بين الرصافي والجواهري

بين الرصافي والجواهري

د. سعيد عدنان

حين سُئل الجواهري، يوماً، عن نشأته الأولى، وعمّن أُعجب به من أهل زمانه ؛ قال: شوقي لصياغته، وحلاوة ألفاظه، وانسجام أنغامه ؛ والرُّصافيّ لتمرّده، وجهارته، وتقحّمه الغمرات . وكان يريد أن يكون، وهو في أوّل أمره، مثلهما، وأحسن منهما، وكان ينظر إليهما، في كلّ أحواله، نظرة تجلّة وإكبار. لقد كان الرّصافي،

عند مطالع القرن العشرين، كبيراً في الشعر ؛ يزاول أغراضه القديمة، ويضيف إليها ما استجدّ من شؤون الفكر، ونوازل السياسة ؛ وكلّ ناشئ يرنو إليه، ويُؤخذ به، ويريد أن يقتفي أثره . ولعلّ أطيافاً من شعره، وتمرّده سرت إلى طائفة من ناشئة الشعر يومئذٍ، فتردد صوته، بنحو ما، في قصائدهم. بل إنّ قصيدته:

يا قوم لا تتكلّموا... إنّ الكلام محرّمُ

ناموا ولا تستيقظوا... ما فاز إلّا النوّمُ

وجدتْ منفذها إلى شعر الجواهريّ ؛ بروحها المتهكّمة الناقدة، وبنمط صياغتها ؛ وإنّ قارئ قصيدة الجواهريّ “ تنويمة الجياع «:

نامي جياع الشعب نامي... حرستك ألهةُ الطعامِ

لا يخطئ أطيافاً من تلك في هذه. بل إنّ ما قال الجواهريّ في حوادث الحكّام والمحكومين، وفي التقريع، والاستنهاض ؛ لينبض فيه عرق من شعر الرُّصافيّ ؛ على أنّ الجواهريّ صاحبُ مِيسم في كلّ شعره ؛ تلتقي عنده الروافد فتصطبغ بصبغته، وتأخذ لونه.

أحبَّ الجواهريّ الرُّصافيَّ، ورأى فيه أستاذاً من أساتيذ الشعر الذين تُؤخذ عنهم الصنعة، وينزلون المنزلة الرفيعة، ولم تحدّثه نفسه في ساعة من عمره أن ينتقص منه ليزيد في مجده. وكان الرُّصافي يرى في الجواهريّ حاملَ لواء الشعر من بعده ؛ يُحبّه، وينزله منزلته، ولم تحدّثه نفسه أن يتغافل عنه، أو ينتقص منه. لقد كان ما بينهما قائماً على المحبّة، وحسن التقدير، والإعجاب. حتّى إذا تقلّص ظلّ الرُّصافيّ، وانزوى في داره منقطعاً عن الناس ؛ بقي ما بينه وبين الجواهريّ ثابتاً ؛ يرعى كلٌّ منهما حقّ صاحبه ويشيد بذكره، وينصره على اللأواء. وكان من ذلك ؛ أنّ الجواهريّ حين نشر، في مطلع سنة 1941، قصيدة يبثّ فيها ألمه وشكاته من حوادث ألمّتْ به يومئذٍ ؛ مطلعها:

أعيذُ القوافي زاهياتِ المطالعِ

مزاميرَ عزّافٍ أغاريدَ ساجعِ

وجد في الرُّصافي خير من يسمع، ويُعين ؛ إذ هزّته القصيدة وأخرجته من صمته، ووصلت ما انقطع من شعره ؛ فأنشأ يخاطب الجواهريّ بقصيدة مطلعها:

أقول لربّ الشعر “مهدي الجواهري»

إلى كم تُناغي بالقوافي السواحرِ

فترسلها غُرّاً هواتفَ بالعلا

يُميل إليها سمعَه كلُّ شاعرِ

وتشدو بها والقومُ صمٌّ عن العلا

فلم تلقَ إلّا غيرَ واعٍ وذاكرِ

ويمضي بها مصوِّراً ؛ أن ما تشكّى منه الجواهريّ أمر قديم قد امتدّت إليه أذاته من قبلُ، وشقي به، وكأنّه داء لا دواء له. وشرع يهوّن على الجواهريّ ما به ؛ حتّى أتمّ القصيدة، وبعث بها إليه مع رسالة ؛ جاء فيها: (وبعد فقد جاءني العدد الذي تفضّلتم بإرساله من جريدتكم الغرّاء فقرأت فيه قصيدتكم الفريدة فحرّكت فيّ سواكن الأشجان ودعتني إلى قول شيء من الشعر الذي انقطعت عنه منذ زمان...) فتلقّى الجواهريّ الرسالة والقصيدة محتفياً بهما،مسروراً بما أنشأ الرُّصافي، ونشر القصيدة والرسالة في جريدته، وكتب كلمة يقول فيها: (ويضيق المجال، بقدر ما يصعب على اليراع، عن الإشادة بوقع هذه القصيدة الرُّصافيّة وأثرها في النفس، وبمقدار ما تثيره فينا من مظاهر الاعتزاز والافتخار بتلك النفثة الجيّاشة التي هزّت شاعراً فحلاً عظيماً كالأستاذ الرُّصافي وهو في صومعته الخالدة في الفلّوجة. الرُّصافي الذي ألقى من نفسه الوهّاجة ومن شاعريته الفذّة ومن نبوغه وعبقريّته شعلة وقبساً أنارت لمواكب الشباب العربيّ طريقها إلى المجد والطموح... وهو الرُّصافيّ نفسه الذي يعيش اليوم منطوياً على نفسه في الفلّوجة يعاني ثقل الشيخوخة، ووطأة المرض، وقسوة الدهر والناس...) ولا بدّ للمرء، وهو يقرأ ذلك، من أن يُكبر الشاعرين، ويُعظم شأنهما ؛ فلقد كانا على سموّ نفس، وأريحيّة رفيعة ؛ يعرفُ كلٌّ منهما فضلَ صاحبه، ويُعلنه مزهوّاً به كأنّه فضله !

