قراءة في ثنائية (ثأر الله) لعبد الرحمن الشرقاوي

قراءة في ثنائية (ثأر الله) لعبد الرحمن الشرقاوي

د. حسين علي محمد

1ــ البطل والقضية:

تُعالج ثنائية «ثأر الله”لعبد الرحمن الشرقاوي”حرية الكلمة مستخلصة من واقعة رفض الحسين إعطاء البيعة ليزيد بن معاوية سنة 60هـ، واستشهاده في كربلاء، وهو متجه إلى الكوفة تلبية لمكاتبات وصلت إليه من أهلها تدعوه لإنقاذهم من يزيد ومن عماله، وتؤيِّد مبايعتهم له».

وبطل هذه الثنائية («الحسين ثائراً”و»الحسين شهيداً») هو سيد الشهداء الحسين بن علي، وتبدأ المسرحية حين مات معاوية t”بعد أن أخذ لابنه يزيد البيعة من أقطاب المسلمين، أخذها بالسيف أو بالذهب أو بهما معاً، ووجد الحسين أنه أمام اختيارين لا ثالث لهما، إما أن يشتري حياته وحياة أهله، ويخضع لما يُطلب إليه من مبايعة يزيد، وإما أن يُعرض عن هذا كله، ويترك للسيف أن يحكم بينه وبين هذا الشر المستطير».

ويختار الحسين أن يُقاوم هذا الشر المستطير، وينطلق إلى مصيره الذي ينتظره، وهو الاستشهاد بعد صراع طويل مع النفس:

الحسين: بان الرشدُ من الغيّْ

وهداني جدِّي للرّأْيْ

غفوْتُ قليلاً فحلُمْتْ

حلمتُ بجدِّي يأمرُني ألاّ أقعدَ عنْ باطِلْ

ورأيْتُ أبي يبتسمُ إليَّ ويدْعوني

وأُمِّي تنْتظرُ قدومي

وحلمْتُ بعمِّ أبي حمزةْ

زينب:(تُقاطعه، وهي تتماسكُ لكيْلا تبكي):

لا توجعْ قلبي نحنُ فداؤكْ

الحسين: (مستمرا) يُناديني بأبي الشُّهداءْ

وبشَّرني جدِّي بمكانٍ في الجنّةِ قُربَ مكانِه

إذا أنا ما استشْهدْتُ دفاعاً عمّا جاءَ لتِبْيانِهْ

ويرى أن الظلم استشرى في الدنيا، فانتشر الخوف والطغيان، ومن ثم وجب على الرجال أصحاب المواقف أن يقفوا موقفهم المبدئي مع الحق:

إنني أخرجُ كيْ أُنقذَ أعناقِ الرجالْ

إنني أخرجُ كيْ أصرخَ في أهلِ الحقيقةْ

أنقذوا العالمَ، إن العالمَ المجنونَ قدْ ضَلَّ طريقَهْ

أنقذوا الدُّنيا من الفوضى وطُغيانِ المخاوفْ

أنقذوا الأمة منْ هذا الجحيمْ

إن الحسين t منذ البداية”يملك النقاء في الروح والقول والعمل الذي لا يستطيع معه صاحبه أن يُهادن الشر أبداً، كل ما يستطيعه هو أن يدخل مع الشر في معركة حامية، يعرف سلفاً أنه فيها هو الخاسر، ولكنه يعرف أيضاً أن مثل هذه المعركة غير المتكافئة هي السبيل الوحيد لإنقاذ الإنسان وشرف الإنسان».

ويبدأ الحسين t في استنهاض همم الناس الذين ركنوا إلى حياة الدعة والترف، مستثيراً نخوتهم لنصرة الحق، بمثل هذا الأسلوب المؤثر حينما دعاه ابن جعفر (ابن عمه، وزوج شقيقته زينب إلى المهادنة):

الحسين: آهِ ما أهونَ دُنياكمْ على طفْلِ الحقيقهْ

هكذا أصبحَ الحقُّ طريداً يتوارى في الخِرَقْ

وغدا الحقُّ شريدا

يدّريه البغْيُ منْ أُفْقٍ لأُفْقْ

والدّنايا تزْدهي بالطّيْلسانْ

فإذا الباطلُ فوقَ العرشِ وحْدَهْ

في يديْهِ الصَّوْلجانْ

مُلْكُهُ الزَّيْفُ، وأسْراهُ الدُّموعْ

تنْحني منْ دونِهِ كلُّ الفضائلْ

يتلمّسْنَ لديْهِ البركاتْ!

