يهود بغداد في اواخر العهد العثماني.. نظرة عامة

يهود بغداد في اواخر العهد العثماني.. نظرة عامة

د. وليد خدوري

كان يهود العراق يشكلون جزءا لايتجزء من المجتمع وكانت ممارساتهم الثقافة والاجتماعية هي ممارسات السكان في مجموعهم: «كانت طائفة معربة تماما.. فقد كان (اليهود) يتحدثون العربية فيما بينهم، ويستخدمون العربية في شعائرهم الدينية، ويكتبون العربية بحروف عبرية في مراسلاتهم وكانت حياتهم الاجتماعية هي حياة العرب، وكذلك مطبخهم. وخرافاتهم وحتى.. الحريم».

وكانوا ايسر حالا بالمقارنة باليهود الذين يعيشون في المجتمعات الشرقية الاخرى.

فقد وجد الحاخام اسرائيل بنياين – الذي طاف بالمنطقة في منتصف القرن التاسع عشر –ان الطائفة اليهودية في بغداد مستقرة تماما.

«لم اجد اخوتي الاسرائيليين بأي مكان آخر من الشرق، في مثل هذه الظروف السعيدة، ولا بمثل هذه الجدارة».

وكان اغلب معتدلي الدخل اليهود يعيشون – كغيرهم من المجموعات الاجتماعية – في قطاعهم الخاص في بغداد، في حين يعيش اقرانهم من الاغنياء في بيوت مرفهة على شاطئ دجلة الى جانب الاعيان المسلمين والمسيحيين والموظفين الاتراك، وهكذا كانت الظروف الاقتصادية – الاجتماعية لليهود العراقيين تختلف من حي الى آخر في المدينة، ومن منطقة الى اخرى في البلاد، كما كانت ترتبط ارتباطا وثيقا بالمهنة التي يختارون، وبشكل عام كانوا اكثر اشتغالا بالتجارة، وقليلا ما كانوا يعملون بالزراعة.

وكانت التجارة مركزة في وسط العراق وجنوبه. وبخاصة في بغداد والبصرة حيث كان جزء كبير من الطائفة اليهودية يسهم في التجارة. وعملت عائلات كثيرة في التجارة الخارجية، واقامت بيوتا تجارية في فارس والهند وانجلترا.

وطيلة هذه الفترة – حين كانت الادارة المركزية ضعيفة او غير موجودة – كانت الجماعات الطائفية في بغداد خاضعة للنفوذ السياسي والديني المباشر لبضع عائلات حصلت على سلطاتها بحكم النسب او احتراما لعلمها وثروتها وكانت هذه العائلات نتيجة لقلة عددها ولامتيازاتها الخاصة – مثل الاعفاء من الضرائب ومن الخدمة العسكرية – تتنازع فيما بينها، وتدبر المكائد لبعضها البعض. وكثيرا ماكانت العائلة ترتبط بوال معين، بتأرجح مصيرها مع تأرجع مصيره وكانت علاقتها بالطوائف التي تمثلها علاقة استبداديةوانتشرت حوادث الرشوة والمظالم. وكجزء من حاشية الوالي كانوا ينفذون رغباته ويقتسمون الاموال التي يوزعها.

وكانت اسهامات هذه العائلات في الدراسات الدينية والعلمية قليلة الشأن والمدارس التي يديرونها كانت تخرج رجال دين موظفين، رجعيين في نظرتهم الى كل من العالم الروحي والعالم الدنيوي.

وكان الحاخام باشي هو الممثل الديني الاكبر للطائفة اليهودية. اما حاخام باشى الاستانة فقد كان ممثل كل يهود الامبراطورية في مجلس الدولة وكان مسؤولا عن تحديد نسبة الضرائب وجبايتها من الطائفة. والتصديق على تعيين الحاخامات الادنى مرتبة. وفي بغداد كان ممثلو الطائفة المحلية يختارون الحاخام باشاى، ويصدق على اختياره الوالي وحاخام باشى الاستان غير انه مع الزمن انعزل عن الطائفة، واصبح صنيعة للوالي اكثر منه ممثلا للطائفة، وادى هذا الى نزاع كبير داخل صفوف الطائفة اليهودية في بغداد عام 1879. فقد ظل ساسون بن ايليا سوميخ، حاخام باشي في ذلك الوقت، خمسا وثلاثين عاما في منصبه، وكان يتمتع بتأييد الوالي وحاخام باشي الاستانة. وكان من دواعي تذمر الطائفة ضده اختلاس الضريبة العسكرية ووجهت اغلبية الطائفة اليهودية – وبينهم عدد من الحاخامات الادنى مرتبة – عريضة الى الوالي يطلبون فيها عزله. وشعر الوالي بانه مضطر الى الاستجابة لهذا الطلب على الرغم من صداقته لسموحة. غير ان حاخام باشي الاستانة الغى القرار. الا ان عودة سموحة الى منصبه كانت فصيرة الاجل. فقد ادى مسلكه بالطائفة اليهودية الى ارسال برقية الى الاستانة، واخيرا تدخل السلطان نفسه وفرض عزل سموحة. وفي ذلك الوقت كان النزاع قد ادى الى انقسام كبير داخل صفوف الطائفة اليهودية في بغداد.

