من تاريخ الحركة الوطنية في العراق..كيف جرت إنتخابات سنة 1954 في البصرة؟

من تاريخ الحركة الوطنية في العراق..كيف جرت إنتخابات سنة 1954 في البصرة؟

د نجاة عبد الكريم عبد السادة

بعد استقالة وزارة (فاضل الجمالي) الثانية في : (19 / نيسان / 1954 م)، تألفّتْ وزارة (أرشد العمريّ)، وفيها حُلَّ مجلس النوّاب، وأعلنتْ وزارة الدّاخليّة إجراء الانتخابات العامّة في جميع المناطق العراقيّة في يوم الأربعاء (9 / حزيران / 1954 م) كوّنتْ الأحزاب السّياسيّة في أثناء وزارة (أرشد العمريّ) الجبهة المتّحدة لخوض الانتخابات النيابيّة.

كانتْ الأوضاع السّياسيّة العربيّة مشجِّعة لحركة الأحزاب في العراق، ففي سورية قام بعض الضبّاط بانقلابٍ عسكريّ أجبروا فيه (أديب الشيشكليّ) على الاستقالة، وانبثقتْ في السّعودية جبهة التحرير الوطنيّ، وارتفعتْ الدّعوة إلى تأميم شركة (أرامكو)، وتألّفتْ في الأردن جبهة وطنيّة من الحزب الشيوعيّ وحزب البعث.

دخلتْ الجبهة المتّحدة، والجبهة الشّعبيّة، والاتحاد الدّستوريّ ـ فضلاً عن الأُمّة الاشتراكيّ ـ الانتخابات، وكانتْ البصرة قدْ تعرّضتْ للفيضان في بداية عام (1954 م)، فأصبحتْ مشكلة الفيضان ضمن البيانات الانتخابيّة للمرشّحين، وقدْ شكّلتْ في بعض المناطق الانتخابيّة صعوبةً في وصول النّاخبين إلى صناديق الانتخاب. امتثلتْ فروع الأحزاب في البصرة لأوامر الجبهة الوطنيّة، فكان تعاونهما مشتركاً في عمليّة الانتخابات، فرُشِّح عن الحزب الوطنيّ الدّيمقراطيّ في البصرة : (جعفر البدر، وأدكار سركيس، وعبد الأمير العرّادي) عن المنطقة الثانية، ورشّح حزب الاستقلال : حمد موسى الفارس (المنطقة الثانية)، ومحمّد أمين الرّحمانيّ (المنطقة الأولى)، ونايف السّعدون (المنطقة الرابعة). وكان المرشّحونَ المستقلّونَ عن الجبهة : فيصل السّامر (المنطقة الأولى)، هاشم بركات (المنطقة الثانية). ورشّح (حسن عبد الرّحمن) عن حزب الجبهة الشّعبيّة.

وكانتْ قوائم المرشّحين قدْ تحدّدتْ في المنطقة الأولى بـ : (عبد المجيد الهلاليّ، وعبد الهادي البجّاريّ، وعبد اللّطيف آغا جعفر، وسام الوجيه، وقاسم ناهي، وجميل صدقي، لوإدور جرجي، وحسين الفايز). وعن المنطقة الثانية : (عبد الرّزّاق الحمود، وسلمان الإبراهيميّ، وبرهان الدّين باشا أعيان، ومحمّد السّعدون، وسام آغا جعفر). والمنطقة الثالثة : (فوزي الخضيريّ، وعبد القادر السّيّاب، وسلمان الشوّاف، وعبد الصّمد البجّاريّ، ومحمود طالب النقيب، وحمد الرّفاعيّ). ورشّح عن المنطقة الرابعة : (حميد الحمود، وأحمد النقيب، وعامر حسك، ونوري جعفر).

ومن المعلوم أنّ الجبهة الوطنيّة قدْ تكوّنتْ في آيار (1954 م) لخوض الانتخابات النيابيّة بشكل مشترك تجاه مرشّحي الأحزاب الآخرين، ومرشّحي الحكومة من الاتحاد الدّستوريّ، وحدّدتْ الجبهة موقفها الانتخابيّ من خلال ميثاقٍ عبّر عن الوضع السّياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ، وعن وعي المعارضة، وموقفها ضدّ السّلطة، فكانتْ الانتخابات فرصة لإظهارها.

وقدْ عقدَ مرشّحو الجبهة الوطنيّة في المنطقة الأولى اجتماعاً بيّنوا فيه أهمّيّة الجبهة الوطنيّة وأسباب دخولها الانتخابات النيابيّة، جاء فيه : (إنّ شعبنا يجتاز اليوم مرحلة دقيقة، ويمرّ بأخطر تجربة في تاريخه الحديث، وعلى هذه التّجربة يتوقّف مصيره لفترة ليستْ بالقصيرة... فالعالم الآن يجيش بالقلق، وأمنه وسلامته مهدّدان بالأخطار البادية للعيان، ففي الوقت الذي استطاعتْ فيه الشّعوب النّاهضة أنْ تقلّص ظلّ الاستعمار في كثير من البقاع، حتّى غدا بين منهزم ومنتصر، اتجه دعاته في بقاع أُخرى نحو محاولة تعويض خسائره وتثبيت أقدامه متحفّزاً للاعتداء من جديد، فقدْ يُظنّ أنها تنطلي على الرأي العامّ، وهي الأحلاف العسكريّة، ومواثيق الدّفاع المشترك، وما إلى ذلك من المشاريع، كلُّ ذلك حدا بالعناصر الوطنيّة إلى أنْ تخوضَ معركة انتخابيّة).

