من تاريخ النجف في أوائل القرن الماضي..توسع عمراني ومحاولة إيصال الماء للمدينة

من تاريخ النجف في أوائل القرن الماضي..توسع عمراني ومحاولة إيصال الماء للمدينة

د. طارق نافع الحمداني

شهدت النجف نوعا من التوسع العمراني في اواخر القرن التاسع عشر، ولكن هذا التوسع اقل مما هو عليه الحال في كربلاء، باعتبار ان الاخيرة كانت مركز للواء، في حين ان النجف احدى اقضيته. ومع ذلك فان الاهتمام بمدينة النجف وتوسيعها كان موجودا باستمرار ,

بوصفها المركز الديني المهم الاخر في العراق. ففي اثناء جولة مدحت باشا التفتيشية في المدن العراقية زار كربلاء فقرر انشاء محلة جديدة خارج القصبة بسبب ضيق المدينة , ولكثرة عدد السكان والزوار الاجانب , وسميت المحلة الجديدة بالعباسية. وعلى ذلك طالب اهالي النجف بتوسيع قصبة القضاء للأسباب ذاتها.

ويستفاد مما اوردته جريدة الزوراء، ان عمليات بناء فعلية قد بوشر بها في مدينة النجف اذ جاء فيها:

«نظراً الى المعلومات التي بلغتني في النجف الاشرف ان الارض الفسيحة التي يصادفها الداخل الى القصبة قد انشئ وبني فيها كم دار ودكان وخان باسم خان البلدية المحلية. والفضاء المذكور أوسع موضع في البلد والدور والخانات التي بنيت ايضا قد أنشئت بطرز بهي حسن لطيف, فلذا جعلت تروق الناظرين. ويوجد في النجف من المجاورين خلف كثيرا مما عدا أهاليه , فمن ثمة كان المأمورون المحليون يقاسون مضايقة في خصوص تأجير الدور، الا انه بتأسيس هذه الدور سيحصل الرفاه.

والابنية المذكورة جامعة لمحسنات ثلاثة , تحصل بها الفائدة للبلدية كالمعمورية والرفاه والاسكان «.

ولهذه الاسباب جرت عملية الاعمار في قضاء النجف , الا ان هذه العملية قد تعطلت - ويعلل ذلك محبوبة بقوله:

« وقفت الحركة وتعطل السير وتركت العمارة، فان الحكومة التركية العثمانية بعد ان اعلنت بيعها ورغبت الكثير من شرائها اضربت عن البيع وحضرت العمارة فيها بزعم انها من الموقوفات فتركت الدور فعادت خرابا لم تذكر وضاعت اثارها «.

واكد لوريمر هذا الاتجاه حيث قال:

« ومساكن النجف اغلبها من الطوب والملاط والمباني الحديثة من الطراز العصري وتحل محل المباني على الطريقة القديمة. ومجهودات السلطة التنفيذية حتى الوقت الحاضر (اي 1907) قد اعاقتها الاوقاف او قسم الاوقاف الدينية «.

ومع ذلك كله , فان عملية التوسع العمراني في النجف لم تقتصر على داخل اسوار المدينة , وإنما تعدتها الى مناطق خارجها، وهذا ما اشار اليه لوريمر بقوله:

و بها (إي النجف) حوالي عشرين نزلا للمسافرين في احياء مختلفة منها خمسة او ست خانات جيدة البناء بالطوب على الطراز الحديث وتقع خارج المدينة في الناحية الشمالية الشرقية على بعد (25) ياردة من أسوار المدينة.

محاولات إيصال الماء إلى النجف

قاست مدينة النجف انواع المحن بسبب ماء الشرب الذي كان معضلتها رغم الجهود التي بذلت لهذا الغرض طوال العصور الحديثة. وبمقدار ما يتعلق الامر بإيصال الماء إلى النجف في الربع الاخير من القرن التاسع عشر وما عقب , ذلك نشير أولا الى المحاولة التي تمت عام 1288 ﻫ 1872 م وقد اوردت الزوراء الاسباب الموجبة لهذه المحاولة بقولها:

« لا يخفى ان قصبة النجف الاشرف على إلفين الى ثلاثة ألاف دار تحتوي على عشرة الى خمسة عشر الف نفس من الاهالي وفي كل سنة يرد اليها من ايران والهند ومن سائر المحال مقدار ما يتجاوز عن ثلاثين بال أربعين الف نسمة من الزوار وكل هذه الخلايق تشرب من الماء الواقع خارج القصبة , وهذا الماء وان كان في اصله قد تشعب من نهر الفرات , الا ان الاراضي التي يمر عليها لما كانت ملحا اجاجاً فان طعمه يتغير ويتمرمر, فمن هذه الجهة ترى كافة الاهالي وغيرهم يعانون المشقة من ذلك»).

