الجواهري وثورة 14 تموز 1958

الجواهري وثورة 14 تموز 1958

عباس غلام نوري

كان الجواهري في مزرعتهِ عند أندلاع الثورة حتى سمع من المذياع ما نطق به عبد الكريم قاسم في إحدى المؤتمرات الصحفية من أنه كان يعرف الجواهري في وقت سابق وهو صديق حميم له وكان الجواهري قد قابله فعلاً في لندن إبان سفرته اليها عندما دعتهُُ جمعية الصداقة العراقية البريطانية عام 1947

وكان قاسم لايزال ضابطاً في الملحقية العراقية في لندن وكان معجباً بالشاعر وشعرهِ فشجعتهُ هذهِ المعرفة على التعاطف مع الثورة، ثم أنه قد أيد الثورة بقصيدته «جيش العراق» التي القاها من الاذاعة وتناقلتها الصحف المحلية في اليوم التالي ومن ثم تلتها قصيدة أخرى حملت عنوان «باسم الشعب» حتى بدا الجواهري شاعر الثورة في أول عهدها.

وكما هو مألوف كانت علاقة عبدالكريم قاسم في الأيام الأولى من عمر الثورة جيدة بالجواهري، فقد وجدنا الاخير قد حيا الثورة وازدادت صلته برجالها من خلال قصائدهِ وجريدته «الرأي العام» ذات الاتجاه السياسي المساير للجمهورية، ففي معرض حديثهِ عن الثورة في بدايتها وكل الحركات التي أيدها بقوله «أنني انساق ببراءة وراء كل ثورة او ظاهرة او انقلاب او حركة أو انتفاضة تحمل في ظاهرها شعارات الولاء والانتماء الى الشعب». وهذا ما حصل للجواهري في أحداث انقلاب بكر صدقي وحركة رشيد عالي الكيلاني وانتفاضة عام 1952 ودفع به هذا الاندفاع الى الاعتقال والتشريد.

ولو تفحصنا جيداً في مذكرات الجواهري لهذهِ المدة لرأينا مدى اهتمامهِ اكثر من أي وقت مضى طوال مسيرته السياسية في العراق ومدى معايشتهِ هذه المدة لقربه من الحكومة وشخص رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم ومعرفتهِ السابقة بما يشبه منعطفاً تاريخياً في حياته، وعلى الرغم من ذلك أبدى تحفظاته تجاه هذهِ المسيرة لما جرى من تنكيل بالعائلة المالكة، فأبدى شعورهِ بالذنب أحياناً. ويذكر الجواهري مدى قرب عبد الكريم قاسم منه الى درجة أن الأخير لم يرد أي طلب لهُ وأنه كان يزورهُ في بيتهِ في أثناء مرضهِ وكانت أبنتهِ عندما تستدعي رئيس الوزراء على الهاتف يطمح لتفيذ مطاليبها، ويروى أيضاً بعد مدة من الزمن من عمر الثورة كيف أن الصحيفة الفرنسية «ليموند» قالت عنهُ إنه أقوى شخصية مقربة الى الزعيم ولهُ الكلمة المسموعة وهناك قصائد القاها الجواهري تأييداً للثورة والجيش من أذاعة الثورة بعد 14تموز جاء فيها

سدد خطاي لكي أقول فأحسنا..... فلقد أتيتُ بما يجل عن الثناء وبعد تشكيل اول حكومة جمهورية في عهد ثورة 14تموز 1958 برئاسة عبدالكريم قاسم والضباط الاحرار، التي منحت الجماهير العراقية جواً ديمقراطياً حراً في وسائل الاعلام منذ تشكيل اول وزارة، شمل الامتياز ثماني صحف سياسية كانت معطلة زمن الحكم الملكي السابقومن بينها جريدة الشاعر محمد مهدي الجواهري «الرأي العام».

أتسمت جريدة الجواهري «الرأي العام» في الحقبة الأولى في مسيرتها بالتأييد المطلق لحكومة الثورة من خلال مقالاتها المؤيدة في شتى المجالات التي نشرها صاحبها الجواهري. وكالعادة خاطب الأخير الجماهير العراقية بمؤازرة الثورة والالتفاف حولها كما فعل في انقلاب بكر صدقي عام 1936 كما ذكرنا، ولكن في هذهِ المرة تبدو الأوضاع مختلفة عن سابقتها، اذ إن الجواهري يبدو أقرب من غيرهِ من قائد الثورة عبد الكريم قاسم وله الكلمة المسموعة والرأي السديد في كثير من الأحيان، وفي البدء طالب بمزيد من اليقظة والحذر في المرحلة الراهنة وهاجم في الوقت نفسه من أسماهم باعداء الثورة من الانتهازيين والرجعيين والوصوليين مؤكداً أن الثورة سائرة في طريقها الطبيعي نحوالتقدم وأنه لن تعيقهُ «الخفافيش التي تطير في الظلام» بحسب قوله مؤكداً أن العراقيين أبدوا ارتياحهم وفرحهم من التغيير الجديد متأملين انتشالهم من وضعهم الى حياة أفضل تخلصهم من أشكال الاستعباد والاستبداد.