كان نشاط الجبهة الوطنيّة قدْ توسّع في إصدار البيانات إلى الناخبينَ، وتنظيم الاجتماعات ورفع الشّعارات، ولصق الإعلانات والبيانات واللالافتات التي تمثّل شعاراتها، وكذلك عقد الاجتماعات في المساجد، أو المقاهي، أو في المحلا لات الشّعبيّة، والقيام بجولات لكسب تأييد الناخبينَ، وكان لدخول ممثّلي العمال إلى الجبهة الوطنيّة دور في توجيه الدّعاية الانتخابيّة للجبهة، وكان العُمال يعبرونَ عن موقفهم ضدّ إدارة شركة نفط البصرة، خاصّة بعد إضراب (1953 م)، فقدْ نشط عُمال ناحية الفاو ـ مثلاً ـ بتنظيم الاجتماعات الانتخابيّة، وكان (هاشم بركات) مرشّحاً عن منطقة (أبو الخصيب) باسم الجبهة، لذلك كانت تنظّم الاجتماعات عند زيارته الفاو.

كثر تدخّل السّلطة في انتخابات عام (1954 م)، وكانتْ فروع الأحزاب ترسل مذكّراتها الاحتجاجيّة حول تدخّل الموظّفينَ الإداريّينَ في انتخاب الهيئات التفتيشيّة، وتوزيع الشُّعب الانتخابيّة ومراكزها، ما سبّب المضايقة لمرشّحي الجبهة الوطنيّة، ومرشّحي حزب الأمُّة الاشتراكيّ، لاسيّما في المنطقة الثالثة (أبو الخصيب)، والرابعة (القرنة)، إذْ كان الصراع بين مرشّحيه ومرشّحي فرع حزب الاتحاد الدُّستوريّ على أشدّه.ّّّّ كانتْ اعتراضات فرع حزب الأُمّة الاشتراكيّ حول انتخاب الهيأة التفتيشيّة، والتدخّل في طريقة انتخابها من خلال حضور مديري المناطق الانتخابيّة إلى قاعة الانتخاب لتزييف إرادة الناخبينَ لصالح مرشّحي الحكومة. واشتكى فرع حزب الأُمّة كذلك من التدخّل في توزيع المراكز الانتخابيّة، ففي المنطقة الأولى يُفاجَأ رئيس الهيأة التفتيشيّة باستدعائه من قبل معاون المتصرّف (عبد القادر الباروديّ) الموظّف الإداريّ، إذْ نصّت الفقرة الثالثة من المادّة العاشرة من قانون انتخاب النوّاب لسنة (1952 م) بخصوص انتخاب الهيئات التفتيشيّة : (على مختاري كلّ محلّة الاشتراك مع اثنين من اختياريّة المحلّة ينتخبها المجلس البلديّ والأعضاء المنتخبونَ من المجلس الإداريّ أنْ يُقدّموا أسماء خمسة عشر شخصاً من ممثّليهم ممّن تتوافر فيهم صفات ش الناخب، إلى هيأة الاقتراع، وتقوم هذه الهيأة بانتخاب خمسة أشخاص من هؤلاء بالاقتراع العلنيّ، ويتجمّع هؤلاء المنتخبونَ لانتخاب الهيأة التفتيشيّة في المنطقة الانتخابيّة بالتصويت السّري، وبأكثريّة الحاضرينَ)، طالباً منه تقسيم الشُّعب الانتخابيّة التي تضمُّ : الفرسي، والعبَّاس، والأرمن، إلى شعبتين، إحداهما : مائة وثلاثة وعشرون ناخباً، وليس هناك ما يستوجب شعبة مستقلّة، واعترض على تعيين مراكز الانتخاب في المنطقة الرابعة (القرنة)، إذْ وضعت مراكز الشُّعب في أماكن نفوذ (حميد الحمود)، و (أحمد النقيب)، وتعيين الشّعب في قرى نائية، وبخاصّة في موسم الفيضان وانقطاع المواصلات، وصعوبة إدراك الناخبين لقضايا الانتخاب..، ووجود الناخبين خارج المنطقة الانتخابيّة في يوم الانتخاب. كذلك تعرّض مرشّحو الجبهة الوطنيّة إلى (التوقيف من قبل الشرطة، بعد انتهاء الانتخاب، في : (6 / حزيران / 1954 م)، وتصدّتْ الشرّطة للنّاس وفرّقتهم بالقوّة، ثمّ عمدتْ إلى توقيف أعضاء الجبهة : (محمّد أمين الرّحمانيّ، وحمد موسى الفارس، وجعفر البدر، وفيصل السّامر، وعبد الأمير العرّاديّ)، ولذلك أصدرتْ الجبهة الوطنيّة بياناً حول الانتخابات بيّنتْ فيه حالات التدخّل والتزوير من قبل الحكومة لصالح مرشَّحيها،، وكانتْ منطقة (أبو الخصيب) قدْ شهدتْ منافسة بين مرشّح الجبهة الوطنيّة (هاشم بركات)، ومرشّحي حزب الاتحاد الدّستوريّ (فوزي الخضيريّ، وأحمد العامريّ)، وفي الفاو قام مدير ناحية الفاو بالتدخّل في الانتخابات من خلال ضرب مؤيّدي (هاشم بركات) من عُمال الفاو، واعتدى عليهم بالضرب، وزجّهم في التوقيف، وأرسل مَن مزّق لافتات الدّعاية الخاصّة بهاشم بركات).