هكذا كانت معاناة مدينة النجف، الا ان جهود الخيرين من سكنة المدينة، قد ادت الى فتح جدول من نهر الفرات فوصل الماء العذب اليها.

على ان اوثق من ارخ لنا حفر هذه الجداول المؤرخ الشيخ عبود الكوفي (1352ﻫ) بوصفه شاهد عيان لذلك اذ يقول:

« هذه القناة معروفة بكري الشيخ سعد, اجتمع خلق كثير على الحفر من جميع الاطراف , فلما عسر عليهم حفرها مكشوفة عزموا على حفر قناة تحت الارض فاخذوا يحفرون ابارا ويثقبون بينها ثقبا عاليا ويبنونه بالكلس والحجر الى ان الملت القناة , وجرى الماء فيها ووضعوا لها بركة حول بحر النجف «.

وكان وصول الماء الى النجف, كما نقله الكوفي عن مؤرخ الكوفة المعروف حسين البراقي قد تم بتاريخ الثالث من رمضان في سنة 1288 ﻫ.

جرت بعد ذلك محاولات اخرى لايصال الماء عبر منخفض النجف الى المدينة كان ابرزها نهر عبد الغني او الحميدية, الذي كان غرضه نقل الماء من الفرات وايصاله الى النجف عام 1305 ﻫ / 1887 م. وسمي هذا النهر الحميدية نسبة الى السلطان عبد الحميد الثاني (1876 - 1908). فغلب على اسم الوالي (عبد الغني) , او نهر السنية كما تسميه العامة.

قل تدفق الماء عبر النهر المذكور بحيث ان شكاية قدمها وجهاء النجف الى والي بغداد بتاريخ 3 رجب 1306 ﻫ / 1888 م ضد وكيل سنية الجعارة سابقا عبد الغني جاء فيها:

« اشرف نهر الحميدية على ان لايبقى له اثر وتندرس هذه الخيرية، اذ ليس لها مباشر ولا وكيل ولا ناظر , وكذا نرجع ولا ماء يطلب ولاعذب يشرب على ماكان عليه من سوء الحال ونشرب الماء الملح بعد العذب الزلال «.

اثمرت هذه الشكاية بحيث اضطرت السلطة العثمانية الى محاولة جديدة لايصال الماء الى النجف عام 1310 ﻫ / 1892 م ويقول الكوفي المعاصر في ذلك:

ومن التجديد النهر المعروف (بنهر الحيدرية), وهو ان اهل النجف اشتكو ضيق الماء فعمد قائم مقام النجف خير الله افندي وجمع العشائر وحفر نهراً من الفرات الى قريب من البركة وسماه (نهر الحيدرية).وجرى الماء فيه بهذا التاريخ واذا اليوم يشربون منه واذا هبت ريح عاصفة وسفت عليه الرمول انقطع الماء عنهم فيلجأون الى ماء الابار او يحفرون في وسطه اباراً فينبع فيه الماء فيشربون حتى يصلحوه.

والاغنياء منهم يحمل اليهم الماء من الجسر (من مواضع الكوفة الحديثة) , الذي هو قرب مسجد الكوفة ولا يستطيع الضعفاء منهم ان يشتروه لشدة غلائه «.

هكذا عانت النجف من مياه الشرب خلال الف وثلاثمائة سنة حتى جاء اليها العلم الحديث فحل تلك المعضلة بايجاد المضخات فغدت المدينة تشرب ماءً فراتاً، بعد فشل كثير من المحاولات لايصاله اليها. وكذا هو الشأن بالنسبة لامور التحديث الاخرى , كالبرق والبريد ووسائل النقل والمواصلات التي جعلت مدينة النجف اسهل ارتباطا مما كان عليه في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.