوم ان منحوتة المفكر، هي “جزء” او “تفصيل” من لوحة نحتية ضخمة حافلة بقطعها الفنية المتعددة والمتنوعة في المقياس والثيمات. ففي سنة 1880 يطلب من “اوغوست رودان”، وقد امسى نحاتا معروفا ومعترفا به على نطاق واسع، ان يصمم وينحت بوابة ضخمة لمؤسسة فنية تعليمية هي “متحف الفنون التزيينية” المنوي تشييده في باريس من قبل المؤسسات الحكومية الفرنسية. وقد قام رودان بعمل منحوتات لتلك البوابة البرونزية الضخمة لتكون بمثابة باب المتحف، والتي بلغت ابعادها نحو اكثر من ستة امتار في الارتفاع وبعرض حوالي تسعة امتار وبعمق وصل الى قرابة متر واحد. ودعي رودان تلك البوابة بـ “بوابة الجحيم” تمثيلا لملحمة <الكوميديا الإلهية> للشاعر الايطالي المعروف “دانتي أليغييري” (1265 -1321) Dante Alighieri. ووفق رؤى النحات فان منحوتات البوابة العديدة، تجسد كل منها الشخصيات الرئيسية في القصيدة الملحمية. وكان يفترض وجود دانتي، ضمن تلك المنحوتات، وهو غارق في تأملاته ونظرته الى الشرط الانساني ومصيره المأساوي. وجاءت تلك المنحوتة التى دعاها النحات بالشاعر، في وسط تلك المنحوتات متمثلة في رجل عارٍ منحنياُ قليلاً الى الامام جالساً على صخرة ويسند ذقنه باحدى يديه التى يتكئ بها على فخذه لتوحي وضعية التمثال الى تفكير عميق يسكن هذا الرجل. وقد دعي “اوغوست رودان” احد الملاكمين المشهورين وقتها وهو “جان بو”، الذي امتلك بناءً جسمانيا كاملا، ليكون بمثابة <موديلا> لنحت شخصية “الشاعر”. معلوم ان البوابة مثلها مثل المتحف ذاته بقيا غير مكتملين، رغم ان النحات اشتغل على منحوتاتها لفترة طويلة قدرت بـ 37 سنة وبقيت لحين مماته غير مكتملة. لكن منحوتة الشاعر، اتمها رودان خلال سنتين من 1880 الى 1882. وكانت بارتفاع لا يتجاوز 76 سم. وعندما عرضت للجمهور وجد الناس بانها اقرب الى “المفكر” منها الى الشاعر المعروف بنحافته الضعيفة وبنيته الطويلة، خصوصا وان اسلوبها الفني يستدعي اعمال “مايكل آنجيلو» Michelangelo المغرم باعماله واسلوبه الفني النحات الفرنسي. واشتهرت المنحوتة، لاحقا، وبشكل واسع باسمها الجديد.

وعندما صُبت “منحوتة المفكر” سنة 1902، وباشراف مباشر من رودان، كانت في ابعاد اكبر بكثير من المنحوتة الاصلية الاولى، اذ جاءت بمقاسات قريبة الى الانسان، حيث عملت بالنحاس وبارتفاع 186 سم. لكنها لم تعرض لجمهور باريس الا في سنة 1904. واثناء حياة النحات عمل منها وباشرافه 10 (عشرة) نسخ فقط، وبعد مماته سنة 1917، انتقلت حقوق صب التمثال الى الشعب الفرنسي (وفقاً لوصية النحات)، وفي حينها تم عمل 20 نسخة اضافية، منتشرة الآن في انحاء مختلفة من مدن العالم في واشنطن

وملبورن وجنيف وطبعا في باريس. وتعد نسخة كوبنهاغن من النسخ الاولى الى عُملت اثناء حياة النحات. ففي وثيقة اطلعت عليها في ارشيف متحف «غلوبتوتيك» وتعود الى تاريخ 15 آيار 1906، يناشد «كارل ياكبسون» صديقه النحات الفرنسي بان «يشحن <المفكر> بسفينة تعمل على خط «لوهافر- كوبنهاغن»، واذا كان ثمة تأخير، يستطرد جامع التحف الفنية الموسر، فالانسب استخدام خط «انتويرب (بلجيكا)- كوبنهاغن» الذي استخدمه كثيراً» ويعلمه بان «المكان الذي سيظهر فيه التمثال، جاهز الآن. ويسعدنا ان نرى هذا العمل الرائع!»