عندما تقتحمُ الحدْأةُ أسرابَ الحمامْ

عندما يغْشى ركامُ الرَّمْلِ أكنافَ الربيعْ

عندما تُصْبحُ دنياكمْ نفاقاً ورياءً ونعيماً من جنونْ

عندما يُصْبحُ ذلُّ الخوْفِ سُلطانَ القلوبْ

فإذا الإنسانُ يسْتخْفي بدُنياهُ بعيداً

ويُباهي بالذنوبْ

عندما يُصبحُ طولُ العمْرِ ناراً وعذاباً

للرجالِ الصّالحينْ

عند هذا

ما انْتفاعي بالبقاءْ؟

لقد خذله المسلمون الأوائل ـ الذين يمثلهم أسد ـ وأبناء المسلمين الأوائل (مثل عمر بن سعد ين أبي وقّاص) تحت دعاوى واهية، مثل قولهم: إنهم يتركون الأمر لأهله، أو: إنهم يدعون لحقن دماء المسلمين.

ويتخاذل عنه منْ دعوْه لبيعته ونصره، مما يجعله”حزيناً ثم منفجراً”يبكي عصره، ورجالَ عصرِه في مثل هذا الشجن المؤلم المؤثِّر:

الحسين: ما عادَ في هذا الزمانِ سوى رجالٍ كالمسوخِ الشائهاتْ

يمشونَ في حُللِ النعيمِ وتحتها نتَنُ القبورْ

يتشامخونَ على العبادِ كأنّهمْ ملَكوا العِبادْ

وإذا همو لاقوا الأميرَ تضاءلوا مثْلَ العبيدْ

صاروا على أمْرِ البلادِ فأكْثروا فيها الفسَادْ

أعْلامُهُمْ رُفِعتْ على قِمَمِ الحياةْ

خِرَقٌ مُرقّعةٌ تٌرفْرفُ بالقذارةِ في السّماءِ الصّافِيَهْ

راياتُهُمْ مِزَقُ المحيضِ البالِيَهْ

يا أيُّها العصْرُ الزَّريُّ لأنتَ غاشيةُ العصورْ

قدْ آلُ أمْرُ المتقينَ إلى سلاطينِ الفجورْ

قلْ أيَّ أنواعِ الرجالِ جعلْتَهمْ في الواجِهاتْ؟

قلْ أيَّ أعْلامٍ رفَعْتَ على البروجِ الشّاهِقاتْ؟

أيَّ الذئابِ منحتَهُ السُّلطانَ والمُلْكَ العريضْ

يا أيُّها العصرُ البغيضْ؟

يا أيها العصْرُ الزريُّ وأنتَ غاشيةُ العصورْ

العصْرُ ينفثُ حوْلنا الغثيانَ مما أحدثتْهُ به أُميِّهْ

عصْرٌ يُثيرُ تقزُّزَ النفسِ الأبيةْ

ويستنفر همم الناس الشرفاء ليُقاوموا ـ معه ـ الفساد الذي استشرى:

يا أيها الشرفاءُ لا تهِنوا إذا طغت الذِّئابْ..

سيروا بنا كيْ نُنقذ الدُّنْيا من الفوْضى

ومنْ هذا الخرابْ

سيروا نُعدْ للعصْرِ رونقَهُ القديمْ

وننصر الحقَّ الهضيمْ

لا ترهبوا طرقَ الهدايةِ إنْ خلتْ منْ عابريها

لا تأمنوا طرقَ الفسادِ وإنْ تزاحمَ سالكوها..

سيروا على اسْمِ اللهِ لا تهِنوا فنحْنُ بنو أبيها

سيروا بنا نستخلص الإنسانَ منْ هذا العذابْ

ويمضي الحسين إلى قدره رغم انفضاض الأصحاب أو قتلهم، ويُثخن جسده بالجراح، ويسقط قتيلاً، ويُحزُّ رأسه، ويُسار به إلى يزيد، ومازالت بقايا صوت الحسين ـ في النص المسرحي ـ تتردّد في الأفق، وهو يرثي أصحابه:

الحسين: أينَ أنتمْ أيُّها الفتيانُ.. فتيانُ الطريقْ

لمْ يعُدْ منهمْ سوى لفحةِ حزنٍ كالحريقْ

لمْ يعُدْ إلاّ الدَّمُ المسكوبُ فوقَ الصَّحَراءْ

ورؤوسٌ عُمِّرَتْ بالعلمِ والحكمةِ والتقوى

وأحلامِ العدالهْ..

