علي حسين
“ في شهر مارس من عام 1954 اشتريت دفتراً مدرسياً ودوّنت الفصل الأول من رواية كانت قد تشكّلت صورتها في رأسي منذ سنتين، أجهل حتى الآن من أين خرجت كل تلك التهيّؤات التي ضمتها (بيدرو بارامو).
كما لو أن شخصاً ما كان يُمليها عليّ. بغته في وسط الشارع، كانت تخطر لي فكرة فأدونها في وريقات خضر وزرق اللون»، كانت هذه العبارة قد قالها الروائي المكسيكي خوان رولفو وهو يشرح لأحد الصحفيين الطريقة التي كتب بها روايته الشهيرة والوحيدة (بيدرو بارامو) التي شكلت علامة فارقة في رواية أمريكا اللاتينية، وأصبحت أعجوبة أدبية يتحدث عنها الجميع من ماركيز الذي قال إن خوان رولفو استطاع بـ 150 صفحة أدبية فقط، أن يجلس إلى جانب سوفوكليس على عرش الأدب، إلى يوسا الذي وصفها بالصفعة، مروراً بفوينتس الذي كتب: «إن بيدرو بارامو هي الخيط الذي يقودنا إلى رواية أمريكا اللاتينية الجديدة». فيما أرسل بابلو نيرودا رسالة للكاتب يُبدي فيها إعجابه الشديد بها، ووصفها بورخس بأنها واحدة من أهم مئة عمل أدبي أنتجتها البشرية في تاريخها.
يتذكر ماركيز أنه وصل إلى المكسيك لأول مرة عام 1961، وهناك استجاب لطلب صديق أن يقرا رواية بيدرو بارامو، ولم ينته منها حتى أعاد قراءتها مرة ثانية بنفس اليوم، بعد ذلك قال لصديقه الآن استطيع أن أعيد ترديد الرواية كاملة، من البداية أو من النهاية، ويضيف صاحب مئة عام من العزلة: إن «خوان رولفو أعطاني الطريقة التي سعيت بها لمواصلة كتبي».
عندما نشر خوان رولفو روايته (بيدرو بارامو) عام 1955، تلقى بعض الإشعارات الفاترة من الناشر، الطلب عليها قليل، ومبيعاتها لا تزال سيئة. المؤلف مجهول لم ينشر من قبل سوى مجموعة قصصية واحدة هي (السهل يحترق) قبل سنوات من رواية بيدرو بارامو.. لكنها بعد سنوات قليلة ستترجَم إلى 60 لغة وتباع منها أكثر من عشرة ملايين نسخة.
ولد خوان رولفو عام 1917 في سايولا، إحدى أفقر مناطق المكسيك، جافة وشبه خربة، نزح معظم سكانها فراراً من الثورات والحرائق والتصحّر، ومن بقى هناك يعيش في ظروف إنسانية غاية في السوء. وفي مقابلة صحفية معه يصف طفولته بأنها كانت صعبة للغاية، حيث كان سكان مدينته يعانون من قسوة الطبيعة وظلم الفقر وإهمال السلطات، ومع هذا فهم قابعون هناك، هامدون مثل ما يحيط بهم من أشياء، مذعنون لقدرهم في انتظار الموت، مثلما صوّر أحوالهم في مجموعته القصصية (السهل يحترق). عندما كان في السادسة من عمره، قتل والده على يد قطّاع طرق، بعد عامين، توفيت والدته بعد معاناة مع قصور في القلب. تلقى تعليمه في دار للأيتام، تركت هذه السنوات في نفس الصبي ذكريات لا تُنسى: «ما تعلمته كان الاكتئاب، كانت فترة من الفترات التي عانيت فيها من وحدة قاسية وأصابتني بحالة من الاكتئاب لم أُشفَ منها حتى يومنا هذا». ونجِدهُ في قصته (فقراء حد الضياع) يكتب: «من العسير أن تنمو وأنت تدرك أن الشيء الذي يمكن أن تتشبث به جذورك قد مات». عندما أنهى الدراسة الإعدادية انتقل إلى مكسيكو سيتي ليدرس القانون، وهناك سيعمل في الكثير من المهن، موظف في دائرة قانونية، باحث في معهد لدراسة أحوال السكان الأصليين، وكيل هجرة ثم كاتب سيناريوهات أفلام، في عام 1980، يتم انتخابه عضواً في الأكاديمية المكسيكية للأدب. توفي في مكسيكو سيتي في 6 يناير 1986، بعد إصابته بسرطان الرئة.
