هل تذكرون الفنان محمد كريم؟ (أنا الربيت ولغيري يصيرون)

هل تذكرون الفنان محمد كريم؟ (أنا الربيت ولغيري يصيرون)

عادل الهاشمي

في فترة ازدهار الأغنية البغدادية كان محمد كريم صورة من حقبة تاريخية عاشها الغناء العراقي هذه الصورة المدهشة جاء عليها حين من الدهر لم تستطع أن تقاوم لغة التطور فذهبت إلى النسيان.

وحقيقة الأمر أن محمد كريم هرب مما يحسه في أعماقه، هرب بعيدا عن ضغط الصراع في حين أن العدالة الحقة هي التطلع إلى معاملة جديدة مع التطور.

ونجاح الفنان الموهوب المتعلم من اقتصاء سر لغته الفنية وإماطة اللثام عن عناصرها المتنوعة ولهذا فان المغني الفنان هو تعبئة دائمة ومدهشة لان طريقة اكتشافه لعناصر اقتداره ووعيه الكامل الدائم.

لقد أتاح الوقت لمحمد كريم أن ينمي موهبته وان يكتسب فيها مرانا ليخترق عالم التجربة الغنائية بتقص دقيق ومواجهة بارعة لضغوط الحياة.. بالمقابل فان محمد كريم لم يدخل التجربة المعرفية الثقافية في الموسيقى والغناء. فهو لم يتعلم قراءة التونة ولا كتابتها ولم يحسن الضرب علي أية آلة موسيقية، فكانت الموهبة تسير عارية في حقلها الخاص بدون ظهير ثقافي يكسبها اللغة بعالم الموسيقى اللا محدود.

ومحمد كريم مثال للفنان الذي تذوق من الفن صورته المانعة الزاهية الرخية وتجنب الجراحات فالفنان المعاني المواجه المستبصر المعذب هو جامع للجراحات الجراحات في التطور وفي الاكتشاف الجديد وفي البحث عن الأسرار اذ أن عذوبة الفن الغنائي عند محمد كريم هو في انغلاقه فالزمن يمضي في فهمه كما لو كان لا يمضي.

واجه الفنان الغنائي بسعي تفاخري يخترق دوامات حياته، منحه أمل أن ينضم للدورة الاولى للتمثيل في معهد الفنون الجميلة، ومن ثم ليقدم أغنيته الأولى في الإذاعة على الهواء عنوانها حيران بعدك ثم أغنيته الثانية سحر حبك لوعني والأغنيتان من ألحانه وكلماته.

تأثر عميقا بصوت محمد عبد الوهاب الكرواني وكانت اغنية يالوعتي ياشقاي من فيلم الوردة البيضاء هي التي رسخت فيه حب الغناء ثم تأثر بمحمد عبد المطلب لفترة من الوقت وكان انشداده العميق الآخر بعد عبد الوهاب هو لفن فريد الأطرش الذي شغل كيانه الفني وهو دائم السماع لعبد الوهاب وام كلثوم وفريد الأطرش وأسمهان وصالح عبد الحي ورياض السنباطي وليلى مراد.

هؤلاء هذبوا فيه الذوق الفني وتعلم منهم كيفية انتقاء الكلمات، يذكر باعتزاز لقاء عاشه في بداية حياته في بلودان بسوريا حيث عقد مؤتمر كشفي عربي في العام 1936 وكان محمد كريم ضمن الوفد العراقي حيث غنى في المؤتمر وهو تلميذ أبوذية عراقية وجاء من يقول له ان احد الفنانين يريد رؤيتك وكان هذا الفنان فريد الأطرش وشقيقته أسمهان حيث ابدى الأطرش إعجابا خاصا بصوته وشجعه على الاستمرار في الغناء.

طارت له أغان بغدادية وانتشرت هنا وهناك ومازالت حلاوتها تشجي الأسماع، انا الربيت والغيري يصيرون، يا شاعر النار بقلبي النار، من الحان احمد الخليل وحاسديني عليك، تستاهل ياقلبي، لا ياسالي لا تظن اني احبك، الدنيا حلوة ياسمين، ياورد، من الحان علاء كامل ودايما على لساني يا لحبهم خاب ظني، من الحان سمير بغدادي سلم ياحبيب الروح، من الحانه، قصيدة همسة الليل من الحان محمود عبد الحميد، ابوي شلون انساك، من الحان محمد عبد المحسن وعدد من الاغاني الاخرى غنى ما يقرب من 115 أغنية.وهومؤلف وملحن النشيد الشهير الجيش سور الوطن في عام 1945.