تتهاوى في العراءْ

(منهكاً، خافتا جدا) كلُّهمْ قدْ غالهمْ غولُ الرّدى

وأنا وحدي هنا (يتهاوى باكيا)

ليْتَ هذا الدّمَ إذْ سالَ على هذا الدُّجى

ليتَهُ يصنعُ للعالمِ فجْرَهْ!

(منتفضاً)

ما لهذا الدّمِ لا يصنعُ للعالمِ فجرا

ليته يغدو على الأعْداءِ طوفاناً وهوْلاً وضراما

ليْتَهُ يصنعُ للدُّنيا السلاما

لمْ يعدْ منْ بعدكمْ غيْري على هذا السبيلْ

لمْ يعدْ منْ بعدكمْ إلاّ الرحيلْ

وأظن أن الأبيات السابقة تنتمي إلى عبد الرحمن الشرقاوي الثائر أكثر مما تنتمي إلى الحسين t فقد رسمه شخصية ثورية أقرب إلى شخصية الثوري المتمرد”جيفارا”الذي صنع الثوريون من موته أسطورة، ولعل موته في نهاية الستينيات هو الذي جعل الشرقاوي يكتب هذه المسرحية!

2ــ المقاومة عبء فادح، لكنها قدره:

ربما يُقال”إن شخصية الحسين وقدره المحتوم لا يصنعان دراما جيدة، لأن الصراع الحق هنا منتفٍ، الحسين هو منْ نعرف نقاءً، وعلوَّ همة، وسموَّ مبدأ، فليس ثمَّ مجالٌ على الإطلاق لأن يقوم في روحه أي انقسام أو تناقض، هو منذ البداية إلى النهاية على موقف واحد لا يتغيّر: الرفض التام والواثق والواعي لما تعرضه قوى الشر، وهذه القوى ذاتها تقف الموقف الثابت الراسخ ذاته، في جانب باطلها. والمعركة المادية التي تقوم بين الطرفين قليلة الأحداث، معروفة النتائج».

إن الحسين t قد دُفِع دفعاً لهذا القدر وذلك المصير، وكم كان يتمنّى لو تجنّب الخروج من المدينة، لو أن الخير يُقرَّر له النصر، أو لو أن أنصار الشر يرجعون عن غيِّهم:

الحسين: قسماً باللهِ ما أُنشِد فتنهْ

أنا لا أنشدُ ملكاً بيْنكمْ

فأنا أزْهدُ أهْلِ الأرضِ في هذا

ـ وإنْ كان لي الحقُّ عليْكمْ ـ

إنما أنشدُ أن أُصلحَ في أمة جدِّي ما اسْتطعْتْ

إنما أُنشدُ جوْرَ الحاكمِ الظالمِ عنْكمْ

أنا لا أبغي سوى الإصلاحِ فيما بينكمْ

وهو يعرف أن الأنبياء والمصلحين يتعرّضون لفتن، ليس لهم يد في صنعها، وكم كان الحسين t يتمنى لو جُنِّب هذه الفتنة، ولكن كيف؟ يقول مخاطباً رسول الله r قبل مغادرته المدينة:

الحسين: بأبي أنتَ وأُمي يا رسولَ اللهِ إذْ أبعُدُ عنْكْ

وأنا قُرّةُ عيْنِكْ

إنني أرْحلُ عنْ أزْكى بلادِ اللهِ عنْدي

خارجاً بالرَّغمِ منِّي

غيْرَ أنِّي

أنا لا أعرفُ ما أصنعُ في أمْريَ هذا، فأَعِنِّي

أنا إنْ بايعْتُ للفاجِرِ كيْ تسْلَمَ رأْسي

أوْ لكيْ يسْلَمَ رأسي.. لكَفَرْتْ

ولخالفْتُكَ فيما جئتَ للناسِ بهِ منْ عند ربِّكْ

وإذا لمْ أُعْطِهِ البيْعةَ عن كُرْهٍ قُتِلْتْ»

إنه كان يتمنّى لو جُنِّب هذا الاختيار القاسي، و”مثل ذلك التمني بأن يجدّ في الأمر ما يدعو إلى تفادي المأساة نجده دائماً عند أبطال المآسي العظام. يقول عطيل وهو مُقدم على قتل ديدمونة لمحرضه”إياجو»:

«ولكن يا للأسى في ذلك الأمر يا إياجو يا للأسى!»

