نص نادر..صرعى الكتب والمكتبات في العراق

نص نادر..صرعى الكتب والمكتبات في العراق

الشيخ محمد رضا الشبيبي

لا يعرف على التحقيق الزمن الأول الذي دوّنت الكتب فيه واقتناها الناس على هذه الصورة أو ما يشبهها حسب اختلاف العصور غير أنا نعلم أنه قد قارن عهد وجود الكتب وجودُ أناسٍ فتنوا بها وسحرتهم فبالغوا في جمعها وفي الضنة بها وقد تأنقوا في نسخها ووراقتها وتجليدها وتنضيدها وتحليتها بما لا مزيد فوقه.

وربما كان بعض جماعة الكتب من غير قراّئها ولا من المتدبرين لها ولكنه أولع بها فوجد مع جهله لذّة في اقتنائها وارتياحاً إلى الازديادِ منها وطيب نفسِ لا للاستفادة ولكن لمجرَّد انفتاحها وانطباقها وللهو بها كما كان يفعل أحد جماعة الكتب من الفرس في النجف على عهد غير بعيد وقد كانت اليد الطولى للفرس في بث روح المغالاة بالكتب بين أهل العراق وذلك على عهد هبوطهم هذه الديار وانتيابهم إياها لطلب العلم أو للجوار وفيهم أولاد العلماء والملوك وأهل الجاهِ والثروة فحملوا إلينا خزائن الكتب من بلادهم غير ما جمعوه بعد تمكنهم في هذه البلاد وغير ما حملَ إليهم من بلاد الهند وغيرها. هذا غير ما كان لإِيران من الفضل في طبع الكتب التي لا تقع تحت حصر من علمية على تشعب فنون العلم ودينية على اختلاف فروع الدين وكلها تحمل إلى العراق أو إلى النجف حيث اطمأَن العلم والعلماء وشيدت المدارس وأنشئت بيوت الكتب الكبيرة فاقدم إذ ذاك عامةُ الناس على ابتياعها وكان قد نبغ أثناء ذلك قوم معروفون أُولِعوا بجمع الكتب وشغفوا بحبها وبينهم فريق من أبناء الملوك والعلماء وذوو الأسر. والبيوت الأصيلة. وآخرون من الدهماء خلقوا لتصرعهم الكتب فعكفوا على نشدانها وطلبها من مظانها فتيسرَ لهم جمع ما ليس باليسير منها ومن هؤلاء من أدرّكناهم في زماننا هذا كالشيخ (الملا باقر التستري) المتوفى في النجف سنة 1329 فأنه كان مفتوناً بجمع الكتب فتنةً قلَّ أن تعهد في غيره وكان إذا قدّم إلى (معرض الكتب) في النجف كتاب مخطوط بذل النفس والنفيس في سبيله على قلة ذات يِدِهِ وربما تملق لمن ينافسه في الكتاب تملقاً لا مزيد عليه حين (المناداة) على بيعه وقد يقبل المنافسَ ويتعلق به ليتركَ لهُ طلبتهُ. قال بعضهم نافسته يوماً في كتابٍ و (المنادي) ينادي عليه فسألني تركه فما كان منه إلاَّ أن امسكني بيده قائلاً وقد تغيرَ: أَما تخشى الله؟ وله نوادر جمة في باب اقتناء الكتب وقد جاور زماناً بمكة واتصل بالشريف هناك واقتنى قسماً من كتبه المخطوطة فيها. وله إلى إيران رِحلات كان أهمَّ ما يحمله عليها جمع الآثار ولقد حصل باجتهاده على أمهات الكتب النفيسة القديمة على اختلاف موضوعاتها وقد شاهدنا بينها كتب الدين والفلسفة