في هذة المنحوتة التى اعتبرت من اشهر اعمال “اوغوست رودان”، واحدى اشهر المنحوتات شهرة وحضورا في مشهد النحت العالمي، استطاع رودان ان يخلق منها شخصية “دانتي”: صاحب ملحمة الجحيم: الشاعر والفيلسوف والمبدع، وفيها نزع النحات الى اظهار “القوة الجسدية للمنحوتة، تجسيدا لقوة الشاعر الفكرية”، وفقا لتعبير احد النقاد. لقد تمكن رودان ان يبث دفئاً انسانيا وحيوية جديدة في منحوتة “المفكر”، التى تطلع ان تكون وسيلة ناجعة في يديه لإظهار مجموعة واسعة من المشاعر والعواطف، التى تعبر عن ثراء الحياة الجوانية للمرء. ومثلها مثل منحوتات “بوابة الجحيم” الآخرى، فان النحات سعى من ورائها الى تجسيد روح العصر والتركيز على تطلعاته الايجابية.

عندما امرّ بجانب “صديقي المفكر”، متمعناً (ومستمتعاً!) بتشكيلات تفاصيله العديدة، ومندهشا للمقدرة الفنية العالية في إظهار تلك التفاصيل وبما تشي به من رمزية؛ اعرف جيداً بان رودان ابتغى من خلال كل ذلك بلوغ درجة عالية من الاحساس العاطفي الذي يغمر، عادة، معظم منحوتاته الكثيرة، بضمنها <المفكر> الذي اراه امامي. بيد ان ادواته الفنية لعرض تلك العواطف تبقى خاصة به، من دون اللجوء الى التقنيات الشائعة والمتوارثة في “اروقة” النحت الفرنسي وقتها، هي التى بدت صيغ تمظهراتها تكاد تكون ثابتة وعادية ومتشابه، حتى امست لفرط تكرارها بمثابة “كليشيهات» Cliché فنية جاهزة. وفي كل مرة اقف امام “صديقي” استحضر كلمات رودان، التى تعينني في تفسير استحواذ اعماله الفنية على مثل هذا القدرٍ من فائض احاسيس توحي بالحب، والالم، واليأس..ايضاُ. فهو القائل من ان “اعماله النحتية يتعين رؤيتها من خلال <دموع العاطقة>”! ويشير في مكان آخر الى “المفكر” قائلا “..بان منحوتتي “المفكر”، لا تظهر التفكير فقط من خلال عقلها، او بحاجبين عابستين وفتحة انف متسعة وشفاة مضغوطة؛ وإنما ايضا من كل عضلة في ذراعيه او ظهره او رجليه، ومن قبضة مشدودة واصابع ارجل راسخة»!

تبقى منحوتة المفكر، شاهدة امينة وواقعية لنتاج فني يعود الى فترة زمنية محددة مرت بها اوربا، وتمخضت عن قيم وافكار كانت رائجة وقتها في تلك الحقبة الزمنية المحددة، تمكن مبدعوها بالتعبير عنها كلٌ من وجهة نظره الخاصة. ورغم ان “اوغوست رودان” لم يعتبر نفسه جزءا من اي اتجاه فني، فان مرجعياته الفنية اعتمدت على الواقعية والرومانسية، وكان ايضا مناصراً للانطباعيين، كما سعى وراء نقل اكتشافاتهم الى مجال النحت، وكان على مقربة منهم لجهة تمردهم على المألوف، وتكريس خاصية اللاكتمال في العمل الفني، وترسيخ الانطباع بالاحساس في سرعة احراز العمل المبتدع Sketchiness التى روج لها الانطباعيون كثيرا. لكن الاهم في نتاج هذا النحات ذو الشهرة العالمية يظل ايمانه العميق بان “الحركة” هي اساس خاصية النحت، ويتعين ان تكون حاضرة بقوة في الاعمال النحتية، القادرة على منحها، بامتياز، قيمتها الفنية العالية. ويرى ان التعبير عن ذلك لا يقتصر على المظهر الخارجي فحسب، وإنما ما يمكن ان تشي به “دواخل” المنحوتة من رمزية، هي التى لطالما اشتغل رودان ببراعة على تنطيقها، وجعلنا نحن: متلقيه ومحبي فنه نشعر بها ونحس فيها.

... وتمثال “صديقـ ـنـأ” <المفكر> خير مثال على ذلك!