تركت الغناء لأسباب اجتماعية

* كان السؤال الأول الذي وجهناه إلى محمد كريم هو لماذا تركت الغناء؟

- تركت الغناء لأسباب اجتماعية تتعلق بالدرجة الأولى بنظرة المجتمع إلى المغني.

* الم تكتشف هذه النظرة إلا أخيراً؟

- لأسباب خاصة لا أريد الخوض فيها جعلتني اترك الزمن الغنائي، قبل الطفرة النوعية التي شملت نظرة المجتمع للفنان المغني وهي جزء من التربية الجديدة التي جاءت بها الثورة.

* متى هويت الغناء؟

- هويت الغناء وانا طالب صغير في ثلاثينيات هذا القرن (القرن المنصرم)، إلا أنني دخلت الإذاعة كمحترف في عام 1947.

صوتي متكامل

* حدثنا عن صوتك؟

- إن صوتي متكامل فيه قرار وجواب.

ورأينا في صوت محمد كريم انه من الأصوات الجميلة المؤثرة التي عاشت ردحا من الزمن تعطي بتمكن وسلاسة يغني بعذوبة حلقت حولها الأسماع فكانت أغانيه تترنم بها ربات البيوت وطالبات المدارس وتتناقلها الشفاه، يتسع صوت محمد كريم إلى عشرة مقامات بدرجات صوتية أو تزيد بقليل، تنطلق مقاماته سليمة رائقة، تؤدي بكفاية، عالية الألحان المصممة لها، ونبراته فيها حلاوة ظاهرة وجزالة متميزة في الغناء.. تطرب السامع ذبذباته الصوتية بطيئة قليلا، ذلك أن ضيق تلك الذبذبات أو سعتها لا يؤثران على سرعتها، في أوتاره الصوتية غلظة وهذه الغلظة متكونة أساسا من بطء الصوت غير أن جمال نبراته الغنائية يقلل من تأثيرات هذه الغلظة في أدائه يكمن الحذق والبراعة والمسافة بين الدرجات الصوتية متوسطة ولذلك فان محمد كريم لا يلجأ إلى الجوابات العالية في غنائه، لان إطلاق صوته يعرضه إلى الضعف لهذا فان درجة غنائه لا تكتمل إلا عند الطبقة المتوسطة.

لا يستطيع صوته أن يصل إلى أصول في القرار بأية حال من الأحوال لذلك فان اغلب الألحان التي أداها كانت تحاول أن تكون مناسبة لدرجات صوته، يزدهر غناؤه وتنطلق نبراته في غناء المتوسط في الطبقة من ناحية العلو والانخفاض لذلك بقي صوته في المقدمة من أصوات الأغنية البغدادية عميق الأصداء قوي التأثير يحاور الأسماع في ألفة وانسجام.

* لماذا لم تتعلم العزف على آلة موسيقية؟

- من المؤسف جدا أنني لم أتعلم العزف على أية آلة موسيقية والسبب يعود إلى التزمت الذي كان يحكم بيتها، فلقد حطم والدي ثلاثة أعواد ومهما يكن فأنني أتحمل لوحدي هذا القصور.

انعدام المقاييس العلمية في اختيار الأصوات؟

* * لماذا لم نعد نسمع لك شيئا من تراثك الغنائي في الإذاعة؟

- كنت أتمنى أن توجه هذا السؤال إلى الإذاعة نفسها، أقولها بلا فخر ولا غرور أن الأغاني التي أديتها رددها الجمهور البغدادي على امتداد عصرنا بل أن المعاصرين من السمعية مازالوا يحتفظون لهذه الأغاني بالكثير من التقدير وحقيقة الأمر أن الإذاعة قد منعت الكثير من الأغاني العائدة لي وهي بهذا الإجراء قد قضت على أجمل أغاني التراث البغدادي ومهما يكن من أمر فأنني مؤمن بان الإذاعة ستعود يوما ما إلى الأغنيات العراقية الأصيلة.

م. الف باء 1979