تبدأ رواية (بيدرو بارامو) مع خوان بريسيادو، وهو يروي رحلة قام بها إلى قرية كومالا مسقط رأس والدته، التي توفيت مؤخراً وطلبت منه العثور على والده، بيدرو بارامو، وبينما يقترب من القرية يتعرف على شخص اسمه (أبونديو)، يُخبره في ما بعد أنه ابن بيدرو أيضاً، وأن والدهما قد مات منذ وقت طويل. عندما يصل خوان بريسيادو إلى القرية يجدها مهجورة.
- ماذا قلت لي عن اسم هذه القرية التي تبدو هناك في الأسفل؟
- إنها كومالا يا سيدي
- أأنت متأكد من أنها كومالا؟
- متأكد يا سيدي.
- ولماذا تبدو كئيبة هكذا؟
- إنه الزمن يا سيدي.
وهنا يبحث عن امرأة تدعى دونا إدفيغز بناء على توصية أبونديو، ويجدها في منزل قديم. تخبره أن أصوات الموتى يمكن سماعها في كومالا، وتعترف أنها تعرف أنه قادم، حيث أرسلت والدته لها رسالة رغم موتها. بعد ذلك تخبر خوان عن طفولة أمه وتبلغه أن أبونديو قد مات منذ زمن طويل. ونكتشف أن رحلة البحث عن الأب لن تقود خوان في نهاية الأمر إلّا إلى مدينة أشباح، وأن خوان الذي يطالعنا منذ بداية الرواية بالحديث عن سبب قيامه برحلة البحث، سوف يتوقف عن إخبارنا بما يحدث له في منتصفها لأنه سيموت خلال رحلته، سيموت لخوفه مما يكتشف في المدينة: «لقد باتت مدينة أشباح، وكل الكائنات التي سيلتقيها هناك ليست في حقيقتها سوى أشباح يلاحقونه بحكاياتهم وشكاواهم هم الذين كانت لكل منهم حكاية مع بيدرو بارامو». أما بقية الحكاية والتي تلي موت خوان المفاجئ فترويها لنا دوروتيا، متسولة القرية التي عندها كل حكايات القرية وما حدث فيها قبل موت بيدرو، ولسوف نعرف من خلال دوروتيا، أن بيدرو وقرية كومالا كانا شيئاً واحداً، وسنعرف أن بيدرو بارامو ينتمي إليه عدد كبير من سكان القرية برابطة البنوة. فهو أقام عدداً كبيراً من العلاقات مع نساء أنجبن له عدداً لا يحصى من أبناء، وسنتعرف خلال الرواية على ثلاثة منهم، فإلى جانب بيدرو، هناك السائق ميغيل، ولدينا أيضاً أبونديو مارتينيث الأصم قليل الكلام. وصحيح أن صفحات الرواية التي لا تتجاوز الـ 150 صفحة، تزدحم بعدد كبير من الشخصيات الثانوية إلى جانب تلك الرئيسية. ومع هذا، فإن الاسم الذي يعود إلينا في كل فقرة وأخرى هو اسم (بيدرو بارامو) الذي نتابع حكايته منذ طفولته حتى لحظة موته، وكيف استطاع أن يتحكم بالقرية وسكانها، فقد حوّلَته خيباته في الحب وانهماكه في إقامة علاقات جنسية حتى مع نساء لا يبالي بأن يعرف أسماءهن تاركاً عند كل واحدة منهنّ ابناً لن يقيّض له أن يتعرف إليه أبداً. فهو بعد كل شيء منهمك في بناء هذه البلدة التي اتّفق مع الثوار حين وصلوا إلى الحكم أن يكون هو راعيها وحاكمها، وبالتالي المتحكم بكل شيء، ما يجعله متحكماً في مصيرها. وهذا ما يفسّر بالطبع كون قرية كومالا قد ماتت بعد موته وتحولت إلى مقبرة كبيرة، هي تلك التي يكتشفها خوان في نهاية رحلة بحثه عن ذلك الأب الذي يبدو في نهاية الأمر وكأنه أحد شخصيات الإلياذة أو الأوديسة.
عام 2000 أجرت صحيفة (الباييس) الإسبانية استفتاء لتسمية أعظم رواية كُتبت في أمريكا اللاتينية. فكان الفائز هو خوان رولفو وروايته (بيدرو بارامو)، وكان أحد أبرز المصوّتين غابريل غارسيا ماركيز.