رحبت جريدة الرأي العام جريدة الجواهري، بالاصلاح الزراعي وعدّته من أول الانجازات التي صدرت في عهد الثورة في 30 أيلول 1958 اذ رحبت الجريدة بهذا الانجاز واعتبرته بمثابة ضربة قاضية من الحكومة لسلطة الاقطاع خاصة وأن عبد الكريم قاسم قد وضع ثقلهُ لهذا الغرض اذ نصب نفسه رئيساً لللجنة العليا للدعم الاقتصادي، وباشر بتوزيع الأراضي على الفلاحين وكشف الجواهري أيضاً عن أهمية الموضوع لما عاناهُ الفلاح كثيراً في الأوقات السابقة من ظلم وجور لحق به، وحثت الرأي العام المسؤولين على بذل الجهود لتدراك الموقف وحشد الامكانيات والقابليات لتحويلهُ من عنصر عائق الى عنصر فعال ومساعد.

واستغل الجواهري خروج عبد الكريم قاسم من مستشفى دار السلام الذي مكث فيه أكثر من شهر كامل، ليرمي بهجومهِ على منفذي مثل هذهِ العملية متهماً مصر وسوريا بالوقوف وراء تلك المحاولة عاداً نجاة عبد الكريم قاسم بالنصر والفرحة للجمهورية وكرر اتهامه الى جهات خارجية عالمية مثل واشنطن وبريطانيا وتل أبيب، وزاد أن هذهِ العناصر تجد اليوم مجالاً اوسع وامكانيات أكثر وهم يرون في كل نقطة ضعفاً في الجمهورية هي نقطة قوة بالنسبة اليهم حتى وصلت درجة الصلة والثقة والقرابة بين الجواهري وعبد الكريم قاسم أوج عظمتها حتى أن الجواهري القى رسالة مفتوحة الى الشعب العراقي من المستشفى أعدها عبد الكريم قاسم وطلب من الجواهري أن ينشرها يتلوها من خلال جريدته الرأي العام وطلب فيها «أى عبد الكريم قاسم» العمل على رفع شأن الجمهورية وتنفيذ وصاياه في الحفاظ على كيان الجمهورية ودعا جميع الفئات والهيئات والمؤسسات الى ممارسة نشاطاتها وترك المهاترات الصحفية واشار الى انه سيزيد من تعقبه لما ينشرهُ الصحفيون في صحفهم وماتتهاتر به من مهاترات شخصية لايخفى عليه جوهرها وان لبست لباساً عقائدياً أو تدثرت بدثار حزبي أو أريد تطبيعها بالتشكيك أو المراوغة أو بزخرف العناوين.

وبعد خروج رئيس الوزراء من مشفاه طرح الجواهري مطالب اراد بها كما يبدو كسب ود الرأي العام وهو اعادة النظر في القضايا الخاصة بالموقوفين والمحجوزين السياسيين بغية إنهاء التحقيق معهم ومن ثم اطلاق سراح من تثبت براءته وربط ذوي التهم اليسيرة بكفالات مالية حتى يوم محاكمتهم، وكتبت جريدة الرأي العام مقالاً جديداً بعنوان «بشارة ذات وجوه عديدة» زعمت أن الحكومة قد اعترفت بوجود أبرياء في داخل المعتقلات والسجون ومدى تأثير ذلك القرار في نفوس الناس، وفي ضوء كثرة الشكاوى يروى لنا الجواهري انهُ سبق أن كتب بهذا الشأن وقد أوعزت الحكومة فعلاً الى إنشاء هيئة استشارية عليا للنظر في المظالم في قضايا الموقوفين على هامش خروج رئيس الوزراء كما ذكرنا، ففي الكتاب الذي رفعهُ رئيس الادعاء العام الى الحاكم العسكري لتشكيل تلك الهيئة بشروط تتعلق باخلاء السبيل بالكفالة والافراج ودراسة الطلبات الخاصة بهم وغيرها من القضايا التي يقرها الحاكم ليتدارسها من لحق ظلم بهم وحيف نزل بهم أيضاً وتشويه الحقائق والوقائع فيقول في هذا المقال «أن مايتخذ من اجراءات قد تقتضيها ظروف واحداث معينة وما يصدر من تدابير قد تمليها هذهِ الحادثة او تلك لايمكن الزعم بأن كل ما يتخذ من اجراءات على صواب وحقيقة لايرافقها شيءً من الخطأ فكيف اذا كانت أيدي مسيئة مفسدة. وأيد في الوقت نفسه محكمة الشعب التي شكلتها الحكومة برئاسة «العقيد فاضل عباس المهداوي» بأنها أروع ما قامت به ثورة 14 تموز وهي أحدى انجازاتها ليمثل فيها من اجرم بحق الشعب والوطن حسب تعبيرهِ علاوة على مباركة جهود اتحاد الطلبة العام في مؤتمرهم الأول الذي عقد في 16 تشرين الثاني 1959 مستذكراً البواعث الأولى لتأسيس اتحاد الطلبة الذي عُرف فيما سبق بـ «مؤتمر السباع» عام 1948 إبان الوثبة العراقية، والقى قصيدته «ياشباب الغد» مؤيداً استقلاليتهم في اجراء الانتخابات لكونها اول تجربة حظي بها الطلبة دون تدخل اي جهة رسمية أو غير رسمية وخطوة مبنية على أسس ديمقراطية حفاظاً على المنهج الجمهوري على حد قوله.

عن رسالة (محمد مهدي الجواهري ودورهُ السياسي في العراق حتى عام 1997)