والى جانب الحاخام باشاى كان هيكل السلطة داخل الطائفة اليهودية يشمل بيت الدين – الذي يفصل في المنازعات داخل الطائفة – في حين كان الحاخام يحدد العقوبات. وكان بيت الدين يتألف عادة من افراد العائلات اليهودية التجارية الثرية. والواقع ان عائلة بمفردها كثيرا ما كانت تتوارث كل هذه المناصب قرونا باكملها.

وكان “الناسي” هو الممثل الدنيوي للطائفة، وكثيرا ما كان اغنى تجارها كما كان ايضا صاحب بين مال الوالي او مستشاره المالي. ويدير شؤون الطائفة المالية – واساسا جباية الضرائب – مجلس الملة الذي تنتخبه الطائفة، ويتألف من عشرة اعيان يشرفون على البرامج التعليمية والاجتماعية للطائفة.

وخلال القرنين السابع عشر والثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر كان “ناسى” بغداد - وليس الحاخام باشى – هو الذي يسيطر على السلطة السياسية الفعالة في الطائفة. وقد توارثت عائلة ساسون هذا المنصب جيلا بعد جيل.

وكانت تربطها بالاستانة روابط وثيفة. وحين وصل داود باشا – آخر الولاة المماليك – الى السلطة في بغداد عام 1817 كان عليه ان يعتمد على آل ساسون للحصول على فرمان من الخليفة. غير ان هذا العمل بالتحديد اثار العداء لآل ساسون داخل حاشية الوالي، الامر الذي ادى في النهاية الى هجرة فرع من العائلة الى الهند ثم الى انجلترا فيما بعد. وفي العقود التي اعقبت “التنظيمات” ظل اغنى تجار المدينة يشغل منصب “الناسى” لكن السلطة السياسية عادت الى الحاخام باشاى.

ادى ادخال “التنظيمات” في القرن التاسع عشر الى تحول في الوضعية الرسمية لاهل الذمة. فقد منح المرسوم الهمايوني عام 1856 – وبدرجة اقل المرسوم الشريف لعام 1839 – حقوق المواطنة المتساوية لكل شعوب الامبراطورية بما في ذلك ضمان تأمين الحياة والملكية، والالتحاق بالوظائف المدنية والعسكرية، والمساواة في الضرائب، وحرية العبادة، والمحاكم الخاصة والمختلطة، والمساواة في حق الشهادة ولم يعد النظام الطائفي قائما الا من حيث استمرار السلطات الدينية في السيطرة على امور مدنية مثل الزواج والميراث.

ومنح دستور 1876 حق التمثيل لاصحاب الملكية في المجالس والهيئات التشريعية المحلية والاقليمية والامبراطورية، وكان لهذه المؤسسات الجديدة اهمية رمزية كبيرة رغم ان السلطات كانت هي التي تنتقي هؤلاء النواب: ورغم ان وظائفهم كانت محدودة. وكان من بين النواب اليهود مناحيم دنيال احد نواب بغداد الثلاثة في اول برلمان عام 1877، وساسون حزقيال الذي شغل هذا المقعد في برلمان عام 1909، ويوسف كركس عضو المجلس الاداري في بغداد عام 1872. ويوسف شنطوب عضو المجلس عام 1888. وكان هؤلاء جميعا من اثرياء التجار فيما عدا ساسون حرقيال الذي كان موظفا بوزارة التجارة، ثم اصبح بعد اول وزير مالية للعراق، واحتفظ بهذا المنصب طيلة سنوات.

وفي العقد الاخير من القرن التاسع عشر بدأ التعليم اليهودي يتمتع بمساعدات اجنبية لا من الطوائف اليهودية العراقية الثرية في الهند فحسب، ولكن ايضا عن طريق، الاليانس الاسرائيلي العالمي، في باريس، والجمعية الانكلو – يهودية في لندن، لبناء مدارس ابتدائية وثانوية، وقد سبقت هذه المدارس كل من نظم التعليم العسكري والمدني التي بدأت في عام 1870 وتخرج منها نحو ستين بالمائة من كل طلاب المدارس الثانوية في العراق قبل بداية القرن الحالي.

وطيلة هذه الفترة لم تسجل سوى بضعة حوادث من التوتر بين الطائفة اليهودية وغيرها من الجماعات وكانت هذه الاحداث القليلة ضئيلة الشأن. وعلى سبيل المثال ثار نزاع في عام 1860 حين اوقفت السلطات – دون سبب محدد – الحج الى صريح حزقيال على مقربة من بغداد، وتمت تسوية المسألة بعد تدخل الجمعية الانجلو – يهودية لدى السلطان. وفي عام 1889 بيع ضريح خارج بغداد يسمى النبي يوشع – وهو احد اضرحة حاخامات بغداد – لاحد المسلمين خلال النزاع بين ساسون سموحة الحاخام السابق ومجلس الملة وخلال نفس العام توفي احد الحاخامات وثار النزاع حول ملكية المكان. والقى القبض على الحاخام باشاى وبضعة اشخاص آخرين. وتمت الاتصالات من جديد بالجمعية الانجلو – يهودية وهيئة النواب اليهود في لندن، الذين اتصلوا بدورهم بالسفير البريطاني في الاستانة. وادى هذا الى عودة المكان للطائفة بالرغم من البيع السابق، واطلق سراح الحاخام باشاى واتباعه وعزل السلطان والي بغداد.

م. جامعة الموصل 1976