د. علي طاهر تركي
ان تخصص علي الوردي اكاديمياً بعلم الاجتماع اولاً، ومحاولاته في التوصل الى تحديد رؤى، واثبات فرضيات خاصة باشكاليات المجتمع العراقي ثانياً، دفعاه الى دراسة تطوراته، والعوامل المؤثرة به بصورة معمقة وتحليلية،
مما تحتم عليه اللجوء في دراساته الى سبر اغوار تاريخ العراق الحديث والمعاصر على وجه الخصوص، وتاريخ البلاد العربية والاقليمية، لما لها من علاقات مباشرة وغير مباشرة بتاريخ العراق عموماً، فالتاريخ وسيلة في الوقوف على طبيعة تكوين شخصية الفرد العراقي وبالتالي سلوكياته من جهة، ومن ثمة الظواهر والمظاهر الاجتماعية واسبابها من جهة اخرى.
لقد التمس في دراسته للتاريخ منهجاً خاصاً به، يختلف عمن سبقه او عاصره من المؤرخين اكاديميين او غير اكاديميين، لان المؤرخ عادة يدرس الاحداث التاريخية لذاتها، اما الوردي فقد درس التاريخ للحصول على فهم اكبر للمجتمع العراقي، معززاً به فرضياته الاجتماعية، ملتمساً لها سنداً تاريخياً مستمد من واقع الاحداث، يثبت به ما توصل اليه من استنتاجات، فقد كتب ما نصه:
«عند دراستي للمجتمع العراقي، ادركت اني لا استطيع ان افهم المجتمع في وضعه الراهن، ما لم افهم الاحداث التي مرت به في عهوده الماضية، فكل حدث من تلك الاحداث، لابد ان يكون له شيء من التأثير قليلاً أو كثيراً في سلوك الناس وفي تفكيرهم”.
فلا غرو اذ وجدناه في غير موضع من مواضع كتاباته، مشدداً ومؤكداً على اهمية دراسة التاريخ، والوقوف عند رواياته، ليس لاستقاء معارف وتجارب الماضين وحسب، انما استنباط ادلة تاريخية متنوعة لتفسير روافد بناء “العقل الجمعي»، وما ينجم عنه من انفعالات، تنعكس بصورة سلوكيات وافعال عامة، تتخذ في بعض الاحيان شكل «ظواهر”، تحتاج الى دراسة وتقويم، لا غنى للتاريخ عنها، ومن هذا المنطلق كتب ما نصه:
«ونحن اذ ندرس التاريخ، نريد ان نجعله وسيلة لتثقيف الناس، وسبيلاً لمساعدتهم على فهم ما يعانون من مشاكل راهنة.
وعى الوردي وبعمق واضح مدى اهمية التاريخ في دراسة وتحليل المجتمع العراقي المعاصر، لذا اولى اهتماماً خاصاً بتاريخه الحديث لما له من صلة مباشرة في تطوراته المعاصرة، ففي كنف احقابه الحديثة عاش سكان الرافدين واحدة من اسوء مراحل تاريخهم، حيث استبدادية الاحتلال العثماني من جهة، وتعرض البلاد لاعتى موجات بدوية اجتاحت ربوعه مع ما تحمله من افرازات وتداعيات من جهة أخرى، وتراجع حاضره العلم والمعرفة مدنه الزاهرة في الماضي التليد الى نماذج من صور الجهل والقهر من جهة ثالثة، فضلاً عن تفشي الأمراض والأوبئة والفاقة بين عموم السكان فكان لذلك اسوء الاثر على واقعها الاجتماعي.
فلا غرو اذ نجد المجتمع العراقي قد تراجع في ظل ضلامية الاحتلال العثماني، وتحالف مرتكزاته الاساسية الثلاث «الجهل، المرض، الفقر»، تراجعاً مروعاً عن مسار الركب الحضاري المعاصر ومقومات المدنية الحديثة، لتحل محلها مظاهراً وظواهراً اجتماعية سلبية، لطالما كانت مدعاة بؤسه وشقائه وتعثر مسيرته في التحديث والنهوض.
