رفعة عبد الرزاق محمد
في السنة الدراسية 1922-1923، بعد ان حصل على نتيجة (ناجح باستحقاق) في الامتحانات الوزارية الابتدائية، انتقل حسين جميل إلى المرحلة الثانوية في بغداد، فدخل المدرسة التي تحمل اسم (الثانوية المركزية).
وفي المرحلة الثانوية ظهرت اهتمامات حسين جميل السياسية والفكرية، وأخذ يقرأ الكتب غير المدرسية ويمكن القول إنّ لحسين جميل ميولاً ثقافية واستعدادات فكرية منذ نعومة أظفاره،
وقد ساعدت دراسته الثانوية في بغداد على تنمية تلك الميول. ويبدو أنّ قراءته الواسعة جعلته يَّطلع على بعض الكتب ذات الطابع اليساري، كـ (مذكرات لينين) و(البيان الشيوعي) وغيرها، إلاَّ أنّ اعجابه بالتراث الماركسي، لم يجعل منه ماركسياً، بل كان إعجاباً بالفكر الانساني بشكله العام. وقد دلَّت السنوات التالية على أنّ أفكاره كانت خليطاً من الفكر الديمقراطي والاصلاحي والقومي (المعتدل)، كما كان يحمل شعوراً ودياً نحو الثورة في روسيا.
دفعت رغبة حسين جميل في متابعة الأنشطة الثقافية والسياسية إلى الاتجاه لقراءة الأفكار الجديدة والتقدّمية التي انتقدت ما كان سائداً من الافكار الموروثة التي يغلب عليها طابع التخلف والتخاذل. وكان من رأي حسين جميل أنّ على المرء أن لا ينظر إلى شيء مِن ذلك نظرة تقديس واحترام لمجرد أنّه من موروثات الأجداد، أو لأنّ المجتمع يأخذ بهِ، بـل يجب على المرء وإن يمعنَ النظرَ في كلّ أمر وينظر إليه بمنظار العقل وحده، فيؤمن بما هو صواب وإن كان مرفوضاً من قبل الشعب، ويرفض ما هو خطأ وان كان مقبولاً من قبل الشعب، وفي كلا الحالتين يكون الاحتكام إلى العقل الحّر الذي ينظر إلى كلّ مسألة نظر موضوعية، من غير أن تؤثر في حكمه عقيدة سابقة. ويتضح من هذا أنّ النزعة العقلانية كانت متجلّية في طرائق تفكير حسين جميل، وفي قياسه للأمور وتقويمها.
وأول ما تجده في شخصية حسين جميل نزعته الحّرة وشخصيته المستقلة، فعلى الرّغم من كونه سليل الأسرة العريقة والشهيرة ثراءاً وعلماً، فإنّ ثقافته التي تلقّاها كانت اشبه ما تكون ثقافة عصامية، فلم تكن ثقافة تقليدية بسبب كثرة العلماء والقضاة في اسرته، بل كانت ثقافة تقّدمية متحّررة منذ البدء، وكثيراً ما كان يرّدد أنَّ الإسلام دين متمّيز بأصالته، لأنّه يذهب إلى أنّ الانسان بعمله فساوى بين قريشيها وحبشيها.
وضمن هذا السياق اهتَّم بقراءة آراء الدَّاعينَ إلى الفكرة الحرَّة التي عبَّروا عنها بالمقالة والقصة والرواية، مثل محمود أحمد السيد، وعوني بكر صدقي، وعبد الله جدوع، وغيرهم،. ويمكن القول إنّ هذه الأفكار وغيرها قد استطاعت أن تنمّي البذرة الفكرية لدى حسين جميل، لأنّه اطلع من خلال تلك الأفكار على آراء ووجهات نظر مختلفة، وعلى آراء مثقفين لهم أساليُبهم وطرائقهم المختلفة في معالجة الأمور السائدة في المجتمع، وتغلب عليها كلّها النزعة الاشتراكية الديمقراطية المقترنة بالدعوة الاصلاحية. لذا فإنّ ما حصل عليه حسين جميل من أفكار ومعلومات جعلته ينظر إلى الحياة فيما بعد نظرة تختلف عن تلك النظرة الكلاسيكية التي اعتاد عليها أبناء جيله، لأنّه تأثّر بأفكار الحرية والتقدم التي نَمَت لديه القدرة والمواهب الفكرية، وعمَّقت لديه سمات الوعي الوطني والقومي فيما بعد.
