من مذكرات هشام المدفعي..عملي في أمانة العاصمة لأول مرة سنة 1953

من مذكرات هشام المدفعي..عملي في أمانة العاصمة لأول مرة سنة 1953

هشام المدفعي

بعد اربع سنوات من الحياة الدراسية الجامعية الجميلة والمفعمة بالذكريات والتحصيل والمثابرة، كان يوم التخرج في كلية الهندسة من اهم محطات حياتي وكانت دورتنا هي الدورة الخامسة لكلية الهندسة في سنة 1950.

وفي حفل التخرج في (20) حزيران 1950 للدورة الخامسة لكلية الهندسة في بغداد الذي اقيم على القسم الصيفي في الحدائق الغناء من قاعة الملك فيصل الثاني في الباب المعظم اأنيطت بي مهمة القاء كلمة الخريجين بتكليف من عميد الكلية الانجليزي (رتجي Ritchi). وقد حضر هذا الحفل وزير المعارف وشخصيات علمية وسياسية واجتماعية رفيعة المستوى، اضافة الى اهالي الطلبة المتخرجين، وكان من ضمن الخريجين ستة طلاب من الاردن وواحد من سوريا وآخر من زنجبار، وكان عدد الخريجين اربعين خريجا من الشعبتين.

وها قد بدأت مرحلة جديدة من حياتي، مرحلة الحياة العملية والبحث عن عمل مناسب وتكوين شخصية مهنية مستقلة. ولما كان هذا الامر الحاسم يستدعي التفكير والتخطيط، وملاءمة هذا مع طموحاتي يومئذ فقد قررت ان اكون مهندسا جيداً في السنوات العشر الاولى، ثم الحصول على منصب هندسي مرموق في السنين العشر الثانية، ثم ابدأ بالجانب المادي المالي الذي يساعدني على تحقيق ما رسمته في مخيلتي. وقد عملت ما وسعي وفقا للظروف والمتغيرات للسير نحو المستقبل.

كانت آثار الحرب العالمية الثانية لم تزل بادية على العراق والعالم بأسره، وفي هذه الظروف بدأت رحلة البحث عن العمل. ذهبت اولا الى الدائرة الهندسية في مديرية التخطيط في البلديات العامة وكان مديرها يومذاك د. محمد مكية، وقد ابلغني بعدم حاجتها الى مهندسين. فذهبت الى وزارة المعارف، وكان فيها قسم للابنية المدرسية، يرأسه المهندس المعماري (جعفر علاوي)، وقدمت طلبي للتعيين، فقوبلت بالرفض وعدم وجود عمل. كما اتصلت بوزارة الشؤون الاجتماعية، وكانت فيها دائرة هندسية يديرها المهندس المعماري (مدحت علي مظلوم)، وقوبل طلبي بالاعتذار ايضا.وفي الوقت نفسه كان عدد من زملائي قد تقدموا للتعيين في دوائر الري، ولم ارغب في العمل بمشاريع الري، اذ كان طموحي هو العمل في الابنية أي حقل البناء من قطاع التشييد، فلم اتقدم معهم ولم التفت لذلك.

أمانة العاصمة للمرة الأولى – معاون مهندس في شعبة طرق الكرخ

كانت امانة العاصمة في حاجة دائمة للمهندسين لتنوع اعمالها الهندسية، وفي عام 1953 كان السيد مظفر احمد امينا للعاصمة، وهو من كبار موظفي الدولة دراية وادارة، وصلته بوالدي رحمه الله كانت طيبة. فقررت والدتي ان تكلمه لتعييني في الامانة، فوافق على ذلك وقرران تكون دائرة الطرق او الشعبة الثانية مقرا لعملي، ونسبت الى شعبة طرق الكرخ.

ولم تكن اعمال الطرق الرئيسة يومذاك في امانة العاصمة تتعدى تبليط شارع رئيس تقوم به شركة لبنانية (CAT)، وكانت الاعمال تتضمن ايضا مد انابيب شبكة مياه الامطار في الطرق الرئيسة لتصب في نهر دجلة. واما الطرق الفرعية فتوضع في وسطها سواقي وسطية من القطع الكونكريتية التي تصف الواحدة تلو الاخرى، لتصب مياهها في الشوارع الرئيسة. اما الطرق الضيقة داخل المحلات والاحياء السكنية، فكانت تؤسس طرقها بعد تحديد المناسيب والارتفاعات النهائية للطرق وتنظيفها من الاتربة الزائدة. توضع طبقات من التراب وحدلها جيداً لحين الوصول الى الارتفاعات المناسبة، ثم توضع طبقة من الطابوق المرصوف بارتفاع 11 سم وتملأ الفراغات بين الطابوق بكسر الطابوق ثم تحدل لتكوين طبقة صلبة بعد وضع السواقي الوسطية، اما الطبقة النهائية فتكسى بطبقتين من القير المستخرج من مدينة هيت حيث يسخن الى درجة السيولة، ويقوم العمال بنقله يدويا بواسطة حاويات خشبية كبيرة ترش بالرمل لمنع التصاق القير بالحاوية ومن ثم يقوم الاسطة بفرش القير بطبقة سمكها نحو 2 سم عن طريق حادلة يدوية خشبية وبعد ذلك وضع طبقة اخرى لاعطاء الطريق شكله النهائي. كانت هذه الطريقة متبعة في جميع انحاء العراق عند تبليط الشوارع

وفي الشوارع الرئيسة التي تمر عليها مركبات ثقيلة، فكانت طبقة الطابوق توضع بسمك 24 سم أي على ارتفاع الطابوقة عموديا. ولم تكن انذاك طرق الاكساء بالكونكريت الاسفلتي معروفة بالعراق تقنيا او ميكانيكيا، واعتقد ان اقتصاديات العراق بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن مواتية لادخال تلك التقنيات لحين دخولها عن طريق الشركات الاجنبية التي باشرت العمل مع وزارة الاعمار.

