من ذكرياتي الصحفية في الخمسينيات

من ذكرياتي الصحفية في الخمسينيات

مهدي شاكر العبيدي

من الجرائد التي أقبل الناس على اقتنائها بشغف زائد جريدة (العقيدة) وكانتْ بالأصل مجلة تصدر في النجف لصاحبها فاضل الخاقاني , والمظنون أنـَّه ابن عم ٍ لعلي الخاقاني صاحب مجلة (البيان) ومؤلف الموسوعة الأدبية بأجزائها العشرة عن (شعراء الغري) وغيرها ,

وقد انتقلتْ إلى بغداد وتوقفتْ نهائيا ً عن الصُّدور بعد عددها الخامس ـ كما اذكر ـ لتبنيها الشُّؤون المتعلقة بمعايش الجمهور، ودفاعها عن المظلومين والضُّعفاء، وعنف لهجتها في تعرية المفسدين، وفضح جرائرهم والتنديد بمخازيهم، وكأنـَّها تستفز مكامن ذوي الحل والعقد وتهيجهم وتستدعيهم لإغلاقها، وكان مديرها المسؤول المحامي محسن ناجي وهو الذي ترافع بعد سبع سنوات في قضية سعيد قزاز المعلومة أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة , ومفاد دفاعه بعد أنْ طالب ببراءته على جاري العادة انـَّه ما تبنى دعواه إلا لأنـَّه جاره في السَّكن , وهذا درس غاية في سمو الأخلاق , وقد علمْتُ بعد سنين أنـَّه توظف معلما ً في شبيبته إبَّان الأربعينيات في أحد أرياف قصبة الهندية وافدا ً إليها من الكوفة , إذ ينتمي إلى أسرة يحمل كلُّ فرد من أفرادها هذا اللقب (ناجي) الذي لا يعني قط أنـَّه أبوه. فأمَّا الجريدة الثانية فقد تمهَّل الحاكمون في مصادرتها قرابة ثلاثة أسابيع وتسمى (الوعي السِّياسي) أصدرها أحد أنجال الشَّاعر عبد الرَّحمن البناء , تبنتْ قضية الدِّفاع عن السَّلام العالمي وحاجة الشُّعوب إلى الدِّعة والاستقرار , ولا مراء إنْ كان من كتابها شاب يدعى حسن وداي , اعتقد أنـَّه نجل وداي العطية مؤلف كتاب (تاريخ الديوانية) , كان وقتها محاميا ً أو طالبا ً في الحقوق , مرَّ بعد ذلك بأزمة من أزمات الرَّأي والنظر إلى الأفكار والعقائد، واستغرق في تمحيص التيارات والأميال، وأطال التردُّد في ترجيح واحد منها , وانقطع بصورة مطلقة عن الأوساط العامة , غير أنـِّي أبصرته مغادرا ً سراي الحكومة بعد سنوات في قصبة الهندية بصحبة حميد خلخال فاستغربْتُ من ذلك , والأخير عُيِّن وزيرا ً في حكومة 1963م، ثم توفاه الله.

وعن جريدة هاشم البناء (الوعي السِّياسي) فإنَّ محرِّرها الحقيقي كما قيل هو الرَّاحل محمد شرارة الذي يشتغل مديرا ً لإحدى السِّينمات بعد إقصائه عن التدريس , بدليل أنـَّه جازف – أي هاشم البناء – بنشر أحد مؤلفات عبد الرَّزاق الحسني كما يزعم الحسني نفسه في قائمة مؤلفاته غير مرَّة، على أنَّ من جملة ما نشرته (الوعي السِّياسي) خطبة الشَّاعر رشدي العامل طالب الإعدادية في الرُّمادي الذي قصد العاصمة للمشاركة في مهرجان خطابي للطلاب أقامته وزارة المعارف يومذاك بصحبة مدرس اللغة العربية , وعنوان الخطبة (مقبرة الأحياء)، وقد حازَتْ المرتبة الأولى بإجماع المحكمينَ من أدباء البلد وفي مقدِّمتهم: مصطفى جواد، ومحمد بهجة الأثري، ومعهما المربي عبود زلزلة , تغمد الله الجميع برحمته الواسعة , وكان مقر هذه الصَّحيفة التي تعطلتْ عن الصُّدور بعد ذلك لتنديدها بالأوضاع العامة وفرط جرأتها وصراحتها خلف عمارة الرُّصافي ـ التي شُيِّدَتْ فيما بعد ـ حيث يمتهن صاحبها الأعمال التجارية والقوميسيون ً .

