كوركيس عواد في أفراحه وأحزانه

كوركيس عواد في أفراحه وأحزانه

كريم اينا

يلتقي المفهرس كوركيس عواد بإبن النديم في الإهتمامات الفكرية المشتركة. فهما من نبتة العراق، ذهبا إلى الآفاق البعيدة في وادي الرافدين، لينبشا الأقبية وكوّاة خزائن المعابد والأضرحة والكهوف حتى تستقيم أمامهما كتب الأولين والمحدثين والمتأخرين من أهل هذا الوادي العريق حتى يعرفا بالعقل ما أبدعوهُ في صنوف الإنسانية، فهي التي جعلتهُ يطبع حتى هذا اليوم (73) كتاباً وهي التي أوحت إليه بتأليف (20) مخطوطة، كان خائفاً من الموت ويقول:

من يطبع هذه المخطوطات بعد موتي،وأيضاً خائفاً لا يخطف الموت جزازاته وتذهب أدراج الرياح كما خطف الموت إبن النديم وضاعت جزازاته في معترك الأحداث وصروف الزمن، فضاع كتابه (التشبيهات) وإندثرت أوراقهُ الغاليات حسب ما يقولهُ الرواة.

أحزانه وأفراحهُ

إنّ لعواد مكانة مرموقة عند حواضر العرب بإعتباره إبن النديم المعاصر،حيث أصبح قدوةً لآلاف الباحثين، وقدوة لجامعات العالم، شرقيها وغربيها، يرجعون إليه في الشاردة والواردة لآلاف الكتب في النجوم وعلم التخفّي وفي أدب الرحلة، والأمانة في حفظ الكتب والصور المثيرة في سياسة الخلفاء والأمراء، وأنّهُ لمن الحزن أن يطبع كتاب إبن النديم (الفهرست) في دول غربية، ولا ننسى بأنّ الغرب نهبوا مخطوطاتنا من مدن بابل ونينوى والقاهرة ومخطوطاتنا التي وجدت في القسطنطينية، وذهبوا بها إلى لندن وباريس وليبزيغ ليطبعوها بأمزجة العلم التي في جامعاتهم وبأمزجة التراث الذي في بطون حساسياتهم الإمبراطورية، وما زلنا نرى إرساليات الغرب من الكتب عن تراثنا تغزو عقل القارىء العربي من قبل المستشرقين لما أستبهم وأستغلق وخاصة كتاب إبن النديم (الفهرست) الذي إنتشر في الغرب منذُ أواخر القرن السابع عشر الميلادي عن طريق المستشرق الألماني (فلوغل) الذي لم يكمّل طبعه فجاء (ملر) و(هرمان روديغر) لينشرا الكتاب (الفهرست) باللغة العربية في المانيا سنة 1871 وحشي بالمذيلات والتعليقات وظلت هذه الطبعة هي المعتمدة في آداب لغتنا، وهذا الكتاب يعتبر أوّل كتاب في التراجم والسير،نقل فيه إبن النديم صور تراثنا بترجمة الكتب ومؤلفيها وعلوم الأقوام المحيطة بجغرافية العرب. بوسيلة إسلوبية أدهشت أهل الغرب، وكانت وسيلتهُ أن رتّب الكتاب على فصول كان يسميها (مقالات) وهي عشر مقالات في الفنون والنحو واللغة والأخبار والحكم والشعر والشعراء والكلام والمتكلمين والفقه والفقهاء والفلسفة والعلوم القديمة والخرافات والعزائم والسحر والشعوذة والمذاهب والإعتقادات والكيميائيين والمحدثين، إضافة إلى أنّ إسم إبن النديم الكامل هو: أبو الفرج بن إسحاق بن يعقوب النديم البغدادي الورّاق. لذا يلتقي كوركيس عواد بإبن النديم في الصفات التي تجمع بين المفهرسين الأوائل وهي الصبر، وهدوء الطبع برموز بسيطة تتكوّن من مجموعة من الأصفار والآحاد،وإستخدامه أيضاً الأبجدية وبدلاً من شفرة المجمع يقومُ بترتيب عمله بالتسلسل الهجائي. اللغة المتداولة في أجهزة المفهرس هي اللغة العربية التي ورثها كوركيس عواد من إبن النديم أو إبن هشام أو من عنترة العبسي، ومن هذا الترتيب الواضح في تأليفه أضيفت لكوركيس طاقة خلاقة تجاوز بها طاقة الكومبيوتر التي لا تشغلها إلاّ الرموز الحسابية في مستواها العالي والواطي. لا يمكننا معرفة مفهرسنا العلامة كوركيس من أين جاء بفكرة الفهرسة؟ فهذا شأن موهبته،والمواهب أسرار، وربّما أنّ بعض المبدعين يجهلون حقيقة أسرارهم، إنّ آثار كوركيس بلغت في عالم الفهرسة أكثر من(35) كتاباً، ومئات المقالات في شؤون التفهرس،وعن هذا العناء العذب في خزائن الأسماء والرموز والإشارات وهو ذاتهُ يجهل الدوافع التي دفعته لأن يبني موهبة تحظى بها موهبة إبن النديم في الإسلوب أو في المنهج، وهذه الآثار الفهرستية التي ألفها كوركيس منذ عام 1935 بأول مطبوع(المكتبة العربية العراقية: الموصل وكتب التاريخ) لم ينهج فيها نهج إبن النديم، على الرغم من تآلفه الروحي مع هذا المفكر الكبير،بل آثر أن ينهج منهج المعاصرين في الفهرسة، كالمستشرق الإنكليزي (بيرسون) فقد صنّف هذا العالم (الفهرس الإسلامي) وهو كتاب موسوعي حافل واسع الأطراف ظهرت منهُ بضعة مجلدات تشتمل على فهرس منسّق لما نشرته المجلات الغربية الإستشراقية من مقالات تتعلّق بالدراسات العربية والإسلامية منذُ سنة 1906 حتى وقتنا الحاضر، ويمتاز هذا الفهرس الكبير الذي ألّفهُ كوركيس بالصدق، فهو صادق في نيّته وصادق في عمله، خدم التاريخ العراقي بهذا الصدق القوي، العقلي،النابه،الشديد مع حقائقه المنزّهه من الإثرة والتعصّب والمراوحة والتجديف.

