نص نادر لكوركيس عواد..الأب الكرملي كما عرفته

نص نادر لكوركيس عواد..الأب الكرملي كما عرفته

أود ابتداء” , أن أشكر الهيئة المشرفة على هذه المؤسسة لأتاحتها الفرصة لي كي أتحدث اليكم في هذه الأمسية عن عالم عراقي جليل, بلغ القمة في شهرته بين علماء العربية, و تبوأ مكانة رفيعة في المحافل الادبية, و خلق تراثا عظيم الشأن في ميادين الثقافة العربية، ذلكم هو الأب أنستاس ماري الكرملي.

ولد في مدينة بغداد سنة 1866. و كان اسمه حينذاك: ” بطرس ميخائيل الماريني”. و تلقى دروسه الابتدائية في “مدرسة الاباء الكرمليين” ببغداد , و أتم دراسته الثانوية في ” مدرسة الاتفاق الكاثوليكي” ببغداد , وتخرج منها عام 1882.

و عين مدرسا” للغة العربية في مدرسته الاولى, وهو في مقتبل عمره. ثم غادر بغداد سنة 1886, قاصدا كلية الاباء اليسوعيين ببيروت. فدرس فيها العربية, و تعلم هناك اللاتينية و اليونانية, و أتم أداب اللغة الفرنسية.

ثم واصل دراسته العالية في بلجيكة. و هناك انتمى الى الرهبنة الكرملية. ثم أكمل تلك الدراسة في فرنسة. و في سنة 1894 رسم قسيسا” بأسم ” أنستاس ماري الكرملي”, و هي التسمية التي عرف بها في سائر أيام حياته.

و بعد أن غادر فرنسة, هبط اسبانيا لمشاهدة الاثار العربية الرائعة في ديار الأندلس. و قد كانت تلك الزيارة من الأما ني التي ما زالت تراوده حتى تحققت له.

ثم عاد الى وطنه, فعهدت اليه الرهبنة الكرملية بأدارة مدرستها, فتولاها مدة اربعة أعوام, و علم فيها العربية و الفرنسية. هذه لمحات خاطفة من حياة الأب أنستاس في أيام الدراسة و التحصيل. و معظمها يقع في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر.

أما حياته من بعد ذلك, و هي الفترة الزمني التي بلغ فيها الذروة في عالمي البحث و التحقيق و التأليف, فأنها حياة خصيبة ثرية, تتجلى بما أصدره من مجلات, و ما كتبه من مقالات, و ما صنفه من كتب. و أغلبها يدور على موضوعات في اللغة و التاريخ و البلدان و الأقوام و الأديان و الحضارة.

و ليس في وسعي, في هذا الوقت القصير المحدود, أن احيط بحياة الأب العلمية, و ألم بجهوده في ميادين الفكر و التأليف. , أخشى أن أثقل عليكم, ان أطلت الحديث بعض الأطالة و أسترسلت في ذكر هذه الشؤون. و أرى – و الأمر على ما ذكرت- أن اقتصر هنا على التنويه بالمعالم البارزة في هذه الحياة العلمية الفخمة, منذ بدأ بالتأليف حتى وافاه الأجل في أوائل عام 1947. و هي أطول فترة زمنية من عمره, تجاوزت ستين عاما”, أمضاها في البحث و التأليف.

هذه الحياة العلمية الحافلة, هي التي سمت به, فجعلته في الرعيل الأول بين علماء العربية في عصره. فكانت الألسن تلهج بأسمه في كل مكان, و يتناقل رجال اللغة أحاديثه و فتاواه, و تشير اليه الأيدي اينما حل و حيثما رحل. حتى ليصح فيه القول المشهور ” انه الرجل الذي ملأ الدنيا و شغل الناس”.

عرفت الأب أنستاس في مقالاته منذ زمن بعيد, و بدأت الصلة بيننا منذ سنة 1934. ذلك انني في تلك السنة, طبعت’ في الموصل أول كتاب ألفته في حياتي, و كان عنوانه: ” أثر قديم في العراق: دير الربان هرمزد”, و أهديت نسخة منه اليه. فما هي الا أيام معدودات حتى وافتني رسالة منه, فيها شكر و ثناء و فيها ملاحظات نافعة. كانت تلك أول صلة أدبية جرت بيننا.

و لم ألتق به ألا في سنة 1935, حيث زرته في صومعته بدير الأباء الكرمليين. و كان الدير يوم ذاك مجاورا لكنيسة اللاتين, في مبنى قديم ذي ريازة شرقية جميلة, نقض بعد وفاة الاب أنستاس, وأنشئ في محله دير جديد. و لم يلبث هذا الدير الجديد أن هدم هو الأخر حين فتح شارع الجمهورية الذي يسمى اليوم بشارع الخلفاء, فأضحت رقعة الدير برمتها جزءا من الشارع.

