فيوضات محبة..في وداع الفنان حميد البصري

فيوضات محبة..في وداع الفنان حميد البصري

طالب غالي

أبا نديم.. حميد البصريّ..

أتراك استعجلت الرحيل؟

أم أنّ روحك تاقت الى عالم نورانيّ أكثر اشراقاً؟

يا حميد..

هكذا أناديك، فلقد عرفتك وكان عمري عشر سنوات،

حين كنا أبناء محلة واحدة في مناوي الباشا.

رأيتك وأنت بعمر الثانية عشرة، وفي يدك آلةُ ايقاع صغيرة توقّعُ

عليها بعصا صغيرة، وأنت تنشدُ مع رجالٍ يكبرونك عمراً،

بعض تراتيل المدائح النبوية في حلقات الذكر، حيث كنتُ أتابعُ جلساتها بشغف واهتمام، لما تقدمه من تهويمات روحية بأنغام متنوعة.

ودارت بنا الأيام،

وألقت بنا الحياة في دروب ومسالك ومنحنيات مختلفة،

كلٌّ إلى منتأى.

والتقينا بعد سنوات طويلة..،،

حيث انتقلت أنت وعائلتك الى محلةٍ أخرى وسكن جديد.

في هذه المرحلة حين التقيتك، تعرفت عليك شاباً نشطاً طموحاً،

فقد أورق كثيفاً فيك حُب الموسيقى، ورجع الإيقاعات الجنوبية،

وغناء الفلاحين،،

ونداء الشواطئ،، واهتزاز سعفات النخيل،،

وعلقت في أردانك رائحة الطلع،،

ونفح الجوري،،

وارتفع في داخلك منسوب حب البصرة مدينتك الأثيرة.

كان أول لحنٍ جميلٍ صغتهُ أنت،

فحفظتهُ عنك ورددتهُ مع مغنين آخرين،

كتب كلمات النص الشاعر ناصح محمود..

على شط العرب تحله أغانينا وعلى البصرة

كمر ونجوم يا محله الليالي ومحله هالسهرة

في هذا اللحن كنت قد ادخلت (الصفكة البصرية)وهذا بحد ذاته ابداع جديد.

كان اللحن جميلاً راقصاً وفيه حداثة لحنية، وإيقاعية نشطة، حرّكت المشاعر والفرح،

وعكست مرح البصريين وطيبتهم وهزجهم.

وتعاليت شجرةً باسقةً أعطت ظلالاً وثمراً مختلف الطعم واللون والرائحة.

فقدّمت أغنيات وجدانية، أغنيات وطنية، أغنيات وصفية للطبيعة وجمالها.

كنت مجدّاً طموحاً، وسعيت بكل ما تملكُ من طاقة وإمكانية من أجل أن يكون للبصرة فنها المتميز والعذب والأصيل والجديد.

فعمدت بسعيك الحثيث،،

ولم تعرف الكلل او الوهن،،

إلى تشكيل فرقة موسيقية من العازفين الجيدين والمطربين الذين يمتلكون صوتاً جيداً، وتواصلت مع الشعراء الشباب الواعدين وهدفك كان هو أن تتبنى الفرقة نتاج أعضائها الجديد غير التقليدي، من كتابة الشعر، والتلحين، والغناء.

ما هذا العزمُ والطاقةُ والاصرار؟

وأعلنت بهمّةٍ وثقةٍ عاليةٍ عن تشكيل الفرقة الموسيقية البصرية.

كنت مؤسسها وقائدها.

وذلك عام 1965، وبعد عام على تأسيسها ومثابرتها على التمارين للأغاني الجديدة بصورةٍ جدّيةٍ والتزام عالٍ بمواعيد التمارين، قدمتْ الفرقة أول قطافها على بهو البلدية مقابل أسد بابل بأغنيات جديدة، لملحني الفرقة ومطربيها وشعراء البصرة بنصوص جديدة،

لحناً وغناءً وشعراً.. فلاقت نجاحاً وإعجاباً جماهيرياً منقطع النظير.

وتواصل عطاؤها الفني المتميز والمتجدد وشكل علامة باهرة في المشهد الموسيغنائي في البصرة. كما قدمت للتلفزيون في بغداد

ضمن برنامج وجوه جديدة أفراداً من بين أعضائها.

