عبدالجبار عباس... غادرنا بهدوء كأنه الصمت

عبدالجبار عباس... غادرنا بهدوء كأنه الصمت

يوسف العاني

قبل تأسيس فرقة المسرح الفني الحديث عام 1957م أحسسنا انه واحد منا... يسير معنا بعيون مفتوحة وتواضع جم وذهن متقد من أجل ان يتعلم كل شيء ويرمي بتراكمات سابقة لا قيمة لها كان قد تعرف عليها واقترب منها بعفوية وبساطة.. ولم تكن تعني شيئا في مفهوم القيم الحقيقية لبناء الانسان..

(ليس السطح اللامع هو الطموح ولا الصعود السهل هو الارتقاء الحقيقي).. تعرف على هذه الحقائق بسرعة بنهم كبير اليها.. لم يكن يتردد في ان يعمل كل شيء من اجل ان يخطو الخطوات الاولى في درب المسرح الحقيقي والخطوات الرصينة الاولى في السينما.. وراح – نحن نشجعه – راح يقرأ ويستمع الى لقاءاتنا بانتباه وحماسة فذة.. فمن سطور قليلة كان يكتبها معبرا عن بعض آرائه.. راح يخوض مناقشات بتردد اولا ثم من دون تردد ليعبر عن موقفه ووجهة نظره بشجاعة.

خطواته كانت هادئة لكنها تعمقت شيئا فشيئا وراح هو في الوقت ذاته يتحمل مسؤولياته في المسرح وجدارة.. ثم راح يدعو الى تعميق كل خطوة ويحلم احلاما كبارا وصار جزءا مهما من مسيرة فرقة المسرح الحديث.. ليعلو اسمه وتتركز ومكانته في مسرحيات كثيرة مازال بعض منها في ذاكرة الناس.

فدوره الحميم والممتع والذي يضحك ويبكي.. (مرهون ابو قنبورة) في “ النخلة والجيران “.. مازال انموذجا في عفوية الاداء وصدقه وعمق تأثيره في الناس حسرات وآهات وضحكات من القلب في آن واحد.

هكذا ترتسم صورة.. (عبدالجبار عباس) امامي وانا أقرأ خبر وفاته للمرة الثانية.. بعد ان وصلنا نبأ موته قبل زمن بعيد ليكتب عنه من كثب ويخصص له حقل وفاء في برنامج سهرة الخميس.. وهو حي يرزق.. وكانت تلك مصادفة مرحة بالنسبة له.. فقد كان يجيد حبك مصادفات مضحكة في مناسبات عدة يضحك من معه ويؤنسهم بها.

عبدالجبار عباس كان ممثلا يدخل في القلب قبل ان يقف على المسرح.. يسهل كل الامور ولا يعقدها.. حتى ملابسه يوفرها ويختارها من بين الملابس المتكدسة في مخزن الفرقة.. حتى انه يرتديها ويقف امام المخرج ونحن بعد في مرحلة قراءة النص. ينتبه لكل الملاحظات وان لم تكن تعنيه في شيء.. منضبط مواظب وفي الى حد التضحية يتساءل عما لا يعرفه فان لم يستوعب اعاد ثانية وثالثة.. ولكن بأدب طريف !

كان عبدالجبار عباس انموذجا لكل عضو جديد يدخل فرقتنا المسرحية يحاول هو اولا ان يعلمه على الصح من دون استعلاء ومن دون ان يشعره بأنه يعلمه.. بل يأتي المعلومة منسابة من خلال أكثر من مناسبة.

عبدالجبار عباس جاع ولم يحن رأسا.. ولم يستجد من أحد.. بل راح يكدح بشرف وبسالة عاملا بسيطا ومستخدما في اكثر من مكان من دون أن يكون بموقع (المذلة) الفنية ان جاز لي هذا التعبير.

فمنذ ان وعى ومارس درب الفن الحقيقي النظيف.. تعالى مع نفسه فصار مطلوبا ومرغوبا في أكثر من مكان وحالة.. المسرح، السينما، الاذاعة، التلفزيون.. فبعد ان بدأ بدور (ام علي) حين عزت الادوار النسائية صار مخرجا اذاعيا تشفع له كفاءته وتجربته.. وممثلا يسأل عنه الناس ان غاب عنهم وسار الزمن بتناقضاته.. والانسان ابن زمنه.. فاقعده المرض.. مرض جاءه على عجل حين رافق اصدقاء السوء.. ولم يحظوا له حرمة بل استغلوا طيبته ووفاءه.. ولم يكن يدري ان الدنيا – احيانا – غادرة ان لم تنتبه لمن ولما يحيطنا منها.. وكاد ان يفقد الحياة اكثر من مرة.. لكن عائلته الكريمة الطيبة احاطته، وراحت تكدح كما كدح وتبذل الجهد كي تحافظ عليه.. فأكسبته سنوات عمر جديدة.. ولكن، لن يطول العمر وقسوة الحياة اعتى من ان تتكسر.. فتوقف القلب الطيب ليغادرنا بهدوء كانه الصمت.. مثلما جاءنا ذات يوم صامتا ليقول: “ أريد ان اعمل معكم.. لأتعلم “.. فتعلم وعلم.. ثم عاد ليصمت الى الأبد..

رحمك الله يا عبدالجبار !