حضور الفلسفة في مسرحيات الفيلسوف الرواقي لوسيوس سينيكا

حضور الفلسفة في مسرحيات الفيلسوف الرواقي لوسيوس سينيكا

د. محمد جلوب الفرحان

نحسب بدرجات ما إن الفيلسوف الروماني الرواقي لوسيوس آنيس سينيكا (4 ق.م – 65 ميلادية) هو جان بول سارتر (1905 – 1980م) القرن الأول بعد الميلاد، وإن سارتر هو سينيكا القرن العشرين. فمن المعروف إن كلاهما كتب مسرحياته في إطار فلسفي.

فمثلاً إن سينيكا ألف مسرحياته بهدي فلسفته الرواقية بل وتضمنت معالجة رواقية لبعض المواقف التي مرت بها أبطال وشخصيات مسرحياته، ومفاهيم رواقية عن الإنسان والطبيعة وعلاقة الإنسان بالطبيعة والله والقدر والمستقبل والمحط الأخير للإنسان. وإن سارتر مثل سينيكا وظف الكثير من شخصيات ومناخات المسرح الروماني لمعالجة قضايا الحرية الإنسانية والموقف من الله وعلاقة الإنسان بالله، بل إن الكثير من المفاهيم وأسماء الألهة الرومانيين قد حضرت في بعض مسرحيات سارتر، والشاهد على ذلك مسرحية سارتر والتي حملت عنوان الذباب، حيث الإله الروماني جوبيتر، وشخصيات رومانية مثل إجمامنون وإلكترا وأورستس وكليمنسترا … وغيرها كثير كثير..

ولا تنسى إن سارتر كتب مسرحياته بوحي فلسفته الوجودية، وسينيكا بدوره عالج الكثير من القضايا في مسرحياته في ضوء فلسفته الرواقية. وما بين الفلسفة الرواقية والفلسفة الوجودية الكثير من المستبطن والمضموم وخصوصاً حول الإرادة وفعل الإنسان وحريته وعلاقته بالله والقدر.. كما إن العلاقة ما بين الرواقية والمسيحية كانت قوية حيث إن الكثير من آباء الكنيسة الأوائل كانوا رواقيون كما ولا تنسى إن العلاقة بين الوجودية والمسيحية عميقة جدا جدا، والوجودية نمطين وجودية هرطقية والتي مثلها كل من هيدجر وسارتر. ووجودية مؤمنة أو قل مسيحية مثلها سورين كيركيجارد، وكارل ياسبرز وجبريل مارسيل.. ومفاهيمهم الوجودية ليس فيها إلحاد وإنما كل مافي الأمر فيها تأكيد على حرية الإنسان.. وفي كل من الوجودية الهرطقية والوجودية المسيحية مناقشات عريضة حول حرية الإنسان وحرية الله … وهذا المقال سيقدم مادة وشواهد فيها مشاركة ما بين سينيكا وسارتر بل ويصح أن نقول إن سارتر إستخدم التراث المسرحي والعقيدي الروماني وهو عقيدة سينيكا ليُعالج الكثير من أطراف فلسفته الوجودية.. كما ولعبت رواقية شيشرون القريبة إلى الفيلسوف الرواقي سينيكا دوراً فاعلاً في تشكيل البيئة الثقافية الرومانية التي تلقى فيها سينيكا تعليمه بعد إن جاء إلى روما من أسبانيا. وبالمناسبة إن شيشرون كان من أبناء القرن الأول قبل الميلاد وقد ملآه شيشرون بكتاباته وخصوصاً كتاباته عن الفلسفة الرواقية وبالتحديد كتابه النقدي الذي حمل عنوان برادكس أوف ستوك فيلوسوفي وبالعربية تناقضات الفلسفة الرواقية.