والفلك والرياضيات والشعر والتاريخ والعربية وكان إذا اقتنى كتاباً كتب عليه بخط بديع (للحقير محمد الباقر) وخط معروف يشار إليه عند الصحفيين وفي أسواق الكتب ومعارضها ولما عرضت كتبه للبيع سنة 1329 وكان فيها اكثر من ألف مجلد مخطوط نودي عليها عدة أسابيع وكنت ممن يحضر المناداة فشاهدت فيما شاهدت ما يدهش المتأَمل من آثارٍ نادرة في بابها ونفائس مخطوطات قليلة الوقوع حتى في أمهات بيوت الكتب الكبيرة في العالم وذلك مثل كتاب (مشارق الأنوار) للقاضي عياض الذي كان يظن أنه أصبح أثراً بعد عين وكتاب (العين) للخليل الفراهيدي وكتاب (الزينة) لأبي حاتم وكتاب (غريب أبي عبيدة) وكتاب (طبقات القراء) وشرح (تذكرة الطوسي) في الفلك للخفري وشرحها أيضاً للسيد الشريف وقد ملكتهما و (القول المأنوس) وهو وجيز حاشيةٍ على القاموس وغير ذلك من شواذّ الأسفار الكبيرة التي لم تمثل بعد للطبع كبعض مؤلفات الثعالبي المعروف ووقفت أيضاً بين كتبه على كتاب (وفَيات الأعيان) بخط مؤلفه قاضي القضاة ابن خلكان هذا عدا ما لا اقدر أن آتي عليه في هذه العجالة وبالجملة ذهبت كتبه بثمن بخس وبيعت بصفقة خاسرة ولو نودي على هذه الكتب في أسواق الغرب لذهبت بزنتها لجيناً على أن مبتاعها غير مغبون.

وممن عرف في النجف من الغلاة في اقتناء الكتب العالم المحدَث الكبير الشيخ (ميرزا حسين النوري) الطهراني المتوفى قبل اثنتي عشرة سنة تقريباً فقد كان متعلقاً بجمع المخطوطات متفانياً في إحراز نفائس الآثار وله نوادر غريبة في هذا السبيل تدل على شديد افتتانه وعظيم بلائه بها منها أنه وجد يوماً في سوق من أسواق كربلاء كتاباً كان ينشده عند امرأة فاستباعها واستامها عليه فأرضاها ويظهر انه كان ذاهلاً لعثوره نبهاً على ضالته فأنه لما أراد إيفاءها ثمن الكتاب لم يجد عنده شيئاً ولكنه بادرَ فخلع حلةَ ثمينة كانت على متنهِ وباعها في سوقٍ كاسدةٍ بثمنٍ تافهٍ يسير واخذ الكتاب من صاحبته بهذه اللجاجة الغريبة وبالجملة كانت خزانة كتبه من احفل خزائن الكتب الكبيرة ويحكى أنه كان في جملة مخطوطاتها ألف مجلد عليها خطوط مؤلفيها وهذا مما لم يتفق حتى في خزائن كتب الملوك في القرون الأخيرة فأنا نعرف أميراً من أمراء الهند لم يجمع غير سبعمائة مجلد عليها خطوط المؤلفين وقد كان رحمه الله مصلحاً سالكاً سبيل السلف الصالح وعالماً مؤلفاً حريصاً على نشر العلم ولذلك لم يوصد باب خزانته في وجوه الطلاب ولم يمتنع أن يعير كتبه من يستفيد بها من الناس كما يفعل كثير ممن كنز الكتب وقبض عليها قبضة الشحيح وخصوصاً العامة من جماعتها فانهم لم يذوقوا لذة العلم ولا حملوا بالمعرفة ليهون عليهم بذل أسفارهم في سبيلهما وعلى العكس من ذلك رجل صرعته الكتب وهو قد رضع افاويق العلم وخلصت نيته في نشره فأنا كثيراً ما سمعنا عن السلف الصلحاء انهم حبسوا كتبهم حبساً عاماً على من ينتفع بها من الناس ويؤثر عن بعضهم قوله:

