العمارة والكوت.. حقائق تاريخية

العمارة والكوت.. حقائق تاريخية

يعقوب سركيس

قال الفاضل الأديب عبد الرزاق الحسني في مجلة لغة العرب من سنتنا الحاضرة)1928) ما خلاصته عن سبب تسمية العمارة باسمها هذا انه كان على اثر تمرد عشائر تلك الأنحاء في سنة 1809م) قهر الحكومة للعشائر وإنشائها (عمارة يرابط فيها جيشها. وكان قد قال الأستاذ المتفنن الشيخ علي الشرقي (لغة العرب 536: 5): أن العمارة من أنشاء القرن الثالث عشر (للهجرة) وأتم كلامه بما يلي: (ثم اطمأن إليها الناس... فانشئوا هناك عمارة ضخمة وأطلق عليها اسم العمارة) اهـ.

قلت: أن الذي يثبته التاريخ هو أن اسم العمارة في تلك الأصقاع لا يعود إلى الحادث والتاريخ اللذين أشير أليهما فلا يرجع إلى العمارة التي ذكرها الكاتبان بل الاسم معروف في تلك الجهات قبل الزمن الذي أنبئنا به ما يزيد على أجيال. وقد ذكرت في مصنفين لأديبين قبل ما يقرب من أربعة قرون. وذكر اسم (العمارة) و (نهر العمارة) و (شط العمارة) و (كوت العمارة في عدة مؤلفات قديمة لا تقل عن الخمسة عشر بين مخطوط ومطبوع فيها العربي والتركي والفارسي والفرنسي والإنكليزي والإيطالي نذكر منها ما يلي معرباً عن أصولها ونورد بعض النصوص للتأكيد مبتدئين بالأقدم:فزرنا سلمان الفارسي ومررنا بفوهة العمارة ثم قدمنا إلى (زكية) بطريق واسط وزرنا النبي العزير عليه السلام المقابل لها) اهـ.

وجاء في رحلة كاسبارو بالبي في قسمها المترجم إلى الإنكليزية الملحق برحلة سوينس كوبر (ص)477)ما قوله... وفي 13 آذار سنة 1580م ــ 988هـ) سافرنا من بغداد

قاصدين البصرة وكان سفرنا بطريق دجلة... وفي يقسم النهر (دجلة) إلى قسمين أحدهما يجري نحو الفرات والآخر نحو البصرة) اهـ ولا بد انه يريد العمارة كما جاء في (مرآة الممالك) وكما يأتي ولا بد أن تكون الكلمة مغلوطاً فيها أما لسوء السماع فالخطأ في تصويرها وأما لغيره فالغلط في قراءتها أو طبعها.

وقال بولاي لوكوز في النص 315 من رحلته وهو يسير من البصرة إلى بغداد صاعدا دجلة في سنة 1649م ــ هجـ1059ــ): وفي اليوم الثاني عشر قدمنا إلى قلعة صغيرة تعود إلى بكلر بكي بغداد فدفع عشرة ايكوات عن دانكنا... اهـ). وقد جعل بازاء كلامه في الحاشية كلمة فهو يبحث عنها.

ونجد في إحدى رحلات تافرنيه (240: 1) انه قد اجتاز ببغداد في سنة 1652 م) ثم غادرها قاصداً البصرة فقال: (وينقسم النهر (دجلة) تحت بغداد إلى قسمين أحدهما يجري على طول بلاد كلدية القديمة والآخر نحو النقطة التي ينتهي بها ما بين النهرين... أما نحن فقد سرنا في القسم الذي يتجه نحو بلاد كلديه... وهذه أسماء القرى التي وجدناها على هذا الفرع من دجلة: حيث فيها قلعة مبنية من اللبن...) اهـ.

