بيتر بروك يرحل صوب شكسبير

بيتر بروك يرحل صوب شكسبير

علي حسين

سمعت باسم بيتر بروك الذي رحل عن عالمنا امس الاحد، لاول مرة عندما عثرت على كتاب بعنوان “us.. نحن والولايات المتحدة “ ضمن سلسلة روايات الهلال، وقد اعتقدت انها رواية لكاتب لم اسمع به من قبل “ بيتر بروك “ اكتشفت بعد التقديم الذي كتبه المترجم فاروق عبد القادر انها مسرحية قدمتها فرقة رويال شكسبير عام 1966 ضمن تجارب المسرح الحي، حيث قدم من خلالها بيتر بروك إدانة للحرب الفيتنامية وصور بشاعة الحروب وقد كتب في التقديم الذي نشر مع النص المسرحي:

” ان الحرب في فيتنام تخلق موقفا اكثر قوة وحدة والحاحا مما استطاعت اي دراما ان نعرفها ان تعبر عنه “.. كنت آنذاك مغرم بقراءة النصوص المسرحية، اتنقل بين ابسن وتشيخوف وشكسبير وراسين وجان انوي وسارتر ومدافعه الثقيلة التي يطلقها من على خشبة المسرح، وتمرد البير كامو من خلال ابطال مسرحياته، والشخصيات التي تبحث عن مؤلفها لويجي بيراندلو، وغرائب صامويل بيكت. ولهذا سارعت لقراءة نص بيتر بروك الذي عرفت انه مخرج مسرحي، وان هذه المسرحية اعدها بالتعاون مع الممثلين.. في التقديم يطرح بيتر بروك سؤالا: ما هو المسرح الحي؟ ويقول ليست لدينا اجابات على هذا السؤال، لان الهدف من العرض الذي يقدمه هو كيف يمكن للاحداث الدائرة في عالمنا اليوم ان تدخل الى المسرح ؟.. والسؤال الاهم كما يقول بروك: لماذا يجب ان تدخل هذه الاحداث الى المسرح؟.. في ذلك الوقت كان الراحل الكبير كمال قاسم نادر ينشر فصولا من كتاب جيرزي كروتروسكي “ نحو مسرح فقير “ الذي سيصدر ضمن مطبوعات وزارة الثقافة العراقية. وسيلوح لي اسم بيتر بروك ثانية وهذه المرة من خلال المقدمة التي كتبها لكتاب “ نحو مسرح فقير “ يشيد فيها بتجربة هذا المخرج والمنظر البولوني.

بعد سنوات سأحصل على أعداد من مجلة الحياة المسرحية التي كان يرأس تحريرها الكاتب المسرحي الشهير سعد الله ونوس، وسأجد فيها ترجمة لكتاب بيتر بروك “ المساحة الفارغة “ – ترجمة فاروق عبد القادر الذي يؤكد فيه ان بإمكان المخرج المسرحي أن يتخذ اية مساحة فارغة ويدعوها خشبة مسرح عارية، فإذا سار انسان عبر هذه المساحة الفارغة في حين يرقبه انسان آخر، فان هذا كل ما هو ضروري كي يتحقق فعل من افعال المسرح. الكتاب الذي ظهرت طبعته الاولى في بريطانيا عام 1968 لا يزال واحدا من اهم المصادر للعاملين في المسرح في معظم بلدان العالم.

بعدها سأحصل على هدية ثمينة من الصديق عزيز خيون وكانت كتاب “ النقطة المتحولة “ – ترجمة فاروق عبد القادر، صادر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، وفيه يطرح بيتر بروك هذا السؤال: ماذا تعني كلمة ثقافة؟ ويخبرنا ان هذه الكلمة تمثل عنده ثلاث ثقافات عريضة، واحدة هي، ثقافة الدولة، والثانية ثقافة الفرد، والثقافة الثالثة هي في رأيه فعل إحتفالي “.

قبل وفاته بعامين خلال الفترة التي أعلنت فيها معظم دول العالم الحجر الصحي بسبب وباء كورونا، قال بيتر بروك و كان يستعد لاصدار كتابه “ الإنصات.. تأملات في الصوت والموسيقى” لمراسلة جريدة لوفيغارو: ” الصمت لا يعني الموت. هناك ألف نوع من الصمت. صمت الملل، وصمت الكاتدرائيات أو الصمت الذي أسمعه خلال نزهاتي في غابة بوا دو بولون. رائع هو حضور الصمت بين الأشجار” – ترجم الحوار عبد الرحيم نور الدين – في مذكراته التي صدرت عام 2003 بعنوان “ لننس الزمن “ – ترجم فصول منها محمود عبد الغني – يخبرنا ان المسرح لم يكن من إهتماماته في صباه فقد كانت السينما هي نافذته الى العالم: ” كنت نادرا ما اشاهد مسرحية، واذا فعلت فبتحفظ منساقا وراء والدتي وحبها للفنون، فيما والدي يشير بطرف عين (انت وانا لسنا مثقفين، نحن نحب السينما) اشعر وانا داخل المسرح، بانني مفتون، ولكن ليس الحبكة ولا لعب الممثلين هم ما اسر مخيلتي، بل الابواب والكواليس الى اين تؤدي، أي سر تخبئه؟ “.