ومن المعلوم إن الفيلسوف الرواقي سينيكا ولد في نهاية القرن الأول قبل الميلاد وكان فيلسوف الرواقية في القرن الأول الميلادي. ونفترض إنه عرف مؤلفات شيشرون وخصوصاً كتابه تناقضات الرواقية، حيث إن روما والعالم الروماني عامة كان مشغولاً بكتابات الشهيد شيشرون. والشاهد على ذلك إن شيشرون قاد حركة ثقافية عرفت بالنزعة الشيشرونية والتي قامت أولاً بنشر تراث شيشرون ومن ثم تجديد هذا التراث والدفاع عن شيشرون ضد خصومه السياسيين يومذاك. كما وبتوجيه سياسي تم تكليف مساعده والمدعو ماركوس تيليوس تيرو (توفي عام 4 ق.م وكان عبداً وحرره شيشرون وحمل الأسم الأول والثاني من إسم الفيلسوف) بكتابة سيرته الذاتية ومن ثم قام بنشرها ومعها نشر تراثه الفلسفي والسياسي ورسائله وكل ذلك حدث بإشراف الجمهورية الرومانية … وهذا الإهتمام بشيشرون ونزعته الشيشرونية إمتد خلال القرون العشرين اللاحقة وحتى اليوم.

يُعد الفيلسوف الروماني الرواقي لوسيوس سينيكا ظاهرة فلسفية وأدبية متفردة في مضمار عملية الإنشاء في جنسي الكتابة الفلسفية والروائية – المسرحية بطرفيها التراجيدي والكوميدي. فقد كتب ما يُقارب العشرة تراجيديات وكوميديا واحدة، وبث فيها الكثير من فكره الفلسفي الرواقي. وشيد بهذه المثابرة الشعرية المسرحية، تجربة فلسفية رائدة في تاريخ المسرح والمسرح الروماني (اللاتيني) وتاريخ الفلسفة على حد سواء.

صحيح كل الصحة إن الفيلسوف الشاعر الرواقي الروماني سينيكا قد إتخذ من المسرح اليوناني (وخصوصاً إسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس..) قاعدة وموديلاً، أسس على هديهما آدبه المسرحي. فمثلاً إن سينيكا تبنى مسرحية أودبيوس وكييفها لصالح رواقيته من سوفوكلس. وتبنى إصول مسرحيته إجاممنون من أسخيلوس. أما معظم مسرحياته الباقية فقد تابع إصولها وموديلها من يوربيديس. إلا إنه إختلف عنهما في فكره الفلسفي والموضوعات الفلسفية التي تعرضت لها الفلسفة الرواقية، وبذلك أضاف أملاحاً رواقية إلى نصوصه المسرحية، منحتها مذاقاً فلسفياً جديداً إضافة إلى إسلوبه المسرحي الذي تميز به في معالجة المناخ المسرحي حين وضع شخصياته تتحرك في إطاره ومن ثم جعلها تواجه قدرها وتصل إلى نهاية تراجيديتها..

ولاحظنا فوق كل ذلك إن سينيكا في بعض قليل من مسرحياته، لم يتابع إصولاً مسرحية يونانية في كتابة مسرحياته. ولهذا فإن هذا العدد القليل من المسرحيات تُعد روائع أصيلة أبدعها يراع الفيلسوف سينيكا بشخصه وهذه قضية سنشير إليها فيما بعد. وذهب عدد من الباحثين الأكاديميين الغربيين إلى إن هناك أثاراً واضحة على إسلوب سينيكا في الكتابة المسرحية يصعد إلى كل من الشاعريين الرومانيين فيرجل (70 – 19 ق.م) وأوفيد (43 ق.م – 17 أو 18 ميلادية) وخصوصاً مسرحية سينيكا التي حملت عنوان ميديا والتي نُرجح إن بعض إصولها نزلت من شخصية ميديا الأوفيدية (نسبة إلى الشاعر الروماني أوفيد) بالرغم من إننا نعرف بأن مصادر أوفيد ومصادر سينيكا هو الشاعر اليوناني يوربيدس.. وهنا سنخصص هذا المحور للحديث عن جنرا أو جنس أو أدب الرواية – المسرحية عند الفيلسوف الرواقي لوسيوس أنيس سينيكا. وستكون البداية التعريف بالروايات التي كتبها الفيلسوف سينيكا، ومن ثم نتبعها بتحليل المضمون لكل واحدة منهما. وهنا نود من الناحية الميثديولوجية أن نصحح سوء فهم لف واحد من أهم المصادر التي كتبت عن ما يمكن أن نصطلح عليه الأدب المسرحي الفلسفي عند الفيلسوف الرواقي الروماني لوسيوس آنيس سينيكا. وهذا المصدر هو المدخل الذي كتبه الأستاذ أي. أف. وتلنك للكتاب الذي قام بترجمته وبعنوان أربعة تراجيديات وأوكتفيا.

