يعقوب أفرام منصور
كنتُ ابنَ ستة وعشرين ربيعًا حين علمتُ، بوجود فيلسوف إغريقي يُدعى أبيقور(341 ـ 270 ق.م) وبمدرسته الأبيقورية من خلال القاموس العصري لألياس أنطون ألياس ط 1944، وبأن جوهر فلسفته هي أن سعادة الإنسان تتاتى عن طريق العيشة الفاضلة.
وانصرمت بضعة عقود على معلومتي هذه، لكن في العقدين الأخيرين تواردت عن هذا الفيلسوف وتعليمه آراء وتعريفات ـ تُغاير المعلومة الأولى التي رسخت في ذهني وقّيّمتُها أول مرة في عام 1952 ـ من خلال نعوت وخصائص ومقولات لم ترُقني ولم أرتضِها. فقاموس ألياس العصري ط 1974 أورد عن الأبيقورية كونها (فلسفة جوهرها: محاولة جعل الحياة سعيدة عن طريق المعرفة مع الملذّات!) ص 240. وفي قاموس “المنجد في الأعلام ص 25 ط 1988 لبنان”، ورد (أبيقوري تعني: الدعوة إلى الإستمتاع بالملذّات المعنوية.). أما معجم ” المورد الوسيط ص 205 “، فالأبيقوري هو” المنغمس في الملذات الحسّية “! وفي هذا المعجم عينه يرد: (أبيقوري: هو الذوّاقة والمتأنّق في المأكل والمشرب)! ونظير ذلك ورد في معاجم إنكليزية. وفي قاموس إنكليزي ـ عربي ضخم بمجلّدين قديم مطبوع في لبنان في أواسط القرن التاسع عشر، ورد في ص 302 منه عن الأبيقورية:” تمتع النفس باللذّات البدنية”! فلبِثتُ ردحًا نافرًا من هذه التعريفات المشوّهة غير الصائبة بعد التعريف الأول الذي رسخ في ذاكرتي، وقيَّمتُهُ.
ولما تهيأ لي مؤخّرًا الرجوع إلى “الموسوعة العربية الميسّرة”، عثرتُ في المجلد الأول ص 43 على هذه المعلومة التي ارتحتُ إلي فحواها ـ نوعًا ما ـ عن أبيقور: [ فيلسوف يوناني، عرّف الفلسفة بأنها فن إسعاد الذات بالمتعة العقلية. وهي الخير الأوحد. إستقرّ في أثينا حيث اشترى الحديقة التي ارتبطت في تاريخ الفلسفة بأكاديمية أقلاطون وبلوقيون أرسطو. فلسفته أخلاقية، أساسها لذّة التأمّل التي لا يعقبها الألم. وقد أُسيء فهمه، فقيل إنه يدعو إلى الملاذ، على نقيض مذهبه ]. لكنّ شبكة الأنترنت أمدّتنا بمعلومات وفيرة عـــــن المــــوضوع، منها هذه الفقرات:
– ألّف زهاء 300 عمل، لكن معظم ما وصل إلينا منها أجزاء ورسائل، وما بلغنا من فلسفته مستمَد من تابعيه وبعض المؤرّخين، ومن هذه النصوص التي حفظها ديوجين اللايرسي، رسالة موجّهة إلى هيرودوت (المؤرّخ والرحّالة اليوناني) في موضوع الطبيعيّات؛ ورسالة موجّهة إلى فيتوكليس في الآثار العِلوية؛ ورسالة موجّهة إلى ميناقايوس في الأخلاق؛ و121 فكرة في ملخّص المذهب.
– كانت غاية الفلسفة عنده: هي الوصول إلى الحياة السعيدة والمطمئنّة، ولها خاصّيتان: الطمأنينة والسلام، والتخلّص من الخوف. وهذا يعني غياب الألم، وتوفّر الإكتفاء الذاتي، محاطًا بالأصدقاء. وعنده السعادة والألم مقياس الخير والشر، والموت هو نهاية الجسد والروح، ولهذا لا ينبغي أن نرهبه.وأن الآلهة لا تكافئ أو تعاقب البشر، وأن الكون لانهائي وأبدي، وأن أحداث الكون تعتمد أساسًا على حركات وتفاعلات الذرّات في الفراغ. تعليقي على هذا النص: يُلاحَظ هنا إعتقاده أن الآلهة لا تُكافئ ولا تعاقب البشر، وأن الموت هو نهاية الروح أيضًا كما هو نهاية الجسد، أي هو لا يؤمن بالحشر والحساب والعقاب والنعيم، ولا بخلود الروح في العالم الآخِر. فهذا الإعتقاد ليس مستغربًا من مواطني الشعب اليوناني الوثني نظير الشعوب الوثنية المشرِكة الأخرى قبل ظهور عقيدة التوحيد البادئة بإبراهيم أبي المؤمنين ثم الأنبياء والـــــرسُل. أما خلود الروح بعد المـــــوت، فكان أفلاطون من القائلين بذلك.
