حميد البصري... “الطريق” من دجلة إلى الراين مرّ في بردى

حميد البصري... “الطريق” من دجلة إلى الراين مرّ في بردى

علي موره لي

في مطلع قصيدته “هتافات الشعب”، يسأل الشاعر اليمني، عبد الله عبد الوهاب نعمان (1917 - 1982): “الهتافات لمن، بين الجموع؟”. تأتي الإجابة في الشطر الثاني: “إنها للشعب وحده”. يعود فيسأل أوّل كلّ بيت: “ولمن فرحتنا ملء الربوع؟ ولمن يقظتنا دون هجوع؟ ولمن وثبتنا دون رجوع؟”. في آخر كلّ بيت، يُسمَع ذات الجواب: “إنها للشعب وحده».

في تلحينه تلك الأبيات، التقط الموسيقي العراقي، حميد البصري (1935 - 2022)، بحساسية شعرية وحدس سياسي، مركزية الشعب ومرجعيته في معرض القصيدة. لذا، أسند الشطر الثاني إلى نغمة القرار، ألا وهي الراست. أما الأسئلة المتتالية؛ فقد أطلقها لتحوم باستمرار حول مدار الراست، وعلى بُعد النغمة الخامسة. بهذا، رسم للحن مساراً كالنهر، يعود كل مرة ليصب في عبارة الشعب وحده.

هي رحلة عودٍ أبدي إذاً. الشعب وجهتها الدائمة.

هكذا تكون المسيرة، كما تطلع إليها جيل حميد البصري، الذي رحل في السابع والعشرين من إبريل/نيسان الحالي. مسيرة تقودها طليعة طوباوية من الإنتلجنسيا، ضمت أدباء وفنانين ومفكرين، نشطوا منذ الستينيات حتى الثمانينيات من القرن الماضي، على هامش الحياة الثقافية الثقيلة والرتيبة، التي سادت أفنية النظام الرسمي العربي.

مسيرةٌ، أسس لها حميد البصري في بغداد فرقة موسيقية عراقية، بالشراكة مع الشاعر زهير الدجيلي (1937 - 2016) والمغنية شوقية العطار، زوجة البصري ورفيقة المسيرة. أطلق عليها “جماعة تموز للأغنية الجديدة” سُجِّل عرضها الأول سنة 1977. تكيّفاً مع ازدياد قمع السلطات واشتداد سطوة الرقابة، اعتمدت الفرقة في نهجها إزاء الفن السياسي المناصر لقضايا الحرية والديمقراطية، أسلوباً مجازياً ظل يحتال على أذن الرقيب في الشكل وفي المضمون.

مع ذلك، لم تصمد الجماعة لأكثر من عام. لتُكملَ المسيرة في المنفى ومن عاصمة اليمن الجنوبي، عدن، ولتُعيد تأسيس علامتها الفنية تحت اسم “فرقة الطريق”. على أعتاب الثمانينيات، وفي ظلّ الحرب الأهلية اللبنانية، ودخول المقاومة الفلسطينية طرفاً فيها، اكتسبت قضية التحرر من الأنظمة بعداً نضالياً؛ إذ إنّ الطليعة الديمقراطية، أخذت تعقد القران بين مناهضة الاستبداد السياسي، والنضال المتصل في خوض الصراع العربي الإسرائيلي.

بيروت، العاصمة العربية الوحيدة التي حاصرها الإسرائيليون ثم اجتاحوها سنة 1982؛ قد صارت لها مركزية كفاحية لدى طليعة التحرر الديمقراطي العربي. غدت “الرمز”، كما وصفها البصري، حين كان يقدّم أغنيته لفرقة الطريق بعنوان “حصار بيروت” من نظم الشاعر الفلسطيني شفيق حبيب؛ إذ سيُلحَّن لفظ اسم العاصمة اللبنانية الذي يتقدّم نصّ الأغنية على نغمة السيكا ثالثة المقام، القلقة وغير المستقرة. وسيلجأ إلى مدّها زمنياً، معززاً بذلك عنصر التوتر الحسي فيها، مدللاً على اشتداد الحصار، محفّزاً المشاعر الوطنية نصرةً للعاصمة العربية.