في العام 1974 أجاب رولفو حول سؤال لماذا لا يكتب رواية جديدة قائلاً: «لأنّ العم ثيلرينو قد مات، وهو من كان يلقنني القصص. كان يمشي معي وهو يتحدث، كان كذاباً كبيراً»، ثم يضيف: «بالنسبة لي، كثيراً ما انتقدني أبناء بلدي لأنني أحكي أكاذيب، ولا أكتب حكايات، أو أن كل ما أقوله أو أكتبه، يقولون، لم يحدث قط، وهذه حقيقة، فأول ما يعنيني هو الخيال، وداخل الثلاث نقاط التي ذكرتُها سلفاً يتقدم الخيال المتجول، الخيال اللانهائي، الخيال بلا حدود، وعلينا أن نكسر الحاجز الذي يغلق الدائرة، فثمة باب، لا بد أن هناك باباً للهروب، ومن خلال هذا الباب يجب أن نتسرب، يجب أن نهرب، هناك يظهر شيء آخر يسمى بالحدس، الحدس يؤدّي بي للتفكير في أن شيئاً لم يحدث، لكنه يحدث أثناء الكتابة».
في معظم المقابلات التي أُجريت معه كان رولفو يقول: «لست كاتباً محترفاً، إنني مجرد هاوٍ أكتب عندما تأتيني الهواية». وعندما يسأله أحد مواطنيه بعد أن استمع إلى واحدة من محاضراته: «كيف أصبحت كاتباً؟»، يجيب: «كنت أبحث عن الهدوء».. وقد عاش رولفو سنواته الـ 69 لا يهتم بالشهرة وإنّما يبحث عن الهدوء، حتى أنه كان معروفاً بعدم الردّ على رسائل معجبيه ويجد حرجاً في المناسبات الاجتماعية، ودائماً ما يُشاهَد جالساً لوحده يقرأ في كتاب. عندما نشر روايته (بيدرو بارامو) مرّت سنوات دون أن ينشُر قصة قصيرة أو رواية جديدة أخرى، وعندما سُئل ذات يوم عن جديده قال: «أكتب عندما تأتيني الهواية، فإذا لم تأت، لا أكتب».
يتذكر رولفو أنه عاش حياة صعبة يتيماً: «لم أحظ قطّ بأي أحد من الناس يتولى مهمة قصّ الحكايات عليّ، ذلك أن القوم في قريتنا، هم من طينة متكتمة ومنطوية على نفسها، أجل، حتى ليحسّ المرء الذي يعيش بين ظهرانيهم في هذه الديار، بأنه هو نفسه غريب».
عندما صدرت (بيدرو بارامو) قال رولفو إن أحداث روايته نُسجت من الخيال، لكن النقاد وجدوا أنها واقعية ويمكن أن نجد شخصية بطلها (خوان بريسيادو) يتمشى في أحد شوارع المكسيك أو يجلس في واحدة من المقاهي، إلا أن رولفو ما أن يسمع هذه الآراء حتى يبتسم، يقول لمراسل إحدى الصحف: «غالباً ما أخذ علي أبناء موطني، حكاية الكذب وعدم تسجيل وقائع التاريخ، وهذا لعمري أمر صحيح. إن ما يحتل مقام الصدارة عندي هو الخيال.. إنني أترك لتلك الشخصيات المتخيَّلة، حرية الاشتغال والتحرك من تلقاء نفسها هي بالذات، من دون أي تدخل أو اقتحام قد يصدران عنّي، لأني حين أقوم بعكس ذلك قد أتورّط في الهذر الذي هو من خصائص الكتابة المقاليّة».
• تُرجمت بيدرو بارامو إلى العربية ونُشرت بأربع ترجمات؛ الأولى في الثمانينيات بترجمة مروان إبراهيم عن دار المأمون، بعدها ترجمها صالح علماني، ثم شيرين عصمت، وأخيراً عبد الغني أبو العزم.
• ترجم السهل المحترق إلى العربية علي عبد الرؤوف البمبي، وصدرت في القاهرة عن المجلس الأعلى للثقافة عام 2002 ضمن إصدارات (المشروع القومي للترجمة). وصدرت ترجمة حديثة عن دار اثر قام بها المترجم بسام البزاز.