و كانت زيارتي هذه له, فاتحة صداقة وثيقة دامت بيننا حتى توفاه الله سنة 1947 على ما سبقت الاشارة اليه.

لازمت الاب أنستاس ملازمة الابن لأبيه و التلميذ لأستاذه. فكنت بعد أن أقمت ببغداد منذ سنة 1936, أتردد أليه في أكثر أيام الاسبوع. و كان هو يزورني في بيتي بين الحين والحين. وقد أفدت من أدبه و علمه الشئ الكثير.

كان الأب أنستاس حريصا على اللغة العربية, ينافح عنها, و يبذل قصارى جهده في أضهار فضلها و بيان منزلتها الرفيعة بين سائر اللغات. لقد كان طوال حياته يدافع عن العربية الفصحى, و يرى انها قوام العروبة, , أنها نقطة تلاقي العرب أجمع انى وجدوا. و لقد كان يشدد النكير على دعاة العامية و يندد بما يذهبون اليه في كتاباتهم.

كان الأب أنستاس دؤوبا على المطالعة, لا يصرفه عن ذلك ألا مرض أو سفر. و لم يكن عمله اليومي في البحث و التأليف ليقل عن عشر ساعات على مدار السنة.

و من سجاياه الحميدة انه لم يكن يضن بشيءمن علمه على أحد. فأذا سأله أحدهم في مسألة, أجابه عليها بما وسعه علمه. ومثل ذلك يقال في شأن مكتبته العظيمة الزاخرة بأمهات المصادر و المراجع القديمة والحديثة, بالعربية و بغيرها من اللغات. فقد كان لا يتردد في تيسيرها لمن يبتغي الرجوع اليها. على أن اخراج الكتب من الدير لم يكن مباحا. فالمراجعة كانت تتم عادة في الدير. و من مزاياه الحسنة, أنه كان يأخذ بيد الناشئة من المتأدبين و الكتاب و يشجعهم و يوليهم المزيد من عطفه و علمه. و له في ذلك الأيادي البيض على طائفة كبيرة منهم.

و من عاداته, الاجابة على كل رسالة ترد اليه من مختلف طبقات الناس, و لاسيما العلماء و الأدباء من الباحثين. بل أن جوابه عليها يتم في اليوم الذي انتهت اليه. ألا اذا كان الجواب يقتضي تقصيا في البحث, و رجوعا الى المصادر, حينئذ يتريث في الأجابة.

كان يحافظ أشد المحافظة على ” المواعيد”. و قد أدرك أصدقاؤه و عارفوه ما طبع عليه في هذا الشأن. فكانوا يجارونه في هذا المضمار. كان الأب أنستاس طيب القلب, نقي السريرة, متواضعا, بسيطا في حياته. فلم يكن للمظاهر الخلابة مكان عنده. و لم يكن يحفل بكثير من الامور التي يوليها الناس شطرا كبيرا من اهتمامهم, انه كان راهبا كاملا, جمع بين فضيلتي العلم و التقوى. هذه لمحات سريعة عن حياته و صفاته الخلقية.

فأذا ما أنتقلنا الى حياته الفكرية, و تعمقنا في ما كان عليه من شديد الاقبال على البحث و التأليف, وجدنا في ذلك العجب العجاب. فقد كتب الأب أنستاس من المقالات ما يربو 1300 مقالة, نشرت في صحف و مجلات ظهرت في العراق و في غيره من الاقطار العربية و الشرقية و الغربية.

و في كتابنا المستفيض الذي ألفناه عن الأب أنستاس و طبعناه في بغداد قبل خمس عشر عاما, استقصينا ذكر هذه المقالات, و نوهنا بمواطن نشرها واحدة واحدة.

كان الأب أنستاس يوقع مقالاته أحيانا بأسمه الصريح , و لاسيما في السنوات الثلاثين الأخيرة من حياته. أما ما قبل ذلك, فكان ينشر بعضه بتوقيع مستعار, و البعضها الاخر, كان ينشره غفلا من اسمه الصريح و المستعار, كتلك المقالات التي نشرها في كلتا مجلتيه اللتين أصدرهما في بغداد, وهما: ” دار السلام” و “لغة العرب”.

و لا مراء في أن تلك التواقيع “المستعارة” ان كانت في حينها شائعة معروفة بين بعض الباحثين المعنيين باثار الأب أنستاس, فأنها ستصبح بعد زمن غير طويل, من الامور المعضلة التي قد تخفى على كثير من العلماء و الباحثين لدى مراجعتهم تلك المقالات. لقد استقصينا تلك الأسماء “المستعارة” التي تخفى الأب أنستاس وراءها, فأذا بها تناهز الأربعين اسما.

أما “الكتب” التي ألفها الأب أنستاس, فكثيرة, تعد بالعشرات, طبع منها نيف و عشرون كتابا, و ضاع منها نحو من عشرة مؤلفات, أما الباقي, و هو يناهز الأربعين مؤلفا, فما زال مخطوطا. و نسخه الخطية محفوظة في مكتبة المتحف العراقي و في مكتبة دير الاباء الكرمليين ببغداد.