وبهذا يمكن القول ايضاً إنّ النزعة التقدمية أصبحت السمة الواضحة لأَفكار حسين جميل، وفضلاً عما ذكرناه فأنَّ هناك منابع أخرى غذَّت هذه النزعة لديه، منها متابعته للصحف العراقية والعربية السائرة في هذا المضمار، ومنها صحيفة (الصحيفة) لمديرها حسين الرحال، التي سارت على المنهج الذي دعا اليه محمود أحمد السيد، واهتمَّت في مقالاتها بمعالجات اتَّسمت بالتقدّمية والاشتراكية، فضلاً عن قراءته مجلة (العصور) التي أصدرها اسماعيل مظهر عام 1927، إذ يذكر حسين أنّ لهذه الجريدة تأثيراً واضحاً في الأذهان العراقية المتحرّرة، فشعارها (حَرّرْ فِكرَكَ)، حيث كتب عند صدورها: ”حرّرْ فكرَك مـن كلّ التقاليد الموروثة، حتى لا تجد صعوبة ما في رفض رأي من الآراء، أو مذهب من المذاهب اطمأنّت إليه نفسك وسكن اليه عقلك، إذا كشفت لك الحقائق ما يناقضه».
إضراب طلاب المدرسة الثانوية ببغداد عام 1926.
يعدّ أولَ عمل سياسي بارز قام به حسين جميل، وهو لا يزال طالباً في الصف الثالث الثانوي، إسهامه في الاضراب الطلابي الذي قام به طلبة المدرسة الثانوية، احتجاجاً على المعاهدة العراقية- البريطانية لعام 1926. لهذا فإنّ الدور الذي قام به حسين جميل ومجموعة أخرى من الطلاب كان تعبيراً عن موقفهم المعارض لتلك المعاهدة المجحفة. وازداد تأثير طلبة الثانوية نتيجة لموقف مدرس اللغة الانكليزية، وهو بريطاني الجنسية اسمه كودول، فبسبب انزعاجه من النقد العنيف الذي وجهته الصحافة والمعارضة لموقف بريطانيا، أخذ يتفوّه بكلمات نابية جّداً وبعيدة عن الذوق العام ضد الوطنيين العراقيين المعارضين للمعاهدة، زاعماً أنّ بريطانيا تسعى لمساعدة العراقيين والعمل على تقدمهم، الأمر الذي حفّز جموع الطلبة لابداء اسيتائهم. فأعلنوا الاضراب عن الدراسة، احتجاجاً على موقف هذا المدرس، وذهبوا إلى إدارة المدرسة، وكان المدير آنذاك يوسف عز الدين الناصري، وأخبروه بأنهم قرَّروا الاضراب وعدم دخول الصف في مادة اللغة الانكليزية، لأنّ مدرسهم أهان العراقيين، وفعلاً نفَّذوا إضرابهم، وكان حسين جميل ضمن هؤلاء الطلاب، ورغم محاولة مدير المدرسة لإقناعهم بعدم الاضراب، ووعدهم بأنّه سوف يتصل بوزارة المعارف ليطلب نقل المدرس المذكور. لكنّ الطلاب لم يستجيبوا لطلبه، ونفّذوا إضرابهم، واستمروا فيه رغم محاولة المدير ثنيهم عن موقفهم مرة أخرى لكّنهم لم يغيّروا موقفهم حتى استجابت الوزارة لطلبهم، وقامت بنقل المدرس واستبداله بمدرس آخر. لقد قوّى هذا الإضراب معنويات الطلاب، و أَشعرهم بأنّهم يستطيعون أن يفعلوا شيئاً إيجابياً، وكان لهذا الإضراب أثر في دفع الطلبة إلى ميدان النشاط السياسي، كما ظهر فيما بعد.
دور حسين جميل في الدفاع عن الحرية الفكرية.
