بيدرو بارامو..الكتابة بلا بوصلة

بيدرو بارامو..الكتابة بلا بوصلة

هاله ابوليل

على الأرجح قد تصادفك في أغلب واجهات المعارض أغلفة تحمل أرقاما لروايات حديثة , فتتعجب فما الذي يعنيه الكاتب من إستخدام هذه الأرقام !!!

جميعنا يعرف لعنة الرقم 666 أليس كذلك !!! ولمن لا يعرف نشير لتلك السلسلة من الأفلام ,التي جعلت من الرقم الثلاثي 666 , مقرونا بالتمرد الشيطاني ,حتى أن بعض النسوة - اللواتي لديهن قابلية عالية للإيحاء , قد تتفقد رأس طفلها , لئلا يكون موصوما بهذا الرقم الملعون لأنه رمز للشيطان.

ولكن هذا الأمر - تعدى تلك الخزعبلات والنبوءات القائمة

على عالم غرائبي من الميتافيزيقا اللا ورائية ,ليصل إلى نوع من المغامرة الأبداعية التجريبية في الأدب والفن.

أما كيف حدث ذلك !! فما عليك سوى قراءة رواية عوليس لتعرف كيف استغل “جويس” معرفته بـ مدينة “دبلن” وإستخدامه لقاموس توماس في ذكر حقائق كثيرة. مثل ذكر قائمة بأسماء المشتركين في سباق الدراجات في حديقة فونيكس كمثال على نفس درجة من التفاهة والحمق. فقد كان فن الملصقات في تلك الأيام ضربا من البداهة والحمق معا.

وأن كان هناك تبريرات لإستخدام فن الملصقات هذا - وإقحامه بكل تلك الفجاجة في المتن السردي الروائي , كمظهر من مظاهرالتجديد التي وصفت حينها - بإعتبارها إنتفاضة غير إعتيادية في عالم الأدب. وبشكل أكثر تفصيلا عما كونه قد قيل بوصفه جاء لإزالة الفجوة القائمة بين الأدب والواقع.

فهل من مكتسبات الواقع ,أن تظهر روايات تحمل أرقاما فقط !!!

لايمكنك بأي حال معرفة إختياره لذلك الرقم أو ذاك إلآ بقراءة ذلك العمل و إكتشاف المغزى المختبأ في متاهة العمل الروائي ,وربما الجدير بالذكر , أن نشير لرواية الأديب السوداني “امير تاج السر” المعنّونة برقم (366) - الفائزة مؤخرا بجائزة كتارا للروايات المنشورة ,لتكتشف أن المقصود بالرقم , مجموع عدد الرسائل - التي كتبها البطل لمعشوقته الخرافية التي ظهرت لمرة واحدة وأختفت ,ولكنها بقيت في ذاكرة البطل طول مسيرة رحلته على مدار تلك الأيام منقوشة بالرسائل التي لا تصل لأحد

,,هذه واحدة من الروايات ولكن هناك روايات كثيرة تحمل أرقاما هي الأخرى ,مثل رواية الروائي المصري الشاب “ أحمد مراد والتي جاءت بعنوان “1919»

وهناك رواية للأديب المصري أحمد خالد توفيق وغيرهم وهذا ليس بمستغرب ,فالتقليعة هذه قديمة جدا.

فقد صدرت رواية لجورج أورويل سنة 1949 , بعنوان يتقدم زمنه لثلاث عقود ونيف - رواية الديستوبيا وأدب المدينة الفاسدة والتي جاءت بعنوان 1984)) والتي بات تقليدها في عصرنا الحالي حاضنة خصبة و حربا للسرقات الأدبية مثلما حصل في إتهام الروائي الجزائري “واسيني الأعرج” لإحدى مواطنيه , باتهامه بسرقة عمله المعنّون ب 2084 ,علما أن كلا العملين لم يصدرا بعد !!!

فلما كل هذه التقاليع ! التي تعدت الأرقام لتتبنى الرموز والأحرف أو الصفات.