ولد بيتر ستيفن بول بروك في الحادي والعشرين من اذار عام 1925 في مقاطعة “ شزويك “ غرب لندن لعائلة روسية، كان والداه عالمان هاجرا من الاتحاد السوفيتي الى بريطانيا، بعد الثورة الروسية، وبينما كان أبوه عالما فيزيائيا تمكن من اختراع نظام خاص للتليفون، يمكن الجنود من الاتصال في جبهة القتال أثناء الحرب العالمية الأولى، نالت أمه درجة الدكتوراه في العلوم الكيميائية، وتوصلت إلى تركيب مضاد لمفعول الغازات السامة. أرادا لابنهما أن يصبح عالما، فاهتم في صباه بقراءة الكتب المتوفرة في البيت وكانت خليطا من العلوم والرواية والفلسفة، قالت له امه إذا أردت ان تنجح في حياتك اقرأ هذه الكتب وناولت مؤلفات كاتبها المفضل تولستوي، كان الأب مغرما بشكسبير، ويقول لابنه إن هذا الكاتب لا يقل أهمية في العلم عن نيوتن.. في الخامسة من عمرة يتعرض لأزمة صحية تتطلب إجراء عملية جراحية عاجلة، الأطباء ينصحون الأم بان لاترهق الصبي كثيرا، فحالته الصحية لا تسمح بالإجهاد. في السابعة من عمره يجرب حظه مع التمثيل فيؤدي دور هاملت في احتفال اقامته المدرسة.. ينهي دراساته الاعدادية بدرجات متوسطة، ومع بلوغه سن السابعة عشرة (1942) أنجز أول أعماله المسرحية تحت عنوان “حكاية الدكتور فاوست التراجيدية” استنادا إلى نص من نصوص كريستوفر مارلو (1564-1593) أحد كتاب الحقبة الإيليزابيثية. حاول ان يدرس علم النفس مثل شقيقه الاكبر الذي اصبح إستشاريا نفسيا، لكنه في النهاية يقرر دراسة الأدب الروسي في اكسفورد، هناك حيث يرقد تولستوي وتشيخوف ودستويفسكي وغوغول. ، اثناء دراسته الجامعية تندلع الحرب العالمية الاولى فيستدعى للخدمة العسكرية، يرتدي لباس الجيش، يسخر من شخصيته الجديدة ويكتب في رسالة الى والدته انه لا يعرف هذا الشخص المنتكر في لباس الحرب: ” كانت فكرة الحرب ترعبني منذ الطفولة.. وكنت اعتقد دائما انني في أول فرصة متاحة ساختبئ تحت سريري الى أن تسود الهدنة “ لكن آماله ستخيب حيث يجد نفسه “ بجزمتين ثقيلتين ولباس عسكري “ يجتاز الحواجز، وينظر الى العريف وهو يصرخ طالبا منه تسلق الحبال المعقودة. بعد عام يتم اعفاءه بسبب وضعه الصحي. ينهي دراسته عام 1945، في الجامعة يقدم اول تجاربه المسرحية بعنوان “ الحب الضائع “ عام 1943 اعدها عن رواية لتورجنيف، لم يثر العمل إهتمام الجمهور، فقد كانت الحرب تستحوذ على إهتمام الجميع، بعد عام يخوض تجربته الثانية وهذه المرة مع شكسبير ومسرحية “ روميو وجوليت “ التي يصفها بانها مسرحية عبثية، فروميو وجوليت ضحايا التوقيت، او ضحايا العالم المليء بالمتضادات، تثير روميو وجوليت إهتمام الجمهور ويدور حولها نقاش وجدل ووجد فيها البعض اسلوبا جديدا يعلن من خلاله الشاب بيتر بروك القطيعة مع المسرح السائد. ، بعد التخرج يشد الرحال الى ستراتفورد مسقط رأس شكسبير للتعرف أكثر على الكاتب الذي سترتبط به حياة برباط وثيق: ” أعمال شكسبير تشبه نظاما متكاملا للشفرة، تستثير كل شفرة منه ذبذات ونبضات فينا. وشكسبير لا ينتمي للماضي، ولو كانت المادة التي يقدمها صحيحة، فهي صحيحة الآن “.. على مدى اكثر من سبعين عاما سيرتبط اسم بيتر بروك بالكاتب الشهير وليام شكسبير،إذ لا يمكن فصل مسرح بيتر بروك عن شكسبير، فقد أخرجه وشرحه وعقب عليه طوال حياته وكان يقول ان شكسبير “ غذاءه المفضل “ يتغذى منه مثلما يتغذى من الحياة.. في مسقط رأس شكسبير يقدم مسرحية “ الملك جون “.. تم تعيينه م مديراً لدار الأوبرا الملكية، لكن « المسرحي المشاغب « سيثير ضجة بعد عرض مسرحية سالومي التي استخدم فيها رسومات لسلفلدور دالي اعتبرت آنذاك فاضحة..