في السنة الدراسية 1926-1927 ظهرت قضية أخرى أدّت إلى حدوث مظاهرة وضجة كبيرة في بغداد وبقية المدن العراقية الأخرى، وهي حادثة النصولي، وكان لحسين جميل وزملائه دورٌ كبيرٌ فيها، وسبب هذه الحادثة هو قيام أنيس زكريا النصولي، اللبناني الاصل والتدريسي في دار المعلمين، بإصدار كتاب عن تاريخ الدولة الأموية في الشام، وفي كتابه المشار اليه وضع النصولي آراءه ووجهة نظره في التاريخ الأموي، جاءت بصياغات نقدية جديدة لم يألفها البعض، فعدّها مساساً بالحقائق التاريخية، كما عدّها البعض منهجاً علمانياً أو طائفياً، الأمر الذي أدّى إلى هياج بعض الأوساط المثقفة أو الشعبية، وجعل الحكومة في وضع حرج.. لذا بادرت وزارة المعارف إلى منع تدريس الكتاب في مدارسها ومعاهدها، وعمدت إلى فصل النصولي من منصبه التعليمي.. وعدَّ ساطع الحصري هذا الاجراء طبيعياً لمعالجة الموقف، وكان يشغل حينها منصب مدير عام المعارف، خشية اغتنام البعض لمثل هذه الفرصة في إثارة التفرقة، أو اتهام الحصري بأنّه وراء استقدام النصولي وغيره للتدريس في العراق.
أثار قرار الفصل زملاء النصولي الذين رفعوا احتجاجاً إلى وزير المعارف دافعوا فيه عن حرية الفكر، ثم أخذوا يحرّضون طلاب الثانوية المركزية ودار المعلمين على حضور اجتماع في (نادي التضامن) في 29كانون الثاني عام 1927 للتداول فيما ينبغي لهم القيام به، فقرّروا التوجه في اليوم التالي 30 كانون الثاني إلى وزارة المعارف لرفع احتجاجهم على القرار المذكور. وتم اختيار وفد ضمَّ كلاً من محمد حسن سلمان وعبد الرزاق الظاهر؛ لتسليم عريضة الاحتجاج تلك إلى وزير المعارف، نيابةً عن المؤتمرين الذين اتجهوا بدورهم في مظاهرة من مركز تجمعهم في الكرخ حتى باب وزارة المعارف في الرصافة، ممّا أدّى إلى عرقلة حركة السير، ومِن ثَمَّ الاشتباك مع رجال الشرطة والاطفاء الذين حاولوا جاهدين تفريقهم، مستخدمين خراطيم مياه سيارات الاطفاء، ولكن دون جدوى، واخيراً تفرّق المتظاهرون على إثر كلمة ألقاها يوسف زنيل رئيس نادي التضامن، والذي ينتمي اليه عدد من هؤلاء الطلبة، ومن بينهم حسين جميل.
وبعد ان تفرّق الطلاب من أمام بناية وزارة المعارف، رجع قسم منهم إلى مدارسهم، لكّنهم لم يدخلوا الصفوف، وذهب قسم منهم إلى دار الأستاذ أنيس النصولي، منهم حسين جميل، وقدرَ النصولي لهم موقفهم، وطلب منهم الرجوع إلى دراستهم حتى لا يعَّرضوا أنفسهم للأذى وأخبرهم أنّه سوف يعود إلى لبنان، وأنّه سيحتفظ للعراق وطلاَّبه بأجمل الذكريات.
وفي مساء يوم المظاهرة أَلقت الشرطة القبض على بعض الطلبة، ومنهم حسين جميل حيث بقي يومين في موقف شرطة السراي، ثم أطلق سراحه وزملائه بكفالة. وشرعت وزارة المعارف في التحقيق مع المحرضين على القيام بهذه المظاهرة والمشاركين فيها، فألّفت لجنـة برئاسة (سمرفيل) المستشار البريطاني في وزارة المعارف، الذي اتجه في التحقيق اتجاهاً يتمشى مع سياسة تفريق الصفوف وإثارة النعرات.