– 2 –
– مذهب أبيقور في اللذّة، بحسب قوله هو (إنها – بديهيًا – خيرٌ يشعر به الإنسان، كما يشعر أن النار حارّة، وان الثلج أبيض. فاللذّة بداية الحياة السعيدة وغايتها. بالنسبة إليّ، لا يمكنني أن أتصوّر ما هو خير إذا استبعدنا ملذات الطعام والحب وكل ما يُمتع العين والأذن. اللذّة التي نقصدها هي التي تتميّز بانعدام الألم في الجسد، والإضطراب في الجسد. وبمجرّد أن تتحقق لنا هذه الحالة حتى تهدأ كلّ عواصف النفس، ولن يكون على الكائن الحي أن يسعى إلى شيء ينقصه. عندما أُوجَد، لا يوجَد الموت، وعندما يوجَد الموت لن أكون موجودًا).
– كان للمدرسة الأبيقوريىة مكانة في تاريخ الفكر الإنساني، فقد عمّت حوض البحر الأبيض المتوسّط، حيث مراكز الفكر والثقافة والمعرفة في أنطاكية والإسكندرية ونابولي وروما في القرن الثاني قبل الميلاد، كما عُرفت في روما في عهد مؤسسها، وقد أشار إليها الخطيب الروماني الشهير شيشرون (106 -43 ق.م) في يعض خطبه، وظلّت مزدهرة في هذه المراكز الحضارية إبان القرنين الأولين الميلاديين، وبعدهما أخذت في التفكك والإنحسار تدريجًا، لتحلّ محلّها المبادئ والتعاليم المسيحية من خلال مؤسساتها الكنسية التي سادت الفكر الأوربي في القرون الوسطى (5 n 15). لكن مع مستهل النصف الأول من القرن 17 لوحِظت بوادر إحياء الأبيقورية مع ظهور فلسفة ديكارت العقلانية. إذ الباعث على هذا الإحياء كان ظهور (غاسندي) الذي وضع (النظرية الحِسَّوية) للمعرفة الأبيفورية مقابل (ديكارتية الأفكار الفِطرية)، ونَصَّرَ نظرية أبيقور الذريّة بأن عدَّ الإله علّة لحركة الذرّات، خلافًا لأبيقور نفسه الذي عزا ذلك إلى الجاذبية الأرضية، كما أنه رأى في الكون كُلاً متماسكًا يتطلّب وجود إله كلّي القدرة ليوضّح قوامه وغائيته. وقد حاول (غاسندي) أن يوفّق بين دعوته الكهنوتية وتجريبيته المضادّة للديكارتية، والمتأثّرة بالأبيقورية. ويُلاحظ كذلك أن نفعيّة (بنتام) و (ستيوارت مِل) قد تأثّرت، في جوانب منها، بالأخلاق الأبيقورية. وقد تكون الأبيقورية أول محاولة، في العالم الغربي، لتأسيس مذهب إنساني كامل.
– وبما أن لدى أبيقور مبدأين متفاوتين في شأن (الخير)، أحدهما يقول إن الخير يتم إختياره دومًا بالإرادة، والآخَر يؤكّد أن كل لذّة خير وكل ألم شر، لكن لا يتم إختيار كل لذّة، ولا تحاشي كل شر بالإرادة دائمًا. فلكي يوفّق بين المبدأين، لجأ ـ نظير القورينائيين ـ إلى تمييزه موضوعَ الإرادة المتبصِّرة من الغاية التي هي موضوع المَيل المباشر. فإذا كان المَيل يحدو إلى اللذّة، فعلى التبصّر بالمقابل أن يزن عواقب كل لذّة. وهكذا تُهمَل اللذّات التي تجرّ فائضًا من الآلام، وتُتَحَمَّل الآلام التي تأتي بلذأت أكبر.ولهذا جعل أبيقور اللذّات على ثلاث مراتب: اللذّات الطبيعية والضرورية التي لا بدّ من إشباعها، كالرغبة في الأكل؛ واللذّات الطبيعية وغير الضرورية التي تطلب التنوّع في إشباع الحاجة، مثل الرغبة في تناول نوع معيّن من الطعام من دون غيره؛ وأخيرًا اللذّات اللاطبيعية واللاضرورية، كالرغبة في تاج، وهي رغبات فارغة باطلة. وهكذا فالحكيم هو من يعلم أن أعلى درجات اللذّة يمكن بلوغها بإشباع النوع الأول من الرغبات، أو بالأحرى، بالإكتفاء بالقليل واتلذّذ بما تضعه الطبيعة المتبًصّرة في تصرّفه.
