بين إبراهيم صالح شكر وولده: على قبر الصحفي الكبير. .

بين إبراهيم صالح شكر وولده: على قبر الصحفي الكبير. .

خالد محسن اسماعيل

وفي 6 نيسان 1944 ومن على فراش المرض يملي ابراهيم على ولده «رياض» اخر رسائله مخاطبا بها احد اصحابه خارج العراق:

( وبعد، فان الالام ينبوع عذب، ولكن “ذات الرئة” مرض وبيل، وهو يلازمني منذ سبعة عشر يوما، وقد وصل كتابك الاخير والشمعة تذوب، والذبالة ترتجف، وما ادري اهذه الكلمات هي آخر ما امليها على ولدي رياض ام اني قادر على ان استقبل مشرق الشمس ومشهد الغروب في مستقبلي المكتظ بالمحن والاكدار. . ) . وحين نسامع اصحابه بما انتهى اليه، ادخله صديقه “محمود صبحي الدفتري” في 4 مايس 1944 المستشفى على نفقته الخاصة، و”رياض” معه لا يفارقه ولا يغفل عن رعايته.

ومع غروب شمس الخامس عشر من مايس 1944 وفي مستشفى “العلمين” في “ارخيته” يحس ابراهيم صالح شكر ان شمسه هي الاخرى ان لها ان تسقط في الظلمة التي لا قرار لها. . لقد آن اوان الأوبة، فما بقي، بعد، زيت في السراج! .

ويلتفت ابراهيم الى رياض، فيلبي رياض نظرات ابيه، ثم يفهم منه انه يشير اليه ان: اذهب الى البيت، فسارع رياض الى حيث اشار والده لعل في تلبية ما طلب راحة للجسد المتعب المهدود، وما درى انه الفراق الذي لا وداع معه، وانها الابوة في احلك لحظاتها تؤدي فريضة الحنان كي لا يشهد رياض موت ابيه امامه. . ! .

وتبحر النفس الابية المعذبة الى حيث يبحر الناس جميعا ولا يعودون. .

يقول اهل بيت ابراهيم فيما حدثني به اخي “مليح ابراهيم صالح شكر».

لقد اصاب موت ابراهيم من ابنه رياض مقتلا، فاذهله اول الأمر، ثم اسقطه يوم آمن بالواقعة، ثم اضناه حين كف عن طعام وشراب، ولكنه كان لا يكف عن النحيب، وكثيرا ما استيقظ الاهل المفجوعون بالوالد وبالولد معا في تلك الليالي المشهودة فلا يجدون “رياضا “ في فراشه ولا في البيت. . واذا بباب الدار مفتوح وطريق المقبرة يردد بقايا نشيج مكتوم، ومقبرة الغزالي غارقة في الظلمة الموحشة، ورياض يحتضن قبر أبيه ويبكي. . يتمزق حسرات على الذي رحل بلا وداع! .

وكان فراق بين رياض وحياة الناس بعد رحيل ابيه. . فما رقأ له دمع، ولا كف عن توجع مكبوت، سلوته. . ذكرى تغشاه ليل نار، وزيارات يأنس فيها بالحبيب القريب البعيد، وامل قريب – لا ابعد منه – في ان يسمع الراقد تحت التراب نداءه يوما فيجيب. . حتى كانت ليلة العيد. .

ولعله، كان العيد الاول بعد وفاة ابيه، فكتب رياض، بعد زيارة للقبر، هذه السطور بالحبر الاخضر بخطه موقعة بتوقيعه من غير ان يفصح عنها تاريخ او اشارة، ويومها تأكد له ان لا سبيل بعد الى ابيه. . لقد فقده الى الابد:

(اليك. . اليك يا أبي في مثواك العزيز في ليلة العيد، لعلني اراك، ولعلني امسع ذلك الصوت الحنين ابي. . دخلت السور الذي يحيط بمثواك والليل شديد الظلام، فصاح “بواب المقبرة”: من هذا؟ فقلت له: اجعلني اليه الى حيث يرقد الوالد الحبيب، وقفت بجوارك يا ابي بكل خشوع ورهبة لعلني اسمع ذلك الصوت الجميل ولكن. . هيهات. ناديت: يا ابي لقد جئتك الليلة. . ليلة العيد، فاختفت كلماتي وسط النحيب عند قبرك اردد البكاء والنحيب لعلك تسمع توسلات ابنك الحزين ولكن هيهات.

ابتعدت يا ابي عنك ولي العذر في ذلك وسط الرعب الذي ملأ قلبي وتوسلات “البواب”، وتأكدت في هذه اللحظة باني قد فقدتك يا ابي الى الابد، وفقدت كل شيء بفقدك حتى قبلائك في يوم العيد يا والدي الحبيب) .

لقد آمن رياض يومذاك انه فقد اباه حقا، وفقد به كل شيء حتى قبلاته الحنونة في يوم عيد. . ليت شعري. . هل علم ابراهيم صالح شكر اي ميراث تركه لرياض – امله الحلو الاخضر – يوم تركه وحيدا ضعيفا كالنبتة الصغيرة في صحراء ضاربة؟

وتتوالى الايام على “رياض” ثقيلة بالهم والجوع الوداء فينوء باه فتى العشرين خريفا. . الذكرى لا تفارقه، والحزن يذيب القلب حسرات، والداء الوبيل ينهش ولا يشرب غير دماء الصدور. .

ويسقط صريع السل! فيرسله اهله الى لبنان لعله يجد هناك شيئا يعيد اليه شبابه او عافيته، ولكن. . لا أمل يعشو على اثر من ضياء. . فلم يبق في السراج زيت يضيء.

ويوم عجز حنان الابوة عن ان يجمع الابن الى ابيه كان المرض اقوى وارحم. . لقد جمع بينهما السل على عجل في مصير واحد.

ففي يوم من ايام عام 1946 ابحر رياض. . بقية ذبالة اطفأتها ريح العذاب والغربة. .

ابحر رياض الى حيث يبحر الناس جميعا لعله يسعد هناك بلقاء الحبيب الذي رحل بلا وداع! .

مجلة افاق عربية 1977