تناغماً مع هذه المعطيات التاريخية وما افرزته من تداعيات خطيرة على المجتمع، قدم الوردي دراسته القيمة المعنونة «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث»، مؤلفةً من ست اجزاء، تناول فيها العـديد من صفحات تاريخ البـلاد الحديث والمعاصر، انطلاقاً من بدايات الاحتلال العثماني حتى الربع الاول من القرن العشرين، استند في انجازها عـلى الكثـير مـن المصادر والمراجع، اذ بلـغت خمسمائة وسبـعة عشر، ما بين كتاب ومخطوط ومجلة، تنوعت مضامينها ومحاورها حيث بلغ مجموع المراجع العراقية الحديثة، مائة وستة وستين مرجعاً، والعربية مائة واحد عشر، في حين شكلت الاجنبية ما مجموعه مائة وواحد وثلاثين كتاباً، كان منها ثمانية وستون مرجـعاً معرباً فقط، ولم تغب المخطوطات والوثائق سواء العراقـية منها او الاجنبية، حيث بلغ مجموعها اربعاً وثلاثين وثيقة، ومخطوط،، لتـأتي الدوريات المحلـية والعـربية مكـملة لمجـموع المـصادر والمراجع، فـبلغت خمـساً واربعين دورية، ، ولم يفت الوردي ان يضمن موسوعته هذه العديد من المقابلات الشخصية والاستعانة بشهود العيان، لاسيما بالموضوعات ذات الصلة بالتاريخ المعاصر، فقد بلغ مجموعها ستاً وعشرين مقابلة .
اما الجزء الخامس، فقد قسمه الوردي الى قسمين، طبع القسم الاول منه وللمرة الاولى في عام 1977، تناول فيه احداث ثورة العشرين في العراق، مبتدءاً بالاسباب والعوامل التي ادت الى قيامها، موضحاً دور تركيبة المجتمع العراقي، لاسيما العشائرية في انطلاقتها، بل عد ذلك هو السبب الرئيسي فيها، فضلاً عن الدور التحريضي الذي اداه “رجال الدين» و «الفئة المثقفة» في ادارة الثورة والمواجهة ضد قوات الاحتلال البريطاني.
كما اشار الى ان هذه المرحلة الزمنية، كانت بمثابة مرحلة الريادة والتاسيس لعدد من القوى السياسية المعارضة للوجود البريطاني، والتي سعت الى تنظيم عناصرها بتنظيمات سياسية “جمعيات واحزاب»، ذات برامج سياسية واضحة وان جاءت في اسسها متواضعة بعيدة عن النظرة الشمولية للمجتمع والدولة على حد سواء، فمعظمها كانت ترتكز على خروج المحتل وتاسيس حكومة وطنية – ديمقراطية خاضعة لسلطة تشريعية منتخبة انتخاباً حراً – ديمقراطياً، والمح في تاسيساتها الى دور الفئة المثقفة المتنورة الى جانب بعض رجال الدين المجددين من ذوي النهج الاصلاحي – التحديثي، موضحاً ان من بين ابرز مراكز نشأتها الاولى الى جانب العاصمة بغداد، كانت مراكز المدن في العتبات المقدسة وعدد من مدن الفرات الاوسط، مشيراً الى ان التكوين العشائري في الاخيرة، اعطى زخماً للعمل السياسي في هذه الاحزاب والجمعيات.
وجاء القسم الثاني، والذي طبع لاول مرة عام 1978، مكملاً لما ابتداءه في القسم الاول حول ثورة العشرين العراقية، مسلطاً الضوء فيه على دور بعض اعيان ورجالات العراق،مثل طالب باشا النقيب ، في تهدئة الاوضاع واقناع بعض زعماء العشائر في التوقف عن الاستمرار بالثورة.)طالب النقيب(1865-1929): هو السيد طالب بن رجب بن سعيد الرفاعي، ولد ونشأ في البصرة، درس فيها العلوم العقلية والنقلية بالاضافة الى اللغات الاجنبية، كان له دور بارز في الحياة السياسية العراقية اوائل القرن العشرين
ثم تابع احداث وتطورات الثورة في عموم البلاد، مستعرضاً انتصاراتها وعوامل اخفاقاتها، وبالتالي ما تمخضت عنه في نهاية المطاف من فرض البريطانيين لسيطرتهم على البلاد مرة اخرى، ومن ثم اردف هذا القسم ستة ملاحق، تعلقت مضامينها باحداث انتفاضة النجف الاشرف عام 1918 ضد الاحتلال البريطاني واصداء ذلك في مختلف انحاء البلاد، لما تحتله المدينة من مكانة وقدسية لدى جزء حيوي من سكان العراق.
في حين عالج بالملحق الثاني رؤى وتحليلات المدرسة الماركسية عن ثورة العشرين، متمثلة بكتاب المستشرق السوفيتي كوتلوف، مفندا العديد من اسس أطروحاته، عادا اياها “قرائن واهية» على حد تعبيره، في حين عالج في الملاحق المتبقية مضامين واسس الايدلوجية الماركسية، لاسيما المادية التاريخية، والموقف من الدين، فضلا عن طروحاتها حول تطورات المجتمع الانساني.
عن رسالة (علي الوردي جهوده الفكرية وآراؤه الإصلاحية دراسة تاريخية )