أدركتُ الصُّحف العراقية التي يصدرها أصحابها بأربع صفحات من القطع الكبير غير أنـَّها تطالع قرَّاءها صبيحة كلِّ يوم مكتنزة بالأخبار المثيرة عن الشُّؤون والحوادث التي تقع في شتى جنبات الأرض، وحاوية على التعليقات الطريفة المتصلة به إلى جانب المقال الافتتاحي المتضمِّن رأي كاتبه والوقائع الجارية على أديم الوطن وحياة الجماعات العائشة في رحابه في صفاء وألفة آنا ً أو في تباعد واختلاف في النظر إلى طبيعة الأشياء آنا ً آخر، دون أنْ يغفل محرّرُها عن أهمية المقال المترجَم وغالبا ً ما يمسُّ المصالح الاقتصادية وقضايا السَّاعة التي يشهدها العالم، فتستعين الجريدة بمترجم عن اللغة الإنكليزية غالبا ً ويجيد التعبير عمَّا يقرؤه من أفكار ورؤىً في الدَّوريات والمطبوعات التي ترد إلى البلاد في ندرةٍ وإقلال آنذاك.

فأمَّا صفحة المحليات فمكرَّسة لحوادث الشُّرطة أي لوقائع السَّطو والسَّرقات ممَّا لا يخلو أي مجتمع منها مهما قطع من الرُّقي والتحضر شوطا ً، أو بلغ أبناؤه قدرا ً أو درجة من الاستقامة وزكاء النفوس، وثمَّة إعلانات مقتضبة عن مكاتب المحامينَ وعيادات الأطباء وقدوم بعض الوجهاء والتجار إلى العاصمة لإنجاز أعمالهم وأشغالهم، ويكلل هذا النبأ عادة بعبارات خاصة للترحيب والحفاوة بمقدِّمهم بحسب ما يغدقونه على الصَّحيفة الناشرة ويسخون به من مال، فقد كانتْ وسائل المواصلات يومذاك ولحدِّ سني الأربعينيات ليسَتْ من الوفرة كما هي اليوم، وحتى الطرق بين المدن تبدو متوقفة ولا تصلح البتة لاجتيازها وسلوكها والسَّير فيها بمجرَّد هطول الأمطار، فليس في تفضيل التاجر الوجيه للإعلان عن مكوثه ببغداد بضعة أيَّام أمرٌ باعث على الدَّهشة والاستغراب أو داع ٍ للابتسام والضَّحك.

غير ما تنطوي عليه افتتاحيات الصُّحف جملة من تحليلات وتفسيرات شتى للحالات والظروف والشُّؤون المحيطة بمشكلات الوطن وطموحات ذويه إلى الرِّفعة والسَّعادة كلّ ينطلق في تحبيره وكتابته من وجهات تفكيره هو عن مكنونات صدره ووجدانه، مُبَرَّأ من الدَّخل والتغرُّض، خلوا ً من الاحتذاء والتقليد والمواكبة والمسايرة والمجاراة، يضعنا بمواجهة أطياف متنوعة من المعارضة أو مكاشفة الحاكمينَ بهناتهم وزلاتهم لا سِيَّما أنَّ تلك المقالات الافتتاحية جاءَتْ مصبوبة مفرغة في قوالب وصياغات وأساليب هي الغاية في البيان والطلاوة والقدرة على الإقناع، وما كانتْ إلا نتيجة تأثر الصُّحفيينَ العراقيينَ الأوَائل بإخوانهم المصريينَ الذين لم يدخروا وسعا ً في تدريب سلائقهم واستيفاء أدواتهم.

فما نزالُ نستذكر كتابات روَّاد الصَّحافة العراقية على تباين منطلقاتهم وموحياتهم، أمثال: سلمان الصَّفواني، وعزيز شريف، وعبد الفتاح إبراهيم، وكامل الجادرجي، وناظم الزهاوي، والجواهري، وعبد الرَّزاق الظاهر، ومحمد رضا الشّبيبي، وغيرهم.

لكن منذ أنْ طرأ على الصَّحافة العراقية ما نسميه فن المقابلات أو اللقاءات الصُّحفية وصار الصُّحفي معها لا يقرأ، تدنتْ لغة الصَّحافة وركدَتْ واعترتها الرَّكاكة والسَّفسافية، وغدَتْ مقتصرة على ألفاظ جاهزة وقوالب محفوظة نلفيها ماثلة في كلِّ مداخلة أو تعليق أو تغطية لافتتاح مشروع، وما إطناب صحفيينا في آلاء العهد السَّابق حتى أمس القريب، بغائب عن مخيلاتنا وأذهاننا، حيث تنافسوا وتباروا في تمجيد الطاغية الحاكم وتبرير حروبه الجهنمية مغضينَ عن أوزاره وحماقاته.