فقد بات في حكم المنتهي - منحنى تبني الرموز ,شيئا مقصودا لذاته عند تأليف العمل الأدبي و كنوع من إشكالية الحياة التي ما فتأت تبحث عن التجديد والتحديث كما يحلو للبعض تفسيره

أعرف أن هذا الكلام قديم جدا ولكن بعد أن صار الأنسان مهمشًا وعبارة عن رقم في قائمة الإحصاء الوطني فقد جاءت الرواية كمتنبأ لما سيحصل وما سوف يحدث في الأيام اللاحقة

إنها تستشرف معنى المستقبل الغامض وتحاول تمهيد طريق الوعورة للأيام القادمة ,حيث سيشق المسير نحو ما يسمى بوحدانية البؤرة الكونية التي من سماتها غياب التفاصيل الإنسانية وشيوع الضباب الكثيف على الحقائق.

لذا لم يعد عجيبا أن تقرأ رواية - كل ابطالها عبارة عن رموز.فالسيد (ص) قابل الفتاة الجميلة والرشيقة الليدي (س) في مقهى تزين لافتته بعنوان رقمي مسمى (666) يقدم مادة رخيصة مشبعة بنكهة الأوكسجين الفاسد مكتوب عليها H2O2 يستطيع بها السيد (ص) أن يدلل بها صديقته في تلك الأمسية.فهذا التشظي والإمحاء في التعريف وإعطاء الأسماء قيمتها هي تقنية روائية قديمة ,وجدت مريديها بكثرة ولا مجال لحصر الروايات التي همشت ابطالها بإعطائهم رمز أو رقم أو اسم من لا اسم له مثل رواية الروائي العراقي “احمد السعداوي “ الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية - البوكر – النسخة العربية،حيث أطلق على البطل اسم “الشسمة “اللي شو اسمه - كمسخ يظهر في سماء بغداد من أشلاء مخاطة من ضحايا التفجيرات.

ولم يستقم الحال بعد , فتحولت عناصر القصّ إلى مجاهيل ورموز مجهولة ,وامتلأت الروايات بصفحات بيضاء تطلب ضمنيا من القارىء أن يملأها , بإعتبار أن القارىء صار شريكا في الكتابة الروائية.فصار المكان في الرواية مجهول الهوية أما الزمان فغير معروف و ربما تكون الرواية بلا شخصيات أو أن البطل هو المتحدث الوحيد عن شخصيات لا تتكلم أو شخصيات ميتة يسمع صداها ,و لا تعرف مع من يتكلم , وطبعا هذا لا يندرج تحت باب العبثية، بل العبثية المقصودة بحد ذاتها , فالراوي في هذا العمل واعيا لما يقترف من عملية شطب لكل أركان الجسم الروائي وعناصره الثابتة التي يقوم عليها البناء السردي للعمل كما عهدناه و تعلمناه في الصف الرابع تحديدا , فجاءت حركات التجديد بماجاءت بحجة محاربة القديم أو بحجة إظهار الجماليات الكامنة بالإختلاف أو بحجة من لا حجة له

فقط هكذا يحدث الأمر وكفى.

فالمؤلف كما أراه - يقف على أطلال تلك الهياكل القائمة , منسجما بذلك القصف لأبراج ما يسمى أركان الرواية – التي كانت قائمة يوما ما , فيوغل بها تدميرا.

إنه يريد حقا إن يستمتع بشظايا التدمير, إنه ينزع نحو ساديته في إحداث ما يسمى بخلخلة مجرة الكون الروائي , ليصرح إنه ليس بذات الإنسان النمطي الذي تعرفونه بل يستطيع أن يغير من واقعه بما يسمى بالحداثة العبثية أو عبثية الحداثة ,,سيان هكذا كتابة عبثية , غارقة في الشتات و المنفى والإغتراب والضياع قد تكون عنوان لعصر تفتت قلبه حزنا على عالم يخلو من العدالة والمساواة , فلما تبقى الرواية على حد علمه - محافظة على نسيجها الذي لا يصنع سوى ثوبا واهيا لا يكفي للإستدلال على عصر لا معنى له.

ماذا تعني ان تقرأ رواية وتنساق في قرائتها وأنت لا تعرف في ارض هي ,ولا في أي زمان , حتى إنك لا تدرك أين كنت وكيف وصلت لتلك الصفحة, وربما تستوقفك لفترة - مثابرتك لكيفية مواصلتك واستدارجك لتلك اللحظة.

نعم ,قد تأخذك إلى حيث لا تعلم وكأنك تعلم إنك لا تعلم إنك ضائع لا محالة , ليس هذا فقط بل كونك مستمتع بضياعك.

