بواكير المقال الصحفي في الصحافة العراقية

بواكير المقال الصحفي في الصحافة العراقية

أريج ناظم سيالة

تدين النهضة العربية إلى الفن الصحافي بالكثير اذ ان خطوات التجديد الأولى في الفكر والادب واللغة بدأت عبر الصحافة وماكان بمقدور الادباء العرب الخوض في ميادين النثر الحديث لولا حاجة الصحافة إلى الافهام والتواصل مع القارئ فالمشروع النهضوي في العالم العربي إنما بدأ مع انتشار دور الطباعة والصحف والمجلات

أما المقالة فانها بنوعيها الذاتي والموضوعي ارتبط تاريخها في الادب العربي الحديث بتاريخ الصحافة ارتباطا وثيقا فهي لم تظهر كفن مستقل شأنها في فرنسا وانكلترا بل نشأت في حضن الصحافة منذ ظهورها وخدمت أغراضها المختلفة وحملت إلى قرائها اراء محرريها وكتابها .

وبهذ أصبحت المقالة اساس الفن الصحفي اما الخبر فقد تراجع إلى حد الإهمال التام وبقي هذا الحال حتى عام 1930م اذ اتخذ الفن الصحفي اتجاها اخر برز فيه الخبر والصورة نتيجة للتقدم المطبعي ولم يكن العراق بمعزل عن محيطه العربي فقد كان المقال هو الطابع المالوف للصحافة اليومية والاسبوعية وكانت الجريدة التي تصدر باربع صفحات في ذلك الوقت تخلو من الانباء الخارجية والمحلية لضعف الوسائل الحديثة في نقل والتقاط الانباء بجانب ضعف الامكانات المادية وقلة الإعلان كلها عوامل لسد الفراغ في تلك الصفحات بالمقالات المطولة غير ان صحافة العراق بقيت متاخرة ولم تسجل أي تقدم مهني يذكر فيما يتعلق برقي الصحافة في سائر البلدان العربية وكان من عوامل تاخرها الامية التي كان يعاني منها اغلبية الشعب العراقي فضلا عن انها كانت وليدة جهود فردية ولم تصل إلى الانتاج على نطاق واسع فقد سيطر عليها الكثير من المرتزقة الذين سعوا إلى التحيز ومصانعة المحتل مما افقد الثقة بهم وبصحفهم فلم يكن في العراق في المدة (1869م – 1908م) أية صحيفة اهلية بجانب الصحف الرسمية الثلاث (زوراء)، و(بصرة)، و(موصل) فلم تكن الحكومة العثمانية تسمح بمنح الامتياز لاصدار اية صحيفة مهما كان نوعها وكان ابرز ما يميز صحف تلك المرحلة الركاكة والابتعاد عن المقاييس الأدبية واستعمال السجع والبيان الذي لا طائلة فيه وبعد إعلان الدستور العثماني عام 1908م اخذت الصحافة الشعبية بالنمو على ايدي جماعة من الصحفيين ساروا بها نحو خدمة الشعب متجهين بها إلى البساطة في الأسلوب والدقة في المعنى وذلك لصلة المقالة الوثيقة بالجمهور من جانب ومن جانب اخر فانها مهدت الطريق لمعظم الكتاب لبلوغ الشهرة فقد استطاع كتاب المقالة الأدبية ان يعبروا بشكل موضوعي عن تجارب الشعب عن طريق احساسهم بواقع العراقيين مما اثر في اتجاهات المقالة في اواخر هذه المدة وعلى وجه التحديد قبيل الحرب العالمية الأولى اذ بدأت المقالة تطالب بلسان العراقيين بالحرية والاستقلال وكان ابرز ماتميزت به المقالة قبيل الحرب العالمية الأولى وجود العناوين البارزة وتضمين الشعر والحكم والآيات القرآنية وانعدام الترقيم وانتشار بعض الكلمات والمصطلحات الجديدة والظاهرة التي يمكن ملاحظتها على صحافة العراق منذ نشأتها وحتى تاسيس الحكم الوطني عام 1921م ان القصيدة كانت اقوى تعبيرا واعمق تأثيرا من المقال ويرجع ذلك إلى الطبيعة العراقية التي هي اقرب إلى الطبيعة البدوية وهذا خلاف ماكانت عليه الصحافة المصرية في المدة الزمنية نفسها فالمقال الصحفي في مصر كان الرائد للفنون الأدبية كلها.