وفي عهد وزارة نوري السعيد لسنة 1953 وبتنسيق بين رئيس الوزراء وامين العاصمة السيد عبد الله القصاب الذي حل محل السيد مظفر احمد، خصصت مبالغ كافية لتشغيل العمال العاطلين عن طريق تنفيذ منهج تبليط الشوارع والأزقة الداخلية لجميع مناطق بغداد على ان يكون العمال العاملون في تلك المحلات من ابنائها، وذلك بالتنسيق مع مختاري المحلات البغدادية. واتذكر وانا في الامانة يوم دعانا رئيس الهيئة الفنية السيد ادور رسام، نحن مهندسي الامانة جميعا، وبلغنا بقرار الامين بتبليط شوارع وازقة بغداد وتشغيل سكان بغداد العاطلين عن العمل باي عمل مناسب في هذا المشروع، بغض النظر عن سني العمر، فالهدف واحد: التبليط والتشغيل. وقد اختارني ادور رسام من بين جميع المهندسين القدامى والجدد في امانة العاصمة لاكون مسؤولاً عن المشروع في جانب الكرخ من محلة الجعيفر الى الكريمات. استمر المشروع لاشهر وكانت نتائجه جيدة هندسيا واجتماعيا، فقد شعر المواطنون ان الدولة اخذت تهتم بامرهم بعد وصول عوائد النفط وفق الاتفاقيات الجديدة مع الشركات النفطية العاملة في العراق.

لم يكن العمل في طرق امانة العاصمة رغم جديته واهميته ليقنعني، وانا في فورة الاندفاع للعمل، فقد كانت ساعات العمل اليومي سبع ساعات فقط، لقد شعرت بطول اوقات الفراغ بلا عمل، ولم يكن ببغداد انذاك من الاعمال الهندسية مما يمكن ان اعمل بها بعد ساعات العمل الحكومية.. لذا قررت ان افاتح رئيس الهيئة الفنية لاطلب تكليفي بعمل رئيس يمكن ان يشغل وقتي اكثر وافضل، يمكن الاستفادة منه ماديا وهندسيا. واتصلت بشقيق رئيس الهيئة الفنية للتوسط لتحقيق رغبتي في العمل بمشاريع اكبر، ولم تكن تلك الاعمال يومذاك سوى مشاريع الطرق الرئيسة وتنفذها شركات اجنبية.

زرت رئيس الهيئة الفنية في داره في منطقة العلوية، وعرضت عليه رغبتي في تطوير قدراتي من خلال العمل في مشاريع اكبر،وطلبت توجيهه لي بصفته المسؤول الاول عن مشاريع امانة العاصمة. الا ان الرجل اعترض على حديثي وقال لي ان لكل عمل ثمن وله متطلباته، غير ان شعوري وبغرابه الطلب بأن ما اقدم عليه لايلبي طموحي بتطوير مهاراتي كمهندس في امانة العاصمة انذاك. ومن هنا قررت البحث عن فرصة عمل اخرى تحقق رغبتي في التركيز على اعمال تصاميم البناء، وبلا تردد راجعت شركة نفط العراق، وهي اكبر شركات النفط العاملة في العراق، ولها مشاريع هندسية كبيرة في مناطق مختلفة من العراق، والحقيقة اني اعرف الشيء الكثير عن اهداف هذه الشركة من قراءاتي في مرحلة الدراسة الاعدادية وما بعدها، وكان كتاب (على طريق الهند) لمؤلفه الاستاذ عبد الفتاح ابراهيم من الكتب التي اهتممت بامرها، اذ كانت الاحداث السياسية والاقتصادية التي لها صلة بالاحتكارات النفطية الاجنبية تهزني من الاعماق.

علمت من ادارة شركة نفط العراق ان هناك مجالا للعمل في شركة نفط البصرة وهي شقيقة شركة نفط العراق. فقدمت طلبي، وبعد عدة مقابلات وامتحانات، وافقت الشركة على تعييني بصفة مهندس متعاقد (STAFF). فاسرعت وقدمت استقالتي الى رئيس الهيئة الفنية في امانة العاصمة السيد بهنام زبوني، الا انه لم يوافق عليها ووعدني بان ينيط بي اعمالاً اخرى واكبر، الا اني كنت مصرا على الالتحاق بشركة النفط، بعدما علمت بما يحققه العمل الجديد من امتيازات وصلاحيات ومخصصات. ولم انتظر البت في امر الاستقالة بشكل نهائي، فحزمت امتعتي وغادرت بغداد الى البصرة.

من كتاب : نحو عراق جديد سبعون عاماً من البناء والإعمار