حسنا ,,, هل استمتعت يوما بضياعك؟

كم مرة اختفيت تحت السرير انتظارا لمتعة الكشف عنك؟

حقا هذا ما يحصل عدّ الى طفولتك قليلا

هذا البريق الذي يظهر من عيني الصغار أثناء ايجادهم وهم مختبئين تحت الغطاء يعادل تلك المتعة , وأنت غارق في رواية بلا زمن ولا مكان ولا حتى شخصية قائمة بحد ذاتها بل ربما تكون أشلاء لحيوان أو إنسان

فليس هناك شخصية محورية تستطيع أن تسألها / عذرا,, أين إنت !!!

فلا ترد عليك

فتصيح مجددا: ماذا بعد

ثم بصوت اعلى قليلا

عذرا , ماذا يحدث هنا

فترد عليك - أخيرا , بجلافة:

أن كان لا يعجبك ,,غادر.

هكذا بكل بساطة يتم طردك

ولكنك في أعماقك تعرف أن وراء تلك الشخصية النزقة, شخصية تستحق الحضور والإصغاء والتعاطف , ربما

ولكنك لا تغادر مستسلما كما تريد منك، لأنك تعرف مسبقا إنه صوتك المريض. الذي يبحث عن علاج خارج تلك الحدود المألوفة ,وبكونك مستمتعا بكل هذه الفوضى وربما كل هذا سيصادفك بشكل أكثر أو اقل تقريبا عند قراءة رواية “ بيدرو بارامو” – رواية بلا اصوات , من قال ذلك!!!

بل هي كلها اصوات ,

ربما بلا كائن موجود

,من قال ذلك !!!

بل يوجد صاحب الشخصية الوحيدة التي جعلت من العمل يقف على عمود واحد ,أما كيف لم ينهار

فذلك قطار لعصر صار يمشي بلا سكة

أما من أين تأتي الأصوات

فهذا ليس من شأنك

المؤلف يختفي بتاتا ولا وجود له , فقط صوت أو أصوات للبطل والأموات , وحديث هامس وصمت وثرثرة لا يسمعها أحد سواك.

هل فكرت يوما ان تفهم “ خوان رولفو “ كيف يفكر “ وكيف كتب هذه المخطوطة العبثية ! ايمكن أن يكون كاتبها واقعا تحت تأثير عشر فناجين من الفودكا أو كان واقعا في حالة من الوسن ما بين اليقظة و النوم.

أم أن الأمر - وان كان بلا بوصلة , فهو مرتب ومنظم وعفوي وجميل.

ألم يقال أن الجمال يكمن بالعادي والمألوف والطبيعي !

ففي روايته الشهيرة والوحيدة هذه , يضعنا “خوان رولفو” تحت كتابة روائية بلا بوصلة وكأنك تسبح في القمر بلا جاذبية ولا ثبات.

. تم تهميش كل شيء, الرواية تدور ضمن دوائر الإبهام والشخصية تتحدث مع أموات , كل شيء قاتم وعبثي وسوداوي.

يقول “خوان رولفو” صاحب هذا العمل الوحيد و العبثي الجميل – صوت - الميّت المنعش وقيامة الأموات وأصوات الماضي الآتية بحشرجات السنين, إنه كتب روايته الوحيدة - المؤسسة لحداثة الرواية اللاتينية , بدافع زيارته لقريته ومرتع طفولته ,بعد أن هجرها ثلاثين عاماً، فعاد إليها ليجدها طللاً، تلف الوحدة شوارعها وديارها، ولا يعمّرها سوى حفيف شبحي، حفيف أشجار الكازورينا تعصف بها الريح.

ببساطة ,هكذا ولدت هذه الرواية تأسيسا لمسرح الصوت العبثي الوجودي مع قليل من الغموض بنكهة الذهاب إلى حياة أخرى مندثرة.

ببساطة أخرى , كلمة غريب و وحيد ومتشظي و تائه.و ربما تكون عبارة التحذير في مذكرات” غابو “التي تم اعطائها لوالدته ,عندما قيل لها أن تبحث عن ولدها في المكتبة.

«إحذري.كلهم مجانين «

تكفي لإسدال الستارة عن كل ما يحدث

و لهذا يحدث الأمر الجميل ,كلّه.

عن الحوار المتمدن