من (طرائف) أحمد حامد الصراف

من (طرائف) أحمد حامد الصراف

مير بصري

احمد حامد الصراف(1900ــ 1985) شخصية ذات جوانب متعددة: فهو حقوقي بارع، شغل وظائف إدارية وقضائية كثيرة وجاب ألوية العراق رسولا للعدالة، وهو أديب يصول قلمه ويجول ضليعا بآداب العربية والفارسية والتركية وله حافظة قوية تختزن بدائع المنظوم وروائع المنثور وهو باحث محقق أولع بأخبار المتصوفة والدراويش وأرباب الطرق واستقصى سيرهم وآثارهم وهو بعد كل ذلك رجل أنساني ذو عاطفة ملتهبة تتوقد وتتمرد وتثور وله قلب شديد الخفقان يفيض باللوعة والحنان ودمع سريع الهميان يرثى لحال الإنس والجان.

والصراف ذكي إلى حدّ الإفراط وهو يعلم ذلك ولا يصطنع التواضع في الإشارة إلى ذكائه. وقد قال ذات يوم: سبحان الله فاطر السماوات والارضين، خلق اخوين لأب وام فخصّ احدهما بالذكاء الفارط وجعل الثاني في الحضيض الاوهد من البلادة والغباء.. وقيل ان عمر بن الخطاب كان إذا رأى الرجل يتجلجل في كلامه قال: خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد!

ويمكن القول ان ذكاء الصراف قد جنى عليه فدعا إلى فصله من الوظيفة مرتين: ففي المرة الاولى عيّن أديبنا سكرتيرا لإحدى القنصليات العراقية في ايران وبدلا من ان يشخص الى بلد الفردوسي و سعدي، طلب اجازة وسافر الى ربوع الشام. وفي ذلك الصيف نفسه مضى الى الاصطياف القنصل نفسه الذي عيّن الصراف سكرتيرا له فالتقى هناك الرئيس و المرؤوس.

وكان القنصل رجلا عظاميا كبير المقام قليل الكلام، وكان السكرتير الأديب ينتقل في سورية ولبنان من ناد إلى ناد ومن مجلس إلى مجلس فيلقي المحاضرات ويأسر الألباب بأحاديثه ولطائفه و محفوظاته و لا ينسى في أثناء ذلك ان يقدم رئيسه الصامت بعبارات التفخيم والتبجيل، حتى اذا ما انتهى موسم الصيف وعاد القنصل وسكرتيره إلى العراق ذهب الأول إلى مقرّ منصبه في إيران وآب صاحبنا بالفصل والحرمان.

وفي المرة الثانية – وبعد زهاء عشر سنين – جمع بالصراف حصان اللسان فقال في نشوة الحديث (ثلاثة في العراق لا يعرفون كتابة سطرين متصلين، وصرّح بالأسماء فاذا ثالث الثلاثة الوزير الذي يعمل صاحبنا في وزارته. وسرعان ما نمي الخبر الى الوزير الخطير فلم يغمض له جفن حتى أطلق المتكلم من قيد الوظيفة..

وقد لازم الصراف جميل صدقي الزهاوي أعواما طويلة وروى أخباره وأشعاره وكتب عنه صفحات ممتعة. ورافقه سنة 1934 إلى طهران لحضور مهرجان الفردوسي. لقد أقامت الحكومة الإيرانية احتفالا عظيما بالذكرى الألفية للشاعر الفردوسي. وفي الحفلة الكبرى التي شهدها رضا شاه يهلوي وأركان دولته والعلماء القادمون من مختلف بقاع المعمورة ألقى شاعر العراق قصيدة باللغة الفارسية أشاد فيها بذكر شاعر الأمة الإيرانية ورفع منزلة الملك البهلوي الذي عرف قدر الفردوسي أكثر من معاصره الملك محمود الغزني.

وكان لهذه القصيدة وقع عظيم حتى ان رئيس الوزراء ايران لم يتمالك نفسه عندما فرغ الزهاوي المشهود هنأه الشاه واحتفى به الناس. فلما عدنا إلى الفندق دعاني الشاعر الشيخ وقال (ياولدي احمد، هل رأيت رئيس الوزراء يقبل يدي؟ قلت (نعم يا استاذ، وقد رأى ذلك كل من حضر الاحتفال. فقال الزهاوي (أحفظ ذلك جيدا يا ولدي احمد لترويه في بغداد، فأنت شاهدي الوحيد هناك فلتؤد الأمانة ولتوف بالعهد).

إن الصراف شجاع مقدام وقد روى عن نفسه انه استدرج احد أصدقائه من الأدباء إلى بعض البساتين النائية وأوسعه لكما وضربا لتناوله بالنقد اللاذع المرّ كتاب (عمر الخيام) عند صدور طبعته الأولى. ومن ذكريات الصبا التي حدثنا عنها انه اتفق مع نفر من رفاقه التلاميذ على التغرير بأصحاب الحمير الذين كانوا يقومون في بغداد القديمة بدور أرباب سيارات الأجرة.

كانت بغداد في ذلك العهد البعيد تنتهي عند باب المعظم. فإذا أراد امرؤ أن يذهب إلى الأعظمية وقف عند الطاق في آخر محلة الميدان واستكرى حمارا يركبه ليقطع به الطريق الضيقة الممتدة بين البساتين إلى جامع الإمام الأعظم. وجاء الفتى احمد وأصدقاؤه لا تنحرف يمينا ولا شمالا بل تنتهي حيث يكون رفاقهم الذين يتسلمون الحمير من الراكبين في ساحة الاعظيمة ويؤجرونها ثانية إلى المسافرين إلى بغداد لكن فتياننا المكارين الأبرياء أوقفوا الحمير في منتصف الطريق وسحبوها سحبا في داخل البساتين إلى ساحل دجلة وعبروا في قفة إلى الجانب الغربي حيث تركوها ترعى في الحقول حرة طليقة.. وظلّ الحمارون أياما طويلة يبحثون عن دوابهم التي لم تصل الأعظمية ويتساءلون أين ضلّت سبيلها.

وقد استطاع الدكتور مصطفى جواد مرة أن يزين له السفر بالطيارة مسافة قصيرة من بيروت إلى دمشق. فلما ارتفعت بهما سفينة الفضاء اخذ الصراف يبسمل ويحوقل ويتعوذ ويخاطب نفسه قائلا: (يا ابا شهاب، ما حملك على ركوب هذا المركب وترك الأرض الثابتة في المطار بسلام جسّ الأرض الثابتة تحت قدميه وحمد اله مقسما ألا يعود إلى التصعيد في الفضاء. وكذلك حرم رواد الفضاء الكوني من أمثال غاغارين وشبرد سلفا زميلا لهم لن يغريه مغر بالانطلاق في الصورايخ وارتياد مجاهل الكواكب والأقمار.