و لست بصدد تسمية هذه المصنفات, فأنها من الكثرة بحيث يتعذر علي سرد أسمائها في مثل هذا المقام, و لكنني سأقتصر كلامي على واحد منها لاغير, و هو معجه اللغوي الشهير الموسوم ب “المساعد”. و المساعد, أعظم تاليف الاب أنستاس, المطبوع منها و المخطوط, و أجلها شأننا, و أغرزها مادة, و أكثرها فائدة. أمضى شطرا كبيرا من حياته في تأليفه, و بكلمة اخرى, انه بدأ بتأليفه منذ سنة 1883 و ظل يواصل العمل فيه حتى سنة 1946.

يقع هذا المعجم في خمسة مجلدات ضخام. حاول فيه مؤلفه أن يجعل منه “مستدركا” على المعجمات العربية, قديمها و حديثها. و بتعبير أوضح, انه لم يذكر فيه من الألفاظ, الا ما خلت منه المعجمات السابقة. ذلك ان كلمات لا تحصى, لا نجد لها ذكرا في القواميس العربية القديمة, كالألفاظ المعربة و المولدة و الدخيلة. فمن يطالع التصانيف العربية القديمة, تستوقفه ألفاظ كثيرة غامضة. فأذا رجع الى المجمات المعروفة, لا يجد لها ذكرا أو تفسيرا. فمثل هذه الألفاظ تعد مما يستدرك على تلك المعجمات.

و يكثر ورود هذه الألفاظ في كتب التراث العربي الباحثة في البلدان و الرحلات و الفنون و الصناعات, وعلوم الرياضيات و الفلك والطب و الزراعة و غيرها مما يطول ذكره. و منها ايضا الكتب المتصلة بشؤون الحضارة و المجتمع, كالأثاث و الطعام و الشراب و الأدوات و الملابس و نحوها. و لا يخفى أن تأليف مثل هذا المعجم, يتطلب معاناة و صبرا على قراءة المصنفات القديمة و تتبع ما فيها من ألفاظ غفلت عن ايرادها سائر المعجمات.

فمعجم الأب أنستاس يختلف عن المعجمات التقليدية المعروفة, بكونه يحتضن ألفاظا لا ذكر لها في غيره من المعجمات. فيكون مؤلفه قد سد به ثلمة ظاهرة في هذا الميدان اللغوي الفسيح.

و الذي يدعو الى العجب حقا, أن المؤلف اهتدى الى أن يسد هذه اللثمة اللغوية, في وقت مبكر جدا من حياته, أي في سنة 1883 على ما ذكرنا.

لم يتهيأ للأب أنستاس أن يطبع هذا المعجم لعوائق حالت دون ذلك. و من ثمة, فقد كانت التفافة كريمة, ومبادرة طجيبة من لدن وزارة الثقافة و الأعلام حين قررت نشر هذا المعجم بنفقتها, و جعله في جملة مطبوعاتها. و قد عهدت الي و الى زميلي الأستاذ عبد الحميد العلوجي, رئيس تحرير مجلة المورد, أن نتولى معا تحقيقه و التعليق عليه. فهيأنا مجلدا منه, نشرته الوزارة سنة 1972 , ثم تلاه ثان نشر سنة 1976. و بين يدينا الان مواد كثيرة من المجلد الثالثنأمل أن نفرغ منه في وقت ليس ببعيد.

لقد كان الأقبال على المجلدين المطبوعين منقطع النظير, بحيث نفذت نسخهما- على وفرتها- بعيد صدورها.

و عندب, ان هذا المعجم, لو تكامل نشره, لبلغ نحوا من ستة عشر مجلدا, من غرار المجلدين المذكورين.

و قبل أن أختم كلامي, لا بد لي من القول, ان كثيرا من الاندية العلمية, اختارت الأب أنستاس عضوا فيها. فقد انتخب عضوا مراسلا للمجمع العلمي العربي في دمشق, منذ تأسيسه سنة 1920. و انتخب عضوا عاملا في مجمع اللغة العربية في القاهرة, منذ تأسيسه سنة 1933. و انتخب عضوا في لجنة التأليف و النشر العراقية, التي انشأت في بغداد سنة 1945. و قد الغيت هذه اللجنة بعد وفاته, و حل محلها “المجمع العلمي العراقي”.

هذه المامة سريعة تكشف عن مناحي حياة عالم عراقي أخلص لأمته ووطنه, , أفنى عمره في خدمة اللغة العربية التي أحبها.

والسلام عليكم

التوقيع

كوركيس عواد

عضو المجمع العلمي العراقي

* نشرها الاستاذ سيف عزيزة عن أوراق أبيه ماجد عزيزة