إلّا أنّ حراك نغمة السيكا، وقرع دفوف الفرقة، وضرب ريشة البصري على العود، وصدح حنجرة شوقية العطار، لم تكن لتمنع عن بيروت مآل السقوط. من المآلات، أيضاً، كان خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان إلى منفى آخر؛ فيبتعد الوطن وتخبو آمال الحرية، ويكبر الصدع في العالم العربي، ليُكتب فصلٌ جديدٌ من التغريبة الفلسطينية أشدّ وطأة. فيما يظل الترحال بين المنافي، هو الحال الأكثر واقعيةً التي جمعت بين طلائع المقاومة ضد الاحتلال وطلائع التحرر الديمقراطي.

حال الترحال والمنفى، كانت فرقة الطريق قد جسّدتها، ليس فقط بالنهج والسيرة، وليس بوحي الأشعار والألحان وحدها، وإنما أيضاً بالصورة وبالمشهدية المسرحية لدى حضورها أمام جمهورها، وفي الذاكرة الجمعية. تمثّل الحضور بظهور أعضاء الفرقة على الخشبة، وهم واقفون متأهّبون. حتى آلة العود، التي عادة ما تتطلب من العازف جلوسه على مقعد نظراً لتكوّر صندوقها الخشبي واتّساعه، تكيّف حميد البصري على حملها على ذراعه، بغية العزف عليها مُنتصبَ القامة. بالإضافة أيضاً إلى تميّز الفرقة بزّيها الميداني الموحد، الذي بقي مناسباً لظروف المسيرة، وحمل في طياته رسائل الكفاح الثوري.

كفاحٌ طال أمده، إلى أن شهد الأستاذ حميد البصري سقوط نظام البعث في العراق، إثر احتلال القوات الأميركية لبغداد سنة 2003. وإن طويت معه صفحة من الطغيان، كانت قد جلبت على العراقيين العميق والدفين من الأحزان والآلام، بيد أن ما تلاها من صفحات، لم يعلُ إلى مستوى التضحيات والآمال. وهو في منفاه الأوروبي الأخير على مقربة من نهر الراين، رأى في ممارسات الاحتلال واستشراء الفساد وتمكُّن التيارات الدينويّة “الهدمية”، على حد وصفه، خطراً داهماً على هواء بغداد ومياه دجلة. كأني بطاغوت يزول فتأتي طواغيت، والخاسر من جديد هو الشعب وحده.

أما عن سبب الإشارة إليه بـ “الأستاذ حميد” فذلك ليس فقط لأنه مارس مهمة تدريس الموسيقى، كما أنشأ وقاد عديد الفرق منذ بدء المسيرة وعلى طول الطريق، بل لأنّ حميد البصري كان في الواقع أيضاً أستاذي لمادة الموسيقى العربية، خلال تعلمي في المعهد في دمشق، وكانت العاصمة السورية إحدى محطات “الطريق” خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات حين حلّ بها. وفيها، ساهم بتأسيس قسم الآلات الشرقية بالمعهد العربي للموسيقى، ومن ثم المعهد العالي، كما شكّل وقاد فرقهما الموسيقية.

كان الأستاذ حميد وسيماً أنيقاً. ظلّ طبعه دمثاً ومزاجه رائقاً. يُطلّ علينا متأبطاً محفظة عُوده بذراع، فيما الأخرى تُمسك بغليونه يفوح منه عطر دخانه. عندما كان يتحدث في الدرس، نسمع صوته خافتاً، ميّزته بحّة حميمة ولطّفته لهجة عراقية دافئة. أضاءت وجهه الأسمر من تحت شاربيه الرقيقين المهذبين ابتسامة صادقة. كنا نتحلّق حوله، فتيات وصبية، كلٌّ يُمسك بكراسه، يردد من ورائه وهو يعزف على عوده، موشّح “يا عذيب المرشف” للسيد درويش على نغمة الراست. كانت أصواتنا ونحن نُنشِد تُسمَع في بهو المعهد كهدير نهر...

عن العربي الجديد