وكان السيد محمد عبد الحسين اول من ادخل فن المقال في الصحافة العراقية ابان الثورة العراقية عام 1920م ومن ثم تعاقب الكتاب والادباء ولاسيما كتاب المقالات الموضوعية من رجال الأحزاب السياسية وأصبح الطابع السياسي يغلب على المقالات الصحفية في المعالجات كلها الحزبية والمستقلة أوالمعارضة والمؤيدة لسلطات الحكم انذاك وكانت الصحف تكثر من كتابة المقالات المطولة اما افتتاحيات الجرائد حتى الحزبية منها فكان معظمها يكتب ويوقع باسماء كتاب من داخل وخارج اسرة التحرير وترجع سيطرة المقال السياسي على صحف تلك المرحلة إلى تنامي وتعاظم الشعور الوطني لدى ابناء الشعب اما اهم الجوانب السياسية التي اعطاها المقال أكثر ثقله واهميته هي المسالة الوطنية واستقلال البلاد فقد رافق هذا الجانب الصحافة العراقية بشكل عام والمقال بشكل خاص منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى ثورة 1958م كما ان مسألة الحرية والحياة الديمقراطية داخل البلاد والقومية العربية ووحدة مصيرها مثلت هي الأُخرى نقطة اهتمام شغلت المقال في الصحافة العراقية واهمل المقال جوانب أُخرى لاتقل أهمية عن الجانب السياسي كالجانب الاجتماعي فقد كان الاعتقاد السائد ان في حل المشاكل السياسية حلا للمشاكل الأُخرى كلها فضلا عن ندرة وجود كتاب متخصصين في معالجة النواحي الاجتماعية لقد امتازت المقالات في المدة الواقعة بين عامي 1914م -1921م بميزات تختلف عما كانت عليه في العهد العثماني فقد اتجهت بلغتها وأساليبها وجهة أدبية واهتمت باختيار الالفاظ السهلة مع الاعتناء بالمعاني وجودة العبارة.

ومن ابرز كتاب المقال الذين شاركوا في التحرير والكتابة طيلة مدة مابعد ثورة العشرين حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939م هم: باقر الشبيبي، وعبد الغفور البدري، ومحمد عبد الحسين، وفهمي المدرس، وإبراهيم صالح شكر، وإبراهيم حلمي العمر، ورفائيل بطي، ومحمد رضا الشبيبي وغيرهم وكان عام 1930م بداية لظهور ملامح المظاهر الاجتماعية على المقالة فاخذ الكُتّاب يتعمقون في دراسة احوال مجتمعهم ومايعج به من تناقضات وبدأت المقالة تعرض صورا حية ناطقة لحياة الطبقات الكادحة وبانتهاء الحرب العالمية الثانية انبثقت الحياة الحزبية من جديد بعد ان توقفت عن العمل اثر نشوب الحرب بأمر من الحكومة ففي عام 1946م ظهرت مجموعة من الأحزاب السياسية التي أصدرت صحفا عديدة مثل حزب الاستقلال، والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاحرار، وحزب الاتحاد الوطني، وحزب الشعب فقد أدخل فريق من ساسة تلك الأحزاب أسلوبا جديدا على المقال تمثل في تبسيط لغته وتضمينه مفاهيم سياسية جديدة لم تكن موجودة قبل الحرب العالمية الثانية لكي يستطيع ان يواكب تطور الاوضاع السياسية الداخلية والعالمية والذي فرض بدوره أسلوبا حديثا في الكتابة السياسية والعلمية والموضوعية.

ويمكن القول ان المقال الصحفي في اربعينيات القرن الماضي قد امتاز بتعدد الاتجاهات وتبلورها ونمو أساليب متميزة في الكتابة فهناك مقالات جريدة (الزمان) الهادئة ومقالات الشاعر محمد مهدي الجواهري الصدامية الملتهبة في جريدة(الجهاد) ومقالات كامل الجادرجي الرصينة في جريدة (صوت الاهالي) ومقالات عزيز شريف في جريدة (الوطن) ومقالات جرائد (لواء الاستقلال) و(الجبهة الشعبية) و(الاساس) وغيرها من الصحف وبصورة عامة كان المقال السياسي والادبي والفكري والنقدي هو الطابع الرئيس لشكل ومضمون الصحافة العراقية منذ نشأتها حتى اواخر الاربعينيات وشهدت الاعوام من 1954م- 1958م تطورا ملحوظا على صعيد العمل الصحفي سواء من ناحية التقنية بادخال مكائن الطبع الحديثة اومن ناحية ظهور أنواع جديدة من المقال وهو (التعليق السياسي) على الاحداث الداخلية والعربية والعالمية كما اوجدت بعض الصحف باب (اليوميات) وبدأ كُتّاب تلك المقالات بالاعتناء بالشكل والمضمون والابتعاد عن الحشو والتركيز على نقطة واحدة في أي موضوع يتناولوه بالمعالجة وبعد ثورة 14 تموز 1958م دخل ولاول مرة إلى الصحافة العراقية التحقيق الصحفي والمقال القصير والاستفتاء الشعبي سواء أكانت تلك الصحف حزبية أو مستقلة كما حفلت الصحافة بالعديد من المتغيرات التي لم تكن تعرفها قبل هذا الوقت منها تغير لغة الكتابة الصحفية وشيوع الفاظ وعبارات جديدة اسهمت بشكل واضح في تبسيط لغة الكتابة وتقبلها لدى القراء لاسيما الجدد منهم مما ساعد على ظهور طبقة جديدة من القراء كان لها دورها في اتساع دائرة الثقافة العامة واتشار الوانها وصورها واليوم يسهم المقال الصحفي اسهاما فاعلا في تطوير العملية الاتصالية اذ صرنا نشهد في كل يوم صورة جديدة للقراء الذين أصبحوا مع الوقت شخصيات تتجاوب مع كاتب المقال عن طريق التفاعل والتواصل (الايميل) مما اسهم في تطوير المجتمع الجديد الذي أصبح واضحا للعيان بعد سنوات النضوج السياسي والادبي وهذا يعني ان الصحافة في مرحلتها الجديدة أصبحت تتمتع بالتقدير اللازم لما لها من دور في الحياة الإنسانية عامة.

عن رسالة: إبراهيم صالح شكر صحفياً