وممن ذكر العمارة الأب جوزيه الكرملي ثم الأسقف سبستياني في رحلته الأولى المطبوعة في سنة 1666م) إذ قال (ص55): وذلك بانحداره إلى البصرة من بغداد. وذكرها بصورة في رحلته الثانية بعودته من الهند إلى بغداد (219 - 220). وهي المطبوعة في 1672م ـ واخبرنا الأب فيشنتسو الكرملي في رحلته المطبوعة في سنة 1672 م (ص88) قدومه إلى مدينة اسمها وهو يصف رحلته راكباً (دانكا) يجري في دجلة بين بغداد والبصرة.

وعندي مخطوط بالتركية ذكرته في هذه المجلة 23: 5) دون فيه صاحبه المعاصر لذلك الزمن إخباراً يومية عن الولاة والحكومة الخص منه ما يمس الموضوع وهو أن الباشا غادر البصرة في 18 صفر سنة 1126هجـ / م1748 فضرب خيامه في باب الرباط وسار نهراً بطريق الفرات فقدم إلى الخان فالسعدية فالدير فنهر عنتر فنهر صالح فدار بني أسد فأبو شوارب فالمنصورية ثم قال: (بغداد شطي، عمارده عماره ده ايكي شق اولوب نصفي قورنه ده ونصفي دخى بو منزلده مراد شطنه (يقصد الفرات) متصل اولور) وتعريبه: أن شط بغداد ينقسم في العمار (يريد العمارة بدليل ما يأتي بكتابته للعمارة ثم قال في موضع آخر: ورد الخبر أن الحرم المحترم (حرم الباشاغادر البصرة يوم الاثنين الموافق اليوم الثالث من المحرم 1163هـ ــ 1749م فتوجه للقائهم الداماد (الصهر)أ حمد باشا يوم الخميس الواقع في اليوم السادس عشر من الشهر وذلك على أمر حضرة ولي النعم (الباشا) فوصل إلى العمارة (عماريه) في اليوم الثالث والعشرين منه الموافق يوم الخميس فوصل كذلك الحرم المحترم إلى المحل المذكور بطريق شط العمارة (عمارة شطي أيله) اهـ.

ومما جاء في تذكرة شوشتر للسيد عبد الله ابن السيد نور الدين ابن السيد نعمة الله الحسيني الششتري المتخلص بفقير المتوفى في سنة 1173 هـ الموافق 1759م انه قال في (ص68 )... (وأعراب راكه بسمت رود عمارة رفته بوند...) اهـ. وقال دانفيل في كتابه (الفرات ودجلة) المطبوع في سنة 1779 في ال ص146:

(موقع يرضينا كل الرضى لان نلحق خريطة الصابئة ونتمتع بفوائدها).

ثم قال (ص147): (وتعرف فتحة (هذه البطائح) في خريطة الصابئة من موضع اسمه حي بني ليث بازاء ولاصق بالضفة اليمنى من الشط وبعدها حالا الأكراد أو قلعة الأكراد.

وبتوجيه النظر إلى الخريطة التي ألحقها المؤلف بكتابه نرى انه يعين موقع جبل (بضم فتشديد) ثم يليها النعمانية فالجوازر ففم الصلح فواسط فالعمارة (على الضفة اليسرى) وبازائها) (على الضفة اليمنى) فرع متشعب من دجلة، وألاحظ استطرادا أن في هذا التسلسل غلطاً ليس اليوم من موضعي نقده.

وجاء عن دجلة كلام شبيه بكلام دانفيل في كتاب جغرافية بوشنك المطبوع في سنة 1780 م في الص 386 بعد أن تكلم عن واسط قال قرية تسكنها الأعراب فيها قلعة وتحت ذلك تنقسم دجلة إلى قسمين أحدهما وهو الأيمن يتصل بالفرات والثاني وهو الأيسر مع هذا النهر (القسم الأيمن) تتألف جزيرة قرب القرنة. اهـ ودانفيل وبوشنك مؤلفان وليسا بصاحبي رحلة. وقد رحل سستيني من بغداد إلى البصرة سنة 1781 وهو يقول في رحلته (من الترجمة الفرنسية (ص182):قدمنا إلى التي يقال إنها في منتصف الطريق بين بغداد والبصرة... واشترينا في دجاجاً...وبازاء جدول حفرته يد الإنسان ينشئ جزيرة كبيرة اسمها (جزائر) فانه يوصل مياه دجلة بمياه الفرات.) اهـ وفي كتاب صفة باشوية بغداد لروسو المطبوع في سنة 1809 (1224) ما قوله:

وبإرجاع كلامنا إلى ضفاف دجلة تقع أنظارنا أولا على وهي موضع يقع على اليمين (والصحيح على الضفة اليسرى) وهناك يتشعب من النهر (أي دجلة) جدول يصب بالفرات قليلا فوق (يريد به كوت المعمر بفتح الميم الثانية المشددة ) ـ والظاهر انه يريد بالعمارة كوت العمارة إذ انه لم ينوه به في كتابه بينما كان الكوت قائما كما سنرى.

وفي كتاب جهاننما اكاتب جلبي المطبوع في سنة 1145 ، ص6 - 455) أن للمسافر من البصرة إلى بغداد ثلاث طرق وذكر منازلها وقال عن الطريقالوسطى: (من البصرة إلى القرنة إلى هدير (؟) فعبرة أمير المؤمنين فآل حسين (؟) فالفتحية فنهر السبع فجديدة عفراد (؟) فعبدورقا (؟) فالمنصورية فالإسكندري فشط الحمار (بتشديد الميم) فالقلعة الجديدة فالدكة فقلعة القصر فالجوازر فصدر عمار (مدر العمارة؟) فاللقمانية فبغداد). قلت أخال أن في عدد المنازل نقصاً بعد صدر العمار إذ ليس من المعقول أن يكون بين صدر العمارة وبغداد منزل واحد وان اعتبرنا صدر العمارة في اقرب موضع من بغداد أي في الموضع الحالي للكوت. لعله يريد النعمانية وليس اللقمانية. وجهاننما مشحون بأغلاط الطبع تنقش فيه نقشاً ولا سيما الأعلام. وعندي نسخة من مخطوط فارسي في تاريخ المشعشعين جاء في مقدمته انه لنور الدين بن نعمة الله الموسوي وفي آخره أن المؤلف أتمه في سنة 1234هـ (1818م) ومما فيه قوله (ص42) (سيد مبارك بكنار نهر عمارة رفت) وفي ص97 (بعد از أن زكيه بكنار عمارة وأبو سدرة...) وفي 176: (سباه بغداد بعمارة وسيده) اهو كان السيد مبارك من رجال صدر القرن الحادي عشر للهجرة.

وإذ لا ترضينا شهادات هؤلاء الغرباء ولا سيما لإمكان القول أن الإفرنج لا يفرقون بين عمارة وأمارة قلنا لنا شاهد صميم العروبة هو مختصر طالع السعود في كلامه عن سليمان باشا والي بغداد (والد واليها أيضاً سعيد باشا) المتوفى في سنة 1217 (1802م) (ص29) فانه قال: (وعمر كوت العمارة وسوره) . وكانت وفاة ابن سند مؤلف مطالع السعود على رواية في سنة 1240هـ (1824م) وهي غلط وعلى رواية أرخى في سنة 1242 (1829م) وعلى رواية غيرها في سنة 1250هـ (1834م) ومهما يكن من أمر وفاة ابن سند فإنها متقدمة على سنة 1276 فلم تكن تسمية العمارة باسمها هذا لسبب العمارة التي حكي إحداثها بل هي اسم على مسمى اقدم من الزمن المعين في المقالين ويا ليت العماريين يكتبون لنا ما يقصه عليهم رواتهم ليأخذ الباحث عنهم السمين ويرمي الغث بعد التمحيص والتدقيق.

مباحث عراقية ج1