يعود للعمل في مسرح شكسبير ليقدم بعضا من العروض، لكنه سيبهر الجمهور بعرض مسرحية شكسبير الدامية « تيتوس اندرونيكوس « وفيها يقدم نظريته حول الفضاء الفارغ، والتي سيشرحها في كتابه « المساحة الخالية « وفي هذه المسرحية يتم التعاون مع لورنس أوليفيه اشهر من قدم شخصيات شكسبير على المسرح، وقدصرح بروك ان الذي شجعه على اخراج « تيتوس اندرونيكوس « هو إدراكه انها تحوي بذرة ما يمكن تسميته المسرح الخشن، بذرة كل المآسي الشكسبيرية: » ان مسرحية تيتوس اندرونيكوس اكثر من غيرها تجعلنا ندرك طبيعة عبقرية شكسبير « – بروك مع شكسبير ترجمة كلثوم أمين -.

في الستينيات يقدم كاتبا مسرحيا سيصبح واحدا من أهم كتاب المسرح وهو « بيتر فايس « في مسرحية « مارا صاد « التي أحدثت تحولا كبيرا في المسرح العالمي، ويخبرنا بيتر بروك أنفق برووك ما يقرب ثلاثة أرباع مدة التمرينات على المسرحية في حّث وتشجيع فريقه التمثيلي على إنتاج أشياء مبتكرة تكمن خلف النص أو تحته!. ليس أي نص بالطبع، ولكن النص الذي يمتلك تلك القدرة على تفجير مخيلة القارىء أو الممثل. وفي هذا الصدد، كتب قائلاً: «... يوجد في مارا- صاد الكثير من الإسراف الباروكي والفانتازي للأفكار. وهكذا، فاالذي يرقب عملنا في التمرينات ونحن مستغرقون في إقصاء الزيادات والزخارف، تلك التي شغلت ثلاثة أرباع زمن تمريناتنا على المسرحية، سوف تنتابه حالة من التفكير، في أننا نسعى إلى إلغاء وحجب فكرة المؤلف، عبر ابتكاراتنا وارتجالاتنا التمثيلية والإخراجية. لكن، لو أن هذا المراقب منح نفسه القليل من الصبر لمواصلة العمل معنا إلى الآخر، لخرج بنتيجة معاكسة تماماً. ». وقد حصل العمل على جائزة “توني” عام 1966.

في منتصف السبعينيات يبدأ بروك، مع الكاتب “ جان كلود كاريير”، العمل على تكييف القصيدة الملحمية الهندية “ ماهاباراتا “ في مسرحية تم عرضها لأول مرة في عام 1985 حيث استمر العرض لاكثر من سبع ساعات متواصلة.

في الحديث عن شكسبير يتساءل بيتر بروك: كيف أنه رغم مرور مئات السنين على كتابتها، لماذا لاتعد هذه النصوص قديمة؟ ويجيب على ذلك ان شكسبير كان يمتلك القدرة على رؤية العلاقات بين الاشياء في الأماكن التي لا يمكن ان تكون فيها هذه العلاقات.

في بداية السبعينيات يستقر في فرنسا حيث يؤسس المركز الدولي لأبحاث المسرح، وتبدأ مرحلة جديدة من حياته سيقدم من خلالها أعمال تشيخوف وصماويل بيكيت وتحفته “ المهابهارتا “ وإعادة تقديم عروض شكسبير

في آخر حوار معه قبل عام قال بيتر بروك: ” خفت من أشياء كثيرة، واليوم أخاف من السقوط لأنني في هذه المرحلة من العمر، لم أعد أتوفر على عضلات، وغالبا ما أفقد توازني. أنا أقبل فكرة اتصال الموت بالحياة. سيكون من الغباء الفادح الاعتقاد بأننا خالدون. كل مولود يجب أن يموت. وهذا ليس موقفا أخلاقيًا أو دينيًا أو فلسفيًا، بل هو بداهة.