– فالأخلاق الأبيقورية طائفة من التوجيهات التي تلجم الفكر عن الشرود، وتردعه عن تجاوز الحدود التي عيَّنتها الطبيعة، والتقيّد بهذا المفهوم يوضّح العلاقة بين الفكرتين المحوريتين: اللذّة والطمأنينة. فطلب اللذّة يستتبع وجوبًا كل تلك التمارين العقلية: من تأمّل في الحد الطبيعي للرغبات، ومن حساب اللذّات، ومن تصوّر اللذّات الماضية أو المستقبلية التي يكون جانبها السلبي طمانينة النفس… وصفوة القول إن أبيقور إنسان فكّر بعمق حول تفسّخ الأخلاق وحول الصيغ المختلفة للهستيريات الجماعية، وأراد ـ من خلال رسالته إلــــــى معاصريه ـ أن يبيّن لهــــــم أن عـــــلى الإنسان أن يكون سيّد قدَره.
– في صباه تعلّم على يد معلّم أفلاطون، يُدعى بامفيلوس. وبعد وفاة الإسكندر وانتهاء خدمته العسكرية تعلم على يد نوزيفاتوس الذي اتبع تعاليم ديموقريطس، وفي أثينا أسس المدرسة في عام 306، وبرغم تأثّره بمفكّرين أقدم منه
– 3 –
مثل ديموقريطس، لكنه إختلف معه في تقطة شديدة الأهمية، وهي مبدأ الحتميّة (ربما تعني الــقدَرية).
فقد كان أبيقور ينكر هذا التأثّر، ويتهم الفلاسفة الآخرين بالخلط، ويدّعي أنه تعلّم ذاتيًا. ومات متأثّرًا بآلام الحصى في كليتيه ومرض الزحار. وقبل ساعات قليلة من وفاته في اليوم عينه، كتب إلى أحد أصدقائه في (لامباسكاس)، قائلا: [ أكتب لك هذا الخطاب في يوم سعيد وهو أيضًا آخر يوم في حياتي….ولا يمكن أن يكون ثمة وصف لمعاناتي. ولكن بهجة عقلي التي تأتي من إعادة تأمّل جميع دراساتي الفلسفية، تخفف عني كل الآلام. أرجو منك الإهتمام بأطفال (مترودورس) بطريقة تليق بتفاني هذا الشخص من أجلي ومن أجل الفلسفة.] في خاتمة النص الإنترنيتي عن هذا الموضوع، وردت هذه السطور التقييمية والمنافحة عن أبيقور وفلسفته: [ أنشأ أبيقور نظامًا فلسفيًا وأسلوبًا للحياة يستحقان إحترامنا، بل وولاءنا. ذلك النظام الحياتي الأبيقوري أغرى الآلاف لاتّباعه والإلتزام به في مجتمعات البحر الأبيض المتوسّط القديمة التي ظلّت متماسكة مئات السنين.ولكن منذ بداية مسيرته التعليمية لم تسلم رسالته من الإعتراضات ومحاولات التشويه من قِبل فلاسفة أكاديميين وسلطات سياسية ثم دينية مسيحية. لم يحدث ـ برغم كل ذلك ـ أن هجر الأبيقوريون فكرَهم، أو أبدلوه بفكر فلسفي آخَر، بل على العكس كانت المدارس الفلسفبة الأخرى تفقد طلاّبَها لصالح المدرسة الأبيقورية؛ لأنهم ببساطة وجدوا أن لهذا الفكر معنى حقيقي ومنطق متماسك. بينما في العصور الحديثة، حاول منتقدو أبيقور تقديمَه كإنسان كسول سطحي، عاشق الملذّات، غير أخلاقي، وفلسفته كتقليد سيء ملحِد للفلسفة الحقيقية. في أيامنا هذه كلمة (ابيقورية) أصبحت تعني عكس مضامينها، فصارت حماسة تدّعي كلّ ما هو باهظ الثمن من طعام وشراب وملبوس أنيق. لذا، يُرجى منكم أن تحظوا بالشجاعة الكافية لتجاهل ألفي عام من الأفكار المسبَقة الخاطئة، وإعـــــطاء هـــــذا الفيلـــسوف القــــــدر الذي يستحقُّه.