أن زكاة الكتاب عاريته

ويوجد اليوم في النجف من العلماء المطبوعين على حب الكتب

وتفقد الآثار الجامعين لها جماعة منهم الشيخ الفاضل الرفيع القدر الغريب الصبر والثبات (الشيخ علي) من آل كاشف الغطاء وهو الرجل الذي لا يرى إلاَّ مجدّاً في النسخ والتأليف أو عاكفاً على المطالعة أو لهجاً بجمع الكتب وذكرها يقص عليك أحاديثها ويصف لك مظانَّ وجودها ويترجم لك أحوال صرعاها وجماعتها وقد كانت نفسه الكبيرة حملته على الرحلة فجاب بلاد الفرس وبلاد الترك وبلاد مصر وسوريا والحجاز ولم تكن رحلته هذه رحلة تسلية وتفكهة لا بل كانت أشبه برحلات منتجعي العلم والرواية من السلف الصالح فأنه كان إذا حط رحلهُ في بلد وجه همه إلى زيارة معاهده العلمية والوقوف على دور كتبه المهمة هكذا كان في مصر والشام والأستانة وقد ألقن في هذه العاصمة اللغة التركية فشافه كبار ساستها وعلمائها ولم يبق فيها بيتاً من بيوت الكتب إلا زاره واستفاد منهُ وكان إذا أعجبه كتاب لم يكبر عليه نسخه واكتتابه وإن كبر كما فعل يوم كان في الأستانة فانه أنتسخ فيها لنفسه بنفسه أسفاراً جمة منها كتاب (شرح أبي تمام على مهاجاة جرير والأخطل) وقد وجده منتسخاً بالخط المغربي القديم وهو خط معمي يجهل المشارقة تهجئته فعكف أياماً على تفهمه ومحاكاته بقلمه حتى أتقنه فلم يصعب عليه بعد ذلك أنتساخ الكتاب ونسخ أيضاً ديواني (مهيار) و (كشاجم) ولم يكونا يومئذ مطبوعين وبفضله طبع الأخير على نسخته التي أنتسخها لنفسه وهمته في الصبر على الكتابة مشهودة حتى أنه تناول كتاب (آمالي القاليّ) قبل طبعه وعكف على نسخه في عدة أسابيع وكان الوباء منتشراً حيث أقام فلم يعقه ذلك عن مقصد

ومما نسخه لنفسه كتاب (نسمة السحر في من تشيع وشعر) وهو كتاب نادر الوجود قل من سمع به ونسخ كتاب (رسائل ابن العميد) الكاتب المعروف وهو يقع في مجلدٍ ضخم ونسخ غير ما رأَيت بهمة غريبة وجد متواصل حتى أنه لو اقتصر على ما ورقّه بيده لحصل على خزانة كتب حافلة لكنه لم يقتصر على ذلك واخذ يتطلب الكتب النادرة ويبتاعها وساعده على نجاح قصده تجواله في البلاد فاشترى من الأستانة وغيرها من البلاد التي عرج عليها كتباً نفيسةً مخطوطة ومطبوعة فاجتمعت له خزانة كتب لا تزال من أمهات خزائن الكتب العربية وفيها المخطوطات الكثيرة في كثير من الفنون وبعض نسخها قل أن يعرف لها ثانٍ مثل ديوان الشاعر المشهور (الحسين بن الحجاج) العراقي صاحب الدعابة والمجون ومثل كتاب (الطراز) في اللغة للسيد علي خان الأديب المعروف صاحب سلافة العصر وأنوار الربيع وديوان (مهيار) الديلمي تاماً أو قريباً من التمام وديوان السيد الشريف المرتضى وعشرات من أسفار العلم والأدب الشاذة سلف ذكر بعضها ثم أنه لم يقف عند جمع الكتب والتقاط آثارها أو أنتساخها بقلمه فعكف على الكتابة في الأدب والتأليف فيه وقد نجز إلى الآن من مؤلفاته كتاب (فصل الخطاب في الكتابة والكاتب والكتاب) مخطوطاً في مجلدين ضخمين وهو كتاب جامع لم يسبق مؤلف إلى إفراغه بهذا القالب البديع وقد استعان على تأليفه بما وفق لجمعه ونسخه من الكتب وبما حدث على عهده أو ما قبله بقليل مما يدخل في موضوع كتابه وقد ملحه بشذرات من الكتب العلمية الحديثة فجاء كتاباً ممتعاً جامعاً لفنون المعاني حافلاً بضروب المقاصد وقد استمالني منه فصل معجب جاء المؤلف فيه على وصف دور الكتب التي وقف عليها أو انتهى إليه وصفها سواء كانت في بلاد العراق بلاده أو في غيرها من البلاد التي جابها في رحلته وقد كان بودنا أن ننقل هذا الفصل عن هذا الكتاب لمكان مناسبته لموضوع المقالة لولا أنّ ضيق نطاق الوقت حال دون ذلك ونحن إذا عنت الفرص فاعلون. ومن مؤلفات هذا الشيخ الكبيرة التي وقف لها حياته كتاب (طبقات الشيعة) على اختلاف الصور وعلى تباين الأحوال فمن طبقات رواتهم ومحدثيهم وحملة أخبارهم إلى طبقات علمائهم وكتابهم وشعرائهم وطبقات ملوكهم ووزرائهم وأمرائهم وقد نجز إلى الآن قسم كبير منه يقع في عدة