في مجال الغناء..سيتا هاكوبيان.. لويس توماس.. طالب غالي.. والتلحين إضافة اليك..سامي شاكر..وليد لويس.. محمد سعيد خزعل.. مهدي صالح.. طالب غالي..

وكانت كل الأعمال جديدة في محتواها الموسيقي واللحنيّ والنصّ الشعريّ الغنائي.

كنت اللولب والمحرك يا أبا نديم وداينمو الفرقة ورُبّانها، وراسماً بمنهجية ووعي طريق عملها وأهدافها وتطورها.

بعد هذا الانجاز الرائع والذي تفاعل معهُ الجمهور البصري وفنانوه ومثقفوه،

اقتضت الضرورة الفنيّة إلى تقديم عمل يتخطى الغناء الفردي

و الأغنية الواحدة والموضوع الواحد.

وبعد مناقشات طويلة مع أدباء وفنانين بصريين..منهم الشاعر والفنان والخطاط محمد سعيد الصكار الذي كان له دورٌ مؤثر ومهم في هذا المشروع أو الفكرة، والناقد المعروف ياسين النصير، وكذلك آخرون، ساهموا في إغناء الفكرة وتدعيمها.

تمٌ خلال هذا اللقاء التوصل إلى تقديم عمل مسرحي غنائي يتناول ظاهرة هجرة الفلاحين من الريف الى المدينة، وانعكاسات ذلك على هذه الشريحة من المجتمع وتداعياتها والنتائج المترتبة عليها.

فكان.... أوبريت... بيادر خير...

وضع السيناريو له الناقد المعروف ياسين النصير وكتب شعره

الشاعر المتألق علي العضب.. مع بعض أبيات من الشعر الفصيح

لربط المشاهد ببعضها.. كتبها الشاعر خالد الخشان.

وأسند الاخراج المسرحي للفنان المبدع قصي.

ولك صياغة الألحان المتنوعة، حواراً ولوحةً وتعبيراً.

كنت يا أبا نديم أول ملحّنٍ عراقيّ يقدم مثل هذا العمل الكبير،

ليس في البصرة فحسب،

بل على صعيد العراق، فسُجلت الريادة في تقديم

أوبريت غنائي عراقي باسمك أنت..

فازدهت البصرة وعلا اسمها وسجل التاريخ لك هذا الابداع.

يا ابا نديم..

في داخلي فيوضات محبة، ونبض وشائج علاقة عائلية حميمية عميقة الجذور

هادفة ومشتركة،، درباً.. وفنّاً،، وفكراً.. وعطاءً.. أحتاجُ الى صفحات عديدة كي اسطّر أحداثها وتفاعلاتها وأبعادها.

يا صديقي ورفيقي..

ولن ننسى كعائلة ما بيننا من علاقة عائلية نموذجية حيثما كنا وعبر السنوات التي مرت،، وفي بلدان الهجر.

ساكتبُ لاحقاً ما لم أستطع ذكرهُ الآن، وهو كثير،

فأنا أعيش مع حزنٍ ساخنٍ أورثهُ رحيلك الصادم والموجع، وسيلٍ متدفقٍ من الذكريات المشتركة التي جمعتنا في العراق،

وفي بلدان المنفى القسريّ.

أشارك أنا وعائلتي بكل أفرادها عائلتك يا حميد حزنهم ولوعتهم لفراقك ورحيلك،،

العزيزة الغالية أم نديم،، رفيقة عمرك ودربك،، وشريكة ابداعك وعطائك،،

ومقاسمة آلامك وافراحك،، فهي الحبيبة والزوجة الطيبة والأم الوفيّة.

وأبناءك الأعزاء نديم.. رعد.. سامر.. أور.. بيدر.

أنت باقٍ في وجداننا وذاكرتنا لن تغيب،،

صحيحٌ هو الجسدُ وحدهُ الذي ارتحل الى حيث يكون المأوى والرقدة الأبدية للبشر.

لكنّ روحك ستظلُّ ترفرفُ حائمةً حولنا وبيننا، تُذكّرنا بك وبما أبدعت من فنٍّ جميل ومساهمةٍ إنسانيّة وتطلعٍ متفائلٍ،

لوطنٍ حرٍّ وحضاريّ مزدهر يسودهُ السلام والمحبّة ويعيشُ أهلهُ بوئامٍ وأمان.

لروحك السلام.. ولك الذكر الطيب الجميل.