ويقول”هاملت وهو يتململ من فداحة العبء الذي أُلقي عليه:

يالها من خصومة لعينة، ليتني ما ولدت كيْ أنصر العدلَ فيها».

هذا الشعور بفداحة العبء وعدم ضرورته، وتمني أن يكون في الإمكان التخفف منه لمصلحة الخير والإنسان، وليس لمصلحة الفرد، هو جانب واضح في الحسين من خلال ثنائية”الحسين ثائراً”و”الحسين شهيداً».

3ــ فكرة التضحية بين الغناء والدراما:

نحس في أحيان كثيرة أثناء قراءة هذا العمل”طغيان الروح الغنائية على روح الدراما، فكثير من المقاطع أطول مما ينبغي … والشرقاوي طوال العملين (“الحسين ثائراً”و”الحسين شهيداً”) لا ينسى أبداً أنه شاعر، وكان من الأوفق أن يذكر دائماً أنه كاتب مسرحي يكتب أعماله بالشعر».

وتتّضح الغنائية في كثير من مقاطع هذا العمل، وبخاصة تلك التي يتحدّث فيها الحسين عن أشواق روحه، وحنينه، وعذاباته. ومنها تلك القطعة التي يُسجِّل فيها رحيله عن المدينة المنورة:

أنا ذا أرحلُ مقهوراً ـ ولا حيلةَ ـ عنْ أرضِ المدينةْ

ملعبي عندَ الطفولةْ

ومَراحي في الشبابْ

ومنارِ العلْمِ والدِّينِ ومهدَ الغزواتْ

حرمِ اللهِ وحِصْنِ الذكرياتْ

ومثاباتِ الخيالْ

آهِ يا نبْعَ الأمانيِّ الشريفةْ.

كما أننا نرى الشخصيات تتحدّث أكثر مما تتحرّك وتعمل، ويطول الحديث طولاً فاحشاً أحياناً، ويكون غير مبرَّر فنيا، كهذا الحديث الذي يستغرق خمس صفحات على لسان الحسين في بداية المنظر الرابع من مسرحية”الحسين شهيداً”والذي يبدأ بقوله:

الحسين: أنا وحدي هاهنا

أنا وحدي وظلامَ الليلِ والهوْلَ

وفي الأعماقِ مازال شعاعٌ منْ رجاءْ

لمْ يعُدْ غيرُ الدم المسكوبِ فوقَ الصَّحَراءْ

لمْ يعُدْ غيرُ الأفاعي

وفحيحِ الجُرحِ والويْلِ الثقيلِ المُدلهمّْ

لمْ يعد إلا رياحُ الليلِ تعوي في العراءْ

وسعيرُ الظمأِ المجنونِ في التيهِ الأصمّْ

أين أنتمْ يا أحبائي جميعاً أينَ أنتمْ؟

ومثل ذلك الرثاء الذي يُساق على لسان زينب شقيقة الحسين بعد استشهاده في أربع صفحات، والذي مطلعه:

زينب: يا قاتلي بطلِ الحقيقةِ والتُّقى

يا خانقي أملَ الخلاصِ المُرْتجى

يا ويْلكم.. أوطأْتمو أفراسكمْ جسَدَ الشهيدْ

ابْنِ الشهيدِ المُرْتَضى

أنتم دهسْتمْ ويحكمْ جسَدَ الرسولْ

وسفكْتُمُ دمَهُ الطَّهورْ

دَمَ الرسولِ المصطفى

لكن هذا الشعر في سياقه يخدم فكرة التضحية وتقديم النفس قرباناً لما تؤمن به وتعتقده، حتى نرى في النهاية أن”الحسين”ليس نموذجاً رائعاً للبطولة أو مثالاً باهراً يحتذي به أصحاب المبادئ فحسب، بل هو قبل ذلك كله التضحية ذاتها التي دفعت حياتها ثمناً لما تؤمن به، والتي تطالب الآخرين المتعايشين معها، المتأملين لنهايتها المعجبين بها أن يأخذوا بثأرها، مقاومة للطغاة، وكفاحاً ضد الاستغلال والقيود».