مجلدات وهو دائب السعي وراء إتمامه متصل الاجتهاد في سبيل إنجازه وإذا تم كان أكبر خدمة لهذه الطائفة الإسلامية العظيمة الشان التي قلما انصرف رجالها وخصوصاً المتأخرين منهم إلى وجوه التاريخ وتدوين آثار أسلافهم ومعاصريهم انصراف أهل السنة من إخوانهم المتقدمين والمتأخرين وبالجملة أن حياة هذا الرجل حياة جدٍ وعمل متصلين ونعمت الحياة. ومن صرعى الكتب في النجف اليوم الشيخ (محمد علي الخونساري) فأنه مبالغ في اقتناء الكتب وخصوصاً النادر منها وقد جمع عدداً غير يسير منها ومن مخطوطاته قسم كبير في الفلسفة القديمة ومنهم السيد (محمد) اليزدي فأن لديه خزانة كتب خطيرة حوت كثيراً من الأمهات مثل كتاب (غريب أبي عبيدة) مخطوطاً في القرن الخامس على ما أظن وكتاب (المجمل) في اللغة لابن فارس وغيرهما كثير.

ومن عشاق الكتب في العراق وجماعيها السيد (حسن صدر الدين العاملي) العالم المعروف في الكاظمية فقد انشأ له طلبه الحثيث لها خزانة كتب مهمة بينها قسم كبير من الآثار النادرة ككتاب (العين) وكتاب (الجمهرة) لابن دريد فيها وكتاب (طبقات القراء) ولا نعرف لمن هو فقد ألف جماعة من العلماء في هذا الباب وفيها غير ذلك من نفائس المخطوطات والرجل ممن اشتهر بالتأليف وقد نجز إلى الآن على يده كتاب (تأسيس الشيعة) وهو كتاب تاريخي أدبي جم الفائدة بعثت صاحبه الغيرة على الطائفة فألف كتاباً دَل به على سبقها الفرق الإسلامية في التأليف وانبعاثها قبلها إلى تأسيس العلوم والفنون ولا يزال كتابه هذا مخطوطاً ويسعى مؤلفه طبع كتاب (المجازات النبوية) للسيد الراضي في بغداد سنة 1329 وللسيد هذا غير ذلك الكتاب مؤلفات في الموضوعات الدينية والتاريخية ويوجد اليوم في هذه البلاد رجال آخرون من صرعى الكتب لم نذكرهم لضيق المجال

النجف: محمد رضا الشبيبي

مجلة (لغة العرب) في ا آذار 1913