“المكيّر”.. اللبنة الأولى في الأغنية السبعينية

“المكيّر”.. اللبنة الأولى في الأغنية السبعينية

ستار الناصر

المكير؛ أغنية مهمة جدا في سجل التجديد الموسيغنائي في العراق. كتب كلماتها الشاعر زامل سعيد فتاح ولحنها الملحن الرائع كمال السيد وغناها المطرب المخضرم ياس خضر.

ولدت هذه التجربة الرائعة في نهاية عام 1968. وتكمن أهميتها في كونها أغنية بلحن محدث يشاكس السائد في المشهد الموسيغنائي المعاصر حيث أغاني اللحن الواحد على ايقاع الجورجينا – وهو ايقاع عراقي اصيل.

ان من أهم سمات الاغنية الستينية والتي تعرف بأغاني الجورجينا - ونحن هنا لا ننفي وجود اغان بإيقاعات أخرى كالمقسوم والهجع والرمبا وغيرها - لكن هذا الايقاع هو السائد في أغلب الأغاني حينذاك. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هي الاشعار المغناة التي يكتبها شعراء اختصوا بكتابة الاغاني مثل سيف الدين ولائي، جبوري النجار، عدنان السوداني، جودت التميمي وغيرهم. وميزة هذه الأشعار انها تكتب بطريقة المذهب - وهو مطلع الأغنية ثم تأتي ثلاثة كوبليهات ثم ناحية أخرى هي لحنيتها حيث تأتي بلحن واحد تماما. كذلك تتشابه فيها موسيقى الفواصل التي تخللها الأغنية مثل أعمال عباس جميل، يحيى حمدي. رضا علي , محمد عبد المحسن , محمد نوشي، احمد الخليل وغيرهم.

لأغنية “المكير” اختار الملحن كمال السيد قصيدة “المكير” للشاعر زامل سعيد فتاح وهو مدرك جيدا انها قصيدة شعرية وليست نصا غنائيا تقليديا، بل هي قصة شعرية تصور حكاية وداع حبيب لحبيته في محطة قطار ويتضح فيها المكان والزمان في أجمل صوره، وهو يعرف أن عليه ان يوظفهما لحنيا بجمالية توظيف الشاعر الخلاق لهما، اي يؤثث موسيقيا لفضاء القصيدة، وتلك لعمري مهمة ليست سهلة. لأن جو القصيدة حزين حيث وداع الاحبة. لذلك عمد الراحل كمال السيد بدراية فذة الى اختيار سلم الصبا لا لانثيالات الحزن والشجن فيه بل لخاصية هذا السلم حيث انه يسمح بانتقالات نغمية متعددة.

فبعد ان وضع مقدمة موسيقية ليست بالطويلة من نغم الصبا وبإيقاع الوحدة الكبيرة ادخل كورسا نسائيا، ونسائيا تحديدا لما لأصواتهن من نسق جمالي خاص ليغنين مطلع القصيدة:-

مشيت وياه للمكير اودعنه

مشيت وكل كتر مني انهدم بالحسره والونه

ليمهد لدخول المطرب ياس خضر – الذي وجد نفسه في مهمة جديدة قد تضعه في الصف الأول من المغنين، وقد حدث هذا فعلا بعد هذه الاغنية - يدخل المطرب مباشرة بعد الكورس وهو يكمل مفتتح القصيدة:-

على الرمله الرمله

بضوه الكمره يناشدني وانشدنه

الأبيات التالية للقصيدة لم يمررها بشكل تقليدي بل وضع مقدمة موسيقية أخرى بإيقاع مختلف وبنغم آخر من أجناس السلم الأساس في الأغنية لنجد على نحو غير معهود انتقالات نغمية وإيقاعية مصورا بروعة فائقة المعاني الجسام في القصيدة المشحونة بالشجن الجميل. وعلى هذا النحو التجديدي يكمل القصيدة حتى آخرها، وبهذا يكون الموسيقار الراحل كمال السيد من أوائل، وربما أول من أدخل قصيدة الشعر الشعبي الى المشهد الموسيغنائي العراقي من جانب، ومن جانب آخر له قصب السبق في ادخال المقدمة الموسيقية ليس في مقدمة الاغنية فحسب، بل في كل مقطع من القصيدة كما في المقطعين الآخرين فنجد فيهما ان تغيرا في الايقاع والنغم. وكي يمسك بجو القصيدة المشحون ادخل آلة الناي في الفواصل كصولو. ثم رجع في كل تحليقة نغمية الى النغم الأساس حتى الخاتمة – القفلة - في المصطلحات الموسيقية. مع مراعات عدم التكرار كما كان في السابق وبهذا تصبح أغنية “المكير” من أولى اللبنات التي أسست لما يعرف بالأغنية السبعينية.

لم يقف الراحل كمال السيد عند هذه الفعالية بل استمر يرفد المشهد الموسيغنائي بالكثير من التجارب الغنائية النادرة مثل أغنية البريسم, كون السلف ينشال وغيرهما الكثير.