إنّ نشاط الأحزاب قدْ أثار حكومة (أرشد العمريّ)، فأرادتْ ممارسة الضّغط ضدّ تحرّك مرشّحي الجبهة، فأصدرتْ (قراراً بحظر الاجتماعات الانتخابيّة لأسباب تتعلّق بالأمن)، وحاولتْ السّلطة يوم الانتخابات في : (9 / حزيران / 1954 م) جعل (جوّ الانتخابات متوتّرة إلى الحدّ الذي اقتضى إرسال الشرطة إلى جميع المراكز الانتخابيّة).

وأسفرتْ نتيجة الانتخابات عن فوز (سالم آغا جعفر) عن الأمّة الاشتراكيّ، و (سلمان الإبراهيم) عن الجبهة الشّعبيّة، و (برهان الدّين باشا أعيان) عن المنطقة الثانية، وفاز عن المنطقة الثالثة : (أحمد العامر، وفوزي الخضيريّ)، وعن المنطقة الرابعة : (حامد أحمد النقيب، وحميد الحمود). وتأجّل في المنطقة الأولى (البصرة) فرز الأصوات إلى : (14 / حزيران / 1954 م)، لأنّ أحد المرشّحين لم يحرِز النسبة المقرّرة من الأصوات، وخسر بعض المرشّحين تأمينهم لعدم حصولهم على (عشر أصوات)، ولم يشتركوا في الانتخابات.

وفي : (15 / حزيران / 1954 م)، أُعلنتْ نتيجة المنطقة الانتخابيّة الأولى، وذكرتْ جريدة الثغر أنّ متصّرف لواء البصرة (جمال عمر نظمي) كان ملازماً لديوانه بانتظار النتيجة، التي فاز فيها : (عبد اللّطيف آغا جعفر) عن الأمّة الاشتراكيّ، و (جعفر البدر) عن الجبهة الوطنيّة، و (عبد الهادي البجّاريّ) عن الأمّة الاشتراكيّ، و (إدور جرجي) عن المسيحيّين.

وظهر أنّ محاولة السّلطة التدخّلَ في الانتخابات قدْ قلّصتْ فوز مرشّحي الجبهة الوطنيّة، إذْ كان مجموع المقاعد الانتخابيّة التي حصلتْ عليها الجبهة الوطنيّة في عموم العراق (10) مقاعدٍ، وفاز حزب الاتحاد الدّستوريّ بـ (51) مقعداً، وحزب الأمّة الاشتراكيّ بـ (21) مقعداً، والجبهة الشعبيّة بمقعدٍ واحدٍ. وتوزّعتْ مقاعد نوّاب البصرة على أربعة مقاعد : الاتحاد الدّستوريّ، وهم : (حميد الحمود، وأحمد حامد النقيب، وأحمد العامر، وفوزي الخضيريّ). ومن حزب الأمّة الاشتراكيّ : (عبد اللّطيف آغا جعفر، وإدور جرجي، وعبد الهادي البجّاريّ). ومن الجبهة الوطنيّة : (جعفر البدر)، مرّشح حزب الوطنيّ الدّيمقراطيّ.

وبعد استكمال الانتخابات في عموم العراق، اجتمع المجلس في : (26 / تموّز / 1954 م)، ولكنّه لم يستمرّ في دورته الرابعة عشرة، لأنّ (نوري السّعيد) اشترط بعد تأليف وزارته شل في : (3 / 8 / 1954 م) حلّ مجلس النوّاب، وانتخاب مجلسٍ جديدٍ، تمهيداً لمحاولته تمرير مروع الحلف (الباكستانيّ ـ العراقيّ) في مجلسٍ جديدٍ لا توجد فيه معارضة واضحة، على الرّغم من فوز مرشّحي الجبهة الوطنيّة، لأنّ عدم استمرار المجلس لفترة معينة بعد انتخابات تمّوز (1954 م) أدّى إلى عدم فسح المجال لصوت المعارضة داخل المجلس.

عن رسالة (الاوضاع السياسية في البصرة بعد الحرب العالمية الثانية)