سيد مكاوي... صوت المسحراتي وصورته

سيد مكاوي... صوت المسحراتي وصورته

محمد كريم

«ناس كانوا قبلي قالوا في الأمثال/ الرجل تدب مطرح ما تحب/ وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال/ حبيت ودبيت كما العاشق ليالي طوال/ وكل شبر وحتة من بلدي حتة من كبدي حتة من موال”. هكذا، ظلّ سيد مكاوي، الملقب بشيخ الملحنين، يغني لسنوات طوال بصوته القوي وطبلته الصغيرة التي في يده، فارتبطت في ذهن الأجيال صورة المسحراتي بصوت مكاوي وصورته.

في إحدى حواري حي “السيدة زينب” ولد الشيخ سيد مكاوي في 8 مايو/ أيار عام 1928. ويبدو أن لهذه النشأة في الحي الشعبي العريق أثر كبير في حياة مكاوي الفنية وأدائه الفني، خاصة في تقمصه لشخصية المسحراتي.

كان عمره سنتين حين كف بصره، بعد علاج شعبي لمشكلة في عينه. أرسلته أسرته إلى الكُتّاب، فحفظ القرآن وجوّده، وبدأ حياته قارئاً للقرآن ومؤذناً. وفي شبابه اتجه إلى الإنشاد الديني، مستفيداً من كبار منشدي عصره الذين كان يلاحقهم في حفلاتهم، ومن بينهم الشيخ إسماعيل سكر والشيخ مصطفى عبد الرحيم.

في تلك الأثناء، كوّن مع صديقيه الشقيقين إسماعيل رأفت ومحمود رأفت فرقة مصغرة لإحياء الحفلات الفنية. كان محمود يعزف على الكمان، ورأفت يعزف على القانون، وكان سيد مكاوي يعزف عل العود ويغني. قدّم الثلاثي الأغاني التراثية التي كانوا يسمعونها من الإسطوانات التي امتلك الشقيقان رأفت كمّاً ضخماً منها، وقد عكف عليها مكاوي، فنهل منها ومثّلت له ذخيرة ثقافية وفنية كبيرة.

تقدم الشيخ سيد مكاوي للإذاعة مع بداية الخمسينيات، واعتمد فيها مطرباً، فكان يغني على الهواء مباشرة في مواعيد شهرية ثابتة ما حفظه من الأغاني القديمة. بدأ مشواره مع الإذاعة بتسجيل دور “مليك الحسن في دولة جمالك”، من كلمات الشيخ محمد درويش، وألحان عبده الحامولي. أما عن أغانيه الخاصة، فبدأ بأغنيتين من ألحان صديقيه عبد العظيم عبد الحق وأحمد صدقي، وهما الأغنيتان الوحيدتان اللتان غناهما ولم يلحنهما لنفسه.

عرف عن ألحانه أنها تمثل مزيجاً من مدرستي سيد درويش وزكريا أحمد، إضافة إلى الأدوار الغنائية خفيفة الظل. وكان من ألحانه في تلك الفترة “مبروك عليك يا معجباني يا غالي” لشريفة فاضل، و”اسأل مرة عليّا” لمحمد عبد المطلب. بعدهما، انطلقت ألحانه، فكان من أشهرها “حكايتنا احنا الاتنين” لليلى مراد، و”هوى يا هوى يا للي انت طاير” لشادية، و”لو بتعزني” لنجاة الصغيرة، و”أنا هنا يا ابن الحلال” لصباح، و”غيرك انت مليش” لشهرزاد، و”بعدين نتعاتب” لسميرة سعيد، و”أوقاتي بتحلو” لوردة الجزائرية، و”يا نسيم الفجر صبح” لفايزة أحمد، و”يا مسهرني” لأم كلثوم.

كما قدم للإذاعة مجموعة من ألحان الأغاني الجماعية، وكثيراً من الأعمال الدرامية. أما المسرح الغنائي فكان له فيه باع كبير، ويعد أوبريت “الليلة الكبيرة” أبرز الأعمال التي قدمها في هذا المجال بالتعاون مع صلاح جاهين.

لا نعرف تحديداً شكل برنامج المسحراتي الذي كانت تقدمه الإذاعة المصرية قديماً، فلا توجد تسجيلات لتلك المقطوعات الموسيقية التي أسند تأليفها في بعض الأحيان إلى بيرم التونسي (كلمات) وتلحينها إلى أحمد صدقي ومرسي الحريري وعبد العظيم عبد الحق وغيرهم.