يقول الحسين قبل أن يُسدل ستار النهاية في”الحسين شهيداً»:

الحسين: فلتذكروني لا بسفْكِكمُ دماءَ الآخرينْ

بلْ فاذْكروني بانتشالِ الحقِّ منْ ظُفْرِ الضلال

بلْ فاذكروني بالنضالِ على الطريقْ

لكيْ يسودَ العدلُ فيما بيْنكمْ

فلتذكروني بالنضالْ

فلتذكروني عندما تغدو الحقيقةُ وحدَها

حيْرى حزينهْ

فإذا بأسوارِ المدينةِ لا تصونُ حمى المدينهْ

لكنها تحمي الأميرَ وأهله والتَّابعينَهْ

فلتذكروني عندما تجدُ الفضائلُ نفسَها

أضحتْ غريبهْ

وإذا الرذائلُ أصبحتْ هيَ وحدها الفُضلى الحبيبهْ

وإذا حُكمتمْ منْ قصورِ الغانياتِ

ومنْ مقاصيرِ الجواري

وإذا غدا أمراؤكمْ كالمحظياتْ

وإذا تحكْمتِ السّراري..

فلتذكروني..

فلتذكروني حين تختلطُ الشجاعةُ بالحماقهْ..

وإذا المنافعُ والمكاسبُ صرنَ ميزانَ الصَّداقهْ

وإذا غدا النُّبلُ الأبيُّ هو البلاههْ

وبلاغةُ الفصحاء تقهرُها الفهاههْ

والحقُّ في الأسمالِ مشلولَ الخطى حذرَ السيوفْ!

فلتذكروني حين يختلط المزيفُ بالشريفْ

ولتذكروني حين تشتبهُ الحقيقةُ بالخيالْ

وإذا غدا جبنُ الخنوعِ علامةَ الرجلِ الحصيفْ

وإذا غدا البهتانُ والتزييفُ والكذبُ المُجلجلُ

هنَّ آياتِ النجاح

فلتذكروني في الدموعْ

فلتذكروني حين يستقوي الوضيعْ

فلتذكروني حين تغشى الدينَ صيحاتُ البطونْ

وإذا تحكّم فاسقوكمْ في مصير المؤمنينْ

وإذا اختفى صدْحُ البلابلِ في حياتكمُ ليرتفعَ النباحْ

وإذا طغى قرْعُ الكئوسِ على النواحْ

وتلجلجَ الحقُّ الصُّراحْ

فلتذكروني

وهذا النداء دعوة مُباشرة من المؤلف للجمهور، لكيْ يأخذ العبرة من جهاد الحسين e ليُقاوم الطغيان حينما يستشري الفساد في الأرض، وتختلط الصور فلا تستطيع أن ترى صور الزيف من صور الشرف والكرامة. فحينما يرتفع صوتُ النفاق والنباح، وحينما تنتشر صور الزيف والبهتان في كل أفق لتسد علينا منافذ الطريق، وحينما ينتصر أرباب الباطل على أصحاب الحق. حينما نُبصر هذا.. على كل منا أن يتحسس رأسه، ويسأل عقله مع أي فريق يقف.

لقد كتب عبد الرحمن الشرقاوي هذه المسرحية عقب هزيمة 1967م، وبطلها تتسع دلالته من الشخصية التاريخية الحقيقية التي نعرفها، إلى شخصية البطل المقاوِم، الذي يقول ما يعتقده، ويُكافح عمّا يراه حقا، حتى لو تبيّن له أن الموت هو ما ينتظره في النهاية.

وستظل تذكرنا هذه المسرحية بالحسين «نموذج البطل العظيم، ورمز التضحية الذي دفع حياته عن رضى لمُقاومة الطغيان، ورفع راية الحق»، وسيظل الأفق يردد صوت الحسين:

فإذا سكتم بعد ذاك على الخديعةِ وارتضى الإنسانُ ذلَّهْ

فأنا سأُذبحُ منْ جديدْ

وأظلُّ أُقتلُ منْ جديدْ

وأظلُّ أُقتلُ ألف قتلةْ

.. سأظلُّ أُقتلُ كلما سكتَ الغيورُ

وكلما أغْفى الصبورْ

سأظلُّ أُقتلُ كلما رغِمتْ أنوفٌ في المذلَّةْ

ولعل هذه المسرحية كانت صرخة جماعية لمحاولة تحدِّي عوامل اليأس والهزيمة، بعد أن قال فلاسفة الهزيمة إن ما أدركَنا من هزيمة من إسرائيل من الصعب تجاوزه في وقت قريب.

وكأن هذه المسرحية ـ في خطابها التاريخي ـ كانت تطلب منّا المقاومة والاستبسال والصمود، حتى لو كانت كل الظروف الواقفة في طريقنا تسُدُّ منافذ الأمل عليْنا.