ونحن نسعى هنا ونتطلع إلى تصحيح العنوان ومن ثم نكشف عن سوء الفهم الذي لف التراث المسرحي التراجيدي للفيلسوف الرواقي سينيكا، ونقترح عنواناً بديلاً ربما ينطبق أكثر على مثابرتنا الأكاديمية الحالية والتي دافعت وأكدت على إن مسرحية أوكتفيا هي جزء من تراث الفيلسوف الرواقي سينيكا المسرحي، وهي فعلاً مسرحية كتبها سينيكا بريشته الخلاقة وليس غيره. وعنوانا الإفتراضي هو: سينيكا: تسعة تراجيديات وأوكتفيا (والأدق على أساس دفاعنا عن مسرحية أوكتفيا: سينيكا: عشرة تراجيديات رومانية). وإذا إضفنا إليها كوميديا سينيكا التي حملت عنوان السانت (القديس) كلوديوس: اليقطين ، وهي كوميديا سياسية جريئة إستهدف بها القيصر الروماني كلوديوس (10 ق.م – 54 ميلادية)، فإن العنوان الحالي يصبح عشرة تراجيديات وكوميديا السانت كلوديوس اليقطين .

لاحظنا إن هناك بعض الإختلافات في عناويين هذه المسرحية التراجيدية التي كتبها الفيلسوف الروماني الرواقي سينيكا الأصغر (أو سينيكا الشاب) والتي كانت بعنوان هرقل المجنون مرة أو جنون هرقل مرة آخرى. وتألفت من ألف وثلثمائة وأربع وأربعين بيتاً من الشعر وظهرت في مجلدين وكتبها في عام 54 ميلادية أو ربما قبل ذلك، وبالمناسبة إن موديل هذه المسرحية التراجيدية، هي مسرحية تراجيدية آثينية كتبها في الأصل الشاعر المسرحي اليوناني المشهور يوربيدس (حوالي 480 – 406 ق.م) وكانت بعنوان هركليز أو هرقل والتي تم تمثيلها على المسرح حوالي عام 416 ق.م أي قبل ولادة الفيلسوف الروماني سينيكا بحدود أربعمائة وإثنتا عشر سنة.

ومسرحية سينيكا تصف حظ نصف الإله هيركلز والذي ذهب مجنوناً بفعل كل من الإلهة آيارس والإلهة إرنيس. وآيارس هي في الميثلوجيا اليونانية تجسد القوس قزح وهي رسول الألهة. كما وتُعرف بأنها واحدة من إلهات البحر والسماء. وآيارس هي التي تشد الآلهة إلى الإنسانية، وتنتقل من مكان إلى مكان آخر بسرعة الرياح حيث تنتقل من نهاية العالم إلى طرف آخر من العالم، ومن ثم تذهب بعيداً في أعماق البحر وحتى تصل العالم السفلى أما إرنيس (أو فيريس أو يومنديس) وهي ألهة الخصب وإنها آلهة أنثى وألهة الإنتقام والثأر، وهي تقابل ديري في الإسطورة الرومانية.