الصمت البليغ (عن طالب مكي)

الصمت البليغ (عن طالب مكي)

يحيى الشيخ

في المعرض الأول ل “جماعة المجددين” في قاعة كولبنكيان عام 64 تعرفت على طالب مكي: شاب طويل،عيناه متقاربتان تستقطب من يقابله في بؤرتهما، نظراته ثاقبة استفهامية تبحث عن كلمات وملامح في وجه محدثه. لم أكن اعرف عجزه عن النطق بحرية ووضوح، فتقدم فائق حسين، الذي أصبح ترجمان طالب وامين سره بيننا، ليوضح ما يقوله طالب... سألته مرة كيف يفهمه؟ رد علي فائق: هو يفهمني وهذا هو المطلوب!

أذن انا امام احجية، امام صمت مليء بالحياة عليّ فهمه، صمت محتدم يجدر استيعاب بلاغته!

هو نفسه لم يكن بحاجة لترجمان لما يقوله الآخرون وحتى ما يفكرون به، كان يفهمنا وفرض علينا أن نفهمه، فأصبح مع الأيام محور افكارنا ونكاتنا الماجنة التي كان يفضحها بحركات جسده ويديه، كان وبجدارة ممثل صامت...

كانت المرأة أجمل ما يتحدث عنه وما يرسمه، وما يقلقه ايضاً... كانت تعني ابعد مما تكشفه من حضور فيزيائي، فكرة أعمق واعقد يعجز عن شرح فكرته عنها، فكان يكتفي بإغماض عينيه وتنشق الهواء بعمق وكأنه يشم اقحوانة قطفت لتوها.

في المعرض الثالث لجماعة المجددين عرض صندوقه الحديدي: مكعب على أربعة أرجل هي عبارة عن قضبان حديدية رقيقة. في واجهته الامامية حلقتان بمثابة عينين ينزل من بينهما انف مستقيم تحته فم مطبق، تتناثر حوله بثور بمثابة لحية جعدة... على الوجهين الاخرين حلقات كبيرة بمثابة اذنيين، الوجه الخلفي للمكعب فارغ أملس، فليس من حاجة للوقوف خلفه، بل مواجهته وجها لوجه... المكعب كله من حديد صدئ، هكذا شاء طالب مكي ان يقدم صمته البليغ، الذي قال في وقتها ما لم يقله البشر.

المكعب هذا كان عندي يتربع حديقة البيت في زاويتها التي عند الباب يستقبل الداخلين ويودع المغادرين، وحين غادرت العراق هربا في ليلة ظلماء ظل في مكانه ولا اعرف ماذا حل به من بعدي... ولكن مهما حصل معه فهو بعض مما حصل للعراق بعد مغادرتي...

أنا الآن امام موتين، موت الجسد وموت الصمت الذي اسرني ببلاغته، والذي مازلت اسمعه.