وسرعان ما أدرك الطلبة المضربون هذه اللعبة، فأسرعوا إلى إحباطها، فقرَّروا انهاء الاضراب والعودة إلى الدراسة، وأَصدروا بياناً ينفي عن المظاهرات أيّ صبغة طائفية. وقام الطلبة بإصدار بيان مكتوب باليد، تمّ توزيعه على الصحف وكثير من الناس، أكَّدوا فيه أنَّهم تظاهروا مناصرة للحرية الفكرية في التدريس والنشر والتأليف، وهي أمور قد أقرّها الدستور، ولم تكن تظاهرتهم تلك بتحريض أو بدافع طائفي وأنّهم أنهوا التظاهرة تأكيداً لذلك، وبناءاً على تعهدات رئيس الوزراء جعفر العسكري بالحفاظ على حقوقهم المشروعة.
أَنهت لجنة التحقيق اعمالها، وأصدرت قراراً تضمَّنَ إنهاء خدمات كلّ من الأساتذة: عبد الله المشنوق ودرويش المقدادي، وجلال زريق، وتسفيرهم إلى بلادهم، باعتبارهم من أركان التحريض، حسب زعم اللجنة. كما طردت لفيفاً من الطلبة من مدارسهم، طردت بعضهم طرداً نهائياً مثل حسين جميل وفائق السامرائي وعبد اللطيف محيي الدين، و طردت البعض الآخر لمدة شهر وهم عبد القادر اسماعيل ومحمد خالد ابراهيم، وطردت غيرهم لمدة أسبوعين مثل أدهم مشتاق ومحمد عبد الكريم وأحمد فوزي وآخرين كما وجَّهت الوزارة إنذاراً إلى طلبة آخرين مثل قاسم حسن وجواد حسين وعبد الله الظاهر وغيرهم. وقد احتجّ الطلاب المطرودون من الدراسة، سواء من طرد نهائياً أم مؤقتا، وأَخذوا يراجعون الصحف، ويتصلون ببعض النواب للدفاع عنهم وإثارة قضيتهم في مجلس النواب وعلى صفحات الجرائد، وهذا ما تمَّ فعلاً. قدَّم الطلبة المطرودون عرائض إلى الملك ورئيس الوزراء، وقّعها جميع الطلبة المطرودين نهائياً ومؤقتاً، يعترضون فيها على قرار الطرد، مطالبين بإعادة النظر في قضيتهم. كما قدَّم المحامون الذين اجتمعوا في بهو المعلمين يوم 27 شباط عام 1927 عريضة إلى رئيس الوزراء، يبيَّنون فيها أنّ ما قامت به وزارة المعارف مِن طردِ الطلاب من مدارسهم، يتعارض مع أحكام الدستور. وبعد المداولة التي أَجراها ساطع الحصري المدير العام في وزارة المعارف مع الملك فيصل، قرَّرت وزارة المعارف إعادة الطلبة المفصولين إلى مدارسهم، وقد عزا حسين جميـل ذلك إلى الضغط الشعبي، أمَّا الحصري فيقول: إنّ القرار كان يرجع إلى تأثيره الشخصي في المـلك. وعـلى أيِّ حال عُدّ هذا انتصـاراً ليس للطلاب فقط، بل للحـرية الفكـرية التي عَّبر عنـها هـؤلاء الطلاب وغيـرهم من طلاب المدارس الأخرى، الذين تضامنوا معهم في محـاولة للتظاهر، بعـد أن وصـلت إليهـم أخبـار تـلك المظاهـرة.
لهذا يمكن القول: إنّ قضية النصولي التي حدثت في عام 1927، لم تكن إلاَّ تعبيراً عن حرية الرأي والفكر ليس أكثر، والدليل على ذلك ما قام به هؤلاء الطلاب من مظاهرات كان الهدف منها إجبار وزارة المعارف على العدول عن رأيها الذي اتخذته بحقّ النصولي وزملائه وعبَّروا عنها بعرائضهم التي قدَّموها للملك فيصل، وبيَّنوا فيها الهدف من وراء تلك المظاهرات، وهو مناصرة حرية الفكر ليس أكثر، وليس لأجل إثارة النعرات الطائفية كما يقول بعض المناؤين لحرية الفكر.
عن محاضرة للكاتب في جمعية حقوق الانسان في 26 كانون الاول 2015.