ويطّرد ما بينهما من المودّة والتجلّة، وكأنّه شيء فوق الحوادث، لا تنال منه غِيَرُ الزمان ! ويظلّ الجواهريّ يذكر الرُّصافيّ ويثني عليه ؛ حتّى إذا استحكمتْ عزلته، واصطلحت الأمراض عليه، وثقلتْ عليه الحياة قال قصيدة يحييه بها، وقدّم لها بكلمة من أنفس الكلم وأشرفه ؛ يقول: (في عزلة - لولا عرائس عبقر التي تحوم حولها - لقلنا إنّها موحشة يقضي صاحب “ العالم شعر” و “ الدستور” و” السجن في بغداد “... ما تبقّى من عمره، وهو يدلف إلى الثمانين موقّرة بأثقال الاحساسات المرهفة، ولواعج الخواطر المتراكمة، وذكريات الأدوار العنيفة ؛ في عزلة كهذه يقضي أيّامه المتبقية الشاعر الذي غنّى الأقطار العربيّة في أعراسها وناح عليها في مآتمها... والذي صدح بحريّة الرأي وقدسيّة العقيدة... فهل أقل من أن “ نؤنسه “ في وحشته هذه بأن نذكره فحسب ؛ ولكن قبل أن يموت؟...) ثمّ تأتي القصيدة محيّيةً:

تمرّستَ “ بالأولى “ فكنتَ المغامرا

وفكّرتَ “ بالأخرى “ فكنتَ المجاهرا

وفضّلتَ عيشاً بين تلك وهذه

... به كنتَ، بل لولاه، ما كنتَ شاعرا

ثمّ يقول:

وإنّي إذ أُهدي إليك تحيّتي

أهزّ بك الجيلَ العقوقَ المعاصرا

أهزّ بك الجيل الذي لا تهزّه

نوابغُه، حتّى تزورَ المقابرا

وهي قصيدةُ موقفٍ نبيلٍ بقدر ماهي قصيدةُ محبّة ؛ تلقّاها الرُّصافي مسروراً بها ؛ فنشط للشعر مرّة أخرى، وطفق ينظم ليردّ التحيّة بأحسن منها، وليصوّر ما يكتنفه من أحوال:

بك الشعر، لا بي، أصبح اليوم زاهرا

وقد كنت قبل اليوم مثلك شاعرا

فأنت الذي ألقت مقاليد أمرها

إليه القوافي شرّدا ونوافرا

كان ذلك في سنة 1944، قبل وفاة الرُّصافي بسنة أو دونها، ثمّ توفي الُّرصافي في السنة التي بعدها ؛ ولم أجد للجواهريّ قصيدة فيه حتّى سنة 1951 ؛ حين قال مرثاته فيه:

لاقيتَ ربّك بالضميرِ

وأنرتَ داجية القبورِ

وأشعتَ في الأبد البهيم طلاقةَ الأبد المنيرِ

وذهبتَ لم تعلق يداك بغير مكرمة وخيرِ

ومدارها على يقظة الشاعر، وجرأة فكره، وجهارة قوله، وضيعته في وطنه. لقد كان بين الشاعرين من تشابه النوازع، وتقارب الأفكار ما جعل المودّة تستقيم بينهما مدّة حياتهما ؛ حتّى إذا توفي الرُّصافي ظلّ الجواهريّ يتذكره كلّما دعت دواعي التذكّر، ويُثني عليه ويعدّه عنوان الشاعر ذي الفكر اليقظ.

ويعاود رثاءه في سنة 1959 إذ يحتفل اتحاد الأدباء به، ويقول قصيدة يجعل منه فيها رمز الفكر، ويبتعث من خلاله أشجان الحياة والموت ؛ يقول:

لغزُ الحياة وحيرةُ الألباب

أن يستحيل الفكرُ محضَ ترابِ

أن يصبحَ القلبُ الذكيّ مفازةً

جرداءَ حتّى من خفوق سرابِ

فيم التحايلُ بالخلود وملهمٌ

لحفيرةٍ ومفكّرٌ لتبابِ

وهو، من بعد، لا يطوي الحديث عنه، ولا يريد أن ينساه ؛ وذلك أمر قلّما يقع بين الشعراء...!