جاء كوركيس إلى بغداد في بداية العشرينات، وجد في كتب المنفلوطي: النظرات، العبرات، ماجدولين والفضيلة.. والشاعر الحس الرومانسي الذي ينسابُ من تلك الكتب وقد هيّج فيه خطرات كتاب روبنسون كروزي مرة أخرى، فذهب إلى عالم المنفلوطي ونمت رغبته في بغداد، وكوركيس عواد أصبح في عام 1926 يميز بين الكتاب الطالح والكتاب الصالح، أصبح يدرك أنّه لا بدّ أن يكتب، ولما لا وهذه الجمهرة من الكتب في بيته وفي ذهنه، وهذه الأفكار التي تطورت في أعماقه، وما أطلّ عام 1931 وهو المعلم في إحدى مدارس الموصل حتى شرع يصمّم لهُ منهجاً في الكتابة، قال في نفسه: أنا الكاتب، هذه الموصل مدينتي، آثارها، قببها، مجدها النائم في شقوق نينوى القديمة، هذه الموصل تبتغي منّي أن أكون كاتبها لأردّ لها وفاء الإبن للأرض، ويتذكّر كتاب كروزي، ويكتب المقال الأول في حياته(الإستكشاف الجغرافي العالمي) لكن لمن يبعث المقال حتى ينشر ويقرأهُ أهل الموصل فرحين بإبنهم الكاتب الجديد؟ لقد بعث المقال إلى مجلّة (النجم)(وكان ذلك قبل خمسة وخمسين عاماً) وهو لا يعلم مصيرهُ: أينشر أم يهمل، وإذا بعدد المجلة يصدر وفيه مقاله الأول فشعر حينذاك كأنّه ملك الدنيا وهي حالة غريزية يمرّ بها كل أدباء الأرض، وهي من الأسرار الكامنة في ذوات الأدباء للتعبير عن الأنا المتميّزة عن الآخرين، وشجّعهُ هذا المقال أن يكتبُ مقالاً ثانياً وثالثاً، وفي تلك الأثناء يزدهي كوركيس بأوّل رسالة يتلقاها تشجيعاً على كتابته. تلقّى الرسالة من صاحب المجلة ورئيس تحريرها المرحوم سليمان الصائغ، وفيها يثني على تلك المقالات ويستزيدهُ من كتابة نظائرها وكانت تلك الرسالة الصدى العميق في تنشيط (أنا) كوركيس للمضي في تزويد تلك المجلة بالمقالات التي بلغ مجموع ما نشر في سائر مجلداتها 23 مقالة، وللتاريخ.. فإنّ العلامة سليمان الصائغ رئيس تحرير مجلة (النجم) المتوفي سنة 1961، وهو عم الشاعر المعروف يوسف الصائغ، كان لهُ دورٌ بالغ الأثر في الدفاع عن تأريخ وحضارة الموصل، أيقظ في قلب مفهرسنا مئات المقالات، بذرت بذورها في منابر مصر ولبنان وسوريا والكويت والسعودية وغيرها. وأصبح إسمهُ يتسرّب بقوة إلى أمهر المجلات والمنابر العالمية. كان يميل إلى التاريخ العراقي في أوج عزّه، ومتابعة الدراسات البلدانية القديمة وتتبع شؤون المخطوطات العربية،

مودته للتاريخ

لا يكترث كوركيس لشيء إلاّ من ضياع تأريخ، وهو يحزن بوعي للإهمال الذي تسلّل إلى خزائن الكتب في حواضر العراق، فهو الذي أسدى لتاريخ أرضه كلّ زهرات حياته، ليصبح هو والماضي في ألفة شديدة تتسرّب إلى الخلود بلغة صامتة.

من مبحث (المفكر الموسوعي كوركيس عواد)