لكن الجميع يعرف أن نقلة كبرى للمسحراتي كانت على يد سيد مكاوي ملحناً ومغنياً، وفؤاد حداد مؤلفاً. حين قرر مكاوي أن يقدم أشعار المسحراتي التي ألفها فؤاد حداد في موضوعات متعددة بأسلوب خاص وبصوته القوي، مستعيناً بالطبلة وحدها ومستغنياً عن الفرقة الموسيقية، فكان لما أبدعه أثر كبير على أذن المستمع.

بدأت رحلة المسحراتي هذه سنة 1964، وهو العام الذي خرج فيه فؤاد حداد من المعتقل، حيث أوصى صلاح جاهين الذي كتب أولى حلقاتها بأن يستكمل حداد هذه الحلقات، وهكذا قدم الثنائي مكاوي وحداد منذ ذلك التاريخ 150 حلقة إذاعية. وعام 1983، بدأ مكاوي في تقديم المسحراتي للتلفزيون المصري، وبلغت تلك الحلقات التلفزيونية 60 حلقة.

كان الشيخ سيد مكاوي مسحراتياً حقيقياً، ولم يختلف التصور الذي تخيله المستمع الإذاعي عن صورته في التلفزيونية، فهو الرجل الكفيف بسيط الهيئة الذي يرتدي جلباباً وتصحبه أحياناً طفلة صغيرة تقوده في شوارع مصر وحواريها، ليقوم بتسحير الناس وتنبيههم، لكن إيقاظ الناس لم يكن الهدف منه مجرد القيام لتناول وجبة السحور، ولكنه كان من خلال أشعار فؤاد حداد محاولة للإيقاظ الوطني والإصلاح الاجتماعي والسياسي: “مسحراتي من جنود الأرض/ منقراتي وكل دقة بفرض/ اطلب غنايا زي أب ضناه/ القدس لاحقت في الطريق حضناه/ شريان فلسطيني شجر مزروع/ في الأرض جدر وفي الليالي فروع/ يسمعني خال وفي كل بلده عم/ جرح الملاجئ عمره ما يتلم/ تفنى الليالي ولا يبور الدم/ ولا كل ريف تحت السما يسمع/ طير الحمام يسجع».

يقول الناقد عمر نجم عن فؤاد حداد إن “هذا الشعر هو من أول وظف ذلك الكلام المتكرر في أصله، ليبدع منه أداة فنية راقية ويطوعها لخدمة المجتمع في شتى مجالاته السياسية والاقتصادية. وطوال سنوات رمضانية، لم ينقطع شدو سيد مكاوي عن ندائه ليذكرنا بأمجاد الآباء والجنود، مستشرفاً معنا تحيق الأمل، برغم كل الصعوبات، وبرغم سباتنا الطويل، يدعونا لكي نصحو لنيل الأمجاد”. ويقول المسحراتي عن ضرورة التزود بالقيم الاجتماعية في عصر العلم: “في عصر ذري/ لازم نقرّي/ شعر المعري/ ولازم نقول/ أولى ابتدائي/ ألف وبائي/ أكرم آبائي/ والناس أصول/ كتب الأئمة/ جبل وقمة/ نطلع يا إما/ ننزل نزول».

ويعلق المؤرخ الموسيقي فرج العنتري على أداء الشيخ مكاوي: “إن استلهام الشيخ سيد مكاوي لخصائص مذاقنا الفولكلوري في دقاته لطبل السحور وفي الأداء بروح من أسلوب المسحرين التقليديين في امتدادات عبارات التسحير علوّاً وانخفاضاً، وبتذييلها التطويحي البلدي يعتبر إسهاما مكاويا له حساباته وجدارته في تيسير وصول التعبير الفني بنداءات فؤاد حداد طازجة ومباشرة إلى عقول المواطنين وقلوبهم».

رحل الشيخ سيد مكاوي يوم 21 إبريل/نيسان من عام 1997، عن 68 عاماً، تاركاً بصمة مميزة في مجال الغناء والموسيقى العربية، ويستعيد الناس ذكراه سنويا في رمضان مع تسجيلات المسحراتي الخالدة، إضافة لعشرات الأعمال الإبداعية الأخرى.