والتر بنجامين أخفى كتابه عن الأنظار ومات انتحاراً

والتر بنجامين أخفى كتابه عن الأنظار ومات انتحاراً

إبراهيم العريس

في عام 1925 وقبل رحيله منتحراً كما سوف نرى بعد قليل، أنجز المفكر الألماني والتر بنجامين كتابة أطروحة لما بعد الدكتوراه بعنوان “أصل الدراما الجرمانية الفجائعية” وقدمها إلى اللجنة الفاحصة التي يفترض أن تؤهله لمفتشية التعليم الجامعي في مدينة فرانكفورت. فرفضت اللجنة أطروحته وحجبت عنه شهادة التأهيل. صحيح أن الرجل نشر الأطروحة في كتاب عام 1928، لكنه ما لبث أن أخفاه تماماً بحيث لم يعد أحد يعرف شيئاً عن وجوده.

فكان على الكتاب أن ينتظر أكثر من ربع قرن قبل أن يُكتشف من جديد بعد سنوات طويلة من رحيل مؤلفه لينشر ويُعتبر واحداً من الكتب الرئيسية في موضوعه ما يعني أن رفض اللجنة الفاحصة له كان رفضاً سياسياً لا علمياً.

المهم أن الكتاب بات يعتبر في حينه مرجعاً في مجاله بخاصة أن بنجامين لم يشتغل فيه على الأسماء المعروفة بل راح يسبر غور التاريخ ليطلع بكتابات وأسماء كانت تعتبر مغمورة ولا يكاد أحد يلتفت إليها، من أمثال مارتن أوبيتز وأندرياس غريفيوس وفون لهنشتين وفون هاوكويتز، جاعلاً من نصوصهم ما يعادل نصوص كالديرون ديلاباركا في اللغة الإسبانية أو شكسبير في الإنجليزية. ورأى الكاتب أن هؤلاء الكتاب وأمثالهم من الذين كانوا يُعتبرون دوغمائيين ومحبي عنف في الماضي، هم الفنانون الحقيقيون والبناة الأكثر تمثيلاً في تعبيرهم عن المناخ الفكري والاجتماعي وحتى السياسي الذي كان سائداً في زمنهم. ورأى دارسو الكتاب أن عبقرية بنجامين تجلت في هذا الكتاب من خلال الربط العميق الذي أقامه بين تعبير هؤلاء الكتاب عن النظرة الأُخروية المسيحية والتاريخ الإنساني، ما أنتج كل ذلك العنف لديهم.

إذاً بعد سنوات طويلة أُعيد اكتشاف هذا الكتاب الذي بات يُعتبر أساسياً في الدراسات الثقافية/ التاريخية الجرمانية، ما أعاد يومها إلى الواجهة المصير البائس الذي كان على الدوام من نصيب مؤلفه الذي نعرف أنه مات انتحاراً في الجنوب الفرنسي فيما كان كتابه هذا لا يزال مخفيّاً.

مهما يكن من أمر وفي عودتنا إلى حكاية المؤلف نفسه لمناسبة مضيّ ثمانين عاماً على رحيله، سنتوقف عند حكايته. فإذا كان انتحار الأدباء والفنانين والمبدعين بشكل عام، ينتج عادة من أسباب شديدة الفردية ولا يمكن سبرها تماماً إذ يتعلق كل منها بالحالة الخاصة التي كابدها المنتحر قبل أن يقدم على “ذلك الفعل الفلسفي الأسمى” كما يصفه ألبير كامو في أحد فصول كتابه “أسطورة سيزيف”، ثمة في التاريخ الثقافي، ولا سيما خلال النصف الأول من القرن العشرين، حقب تتزايد فيها عمليات الانتحار وتتكثف بشكل لا يعود من الممكن معه الحديث عن دوافع محض فردية. ويمكننا أن نعطي مثلين على هذا؛ أولهما تكاثر انتحار الشعراء والفنانين الروس خلال السنوات العشر الأولى من انتصار الثورة البلشفية وبخاصة إثر مجيء ستالين إلى الحكم؛ والثاني يوم تحقق انتصار النازية في ألمانيا. في الحالين لا بد من القول إن الانتحار نتج من تفاقم الحكم التوتاليتاري الستاليني من ناحية والهتلري من ناحية أخرى، بقدر ما نتج من الدوافع الشخصية التي لا يمكننا إنكار وجودها على أية حال. وفي الحالة المحتجّة على النازية ثمة دائماً ثلاثة أمثلة لافتة: انتحار إرنست توللر في نيويورك؛ وانتحار ستيفان زفايغ وزوجته في البرازيل. ثم هنا انتحار والتر بنجامين عند الحدود الفرنسية الإسبانية في عزّ اندلاع الحرب العالمية الثانية وإثر الهزيمة الفرنسية واحتلال النازيين فرنسا التي كان ذلك المفكر قد لجأ اليها.

كان بنجامين واحداً من كبار نقاد الأدب والفن وفلاسفتهما في القرن العشرين. كان ألمانياً ويهودياً - وربما كان هذان العاملان سبب خوفه الكبير - وكان في الثامنة والأربعين من عمره، وكانت الكتب العديدة التي نشرها خلال حياته قد جعلت له شهرة كبيرة لدى الأوساط الأدبية والفكرية في ألمانيا كما في فرنسا. وكان يعتبر نفسه ابن الثقافتين معاً، وهو اشتغل على الثقافة الفرنسية خلال سنوات عمره القصير بمقدار ما اشتغل على الثقافة الألمانية. ومن هنا، حين وصل هتلر إلى السلطة في ألمانيا كان من الطبيعي لوالتر بنجامين أن يلتجئ إلى باريس ليعيش فيها، وهو ما بارحها بعد ذلك بسنوات إلا لأن هتلر وصل إليها. ولئن كان بنجامين قد عرف من قبل المثقفين الألمان منذ 1920 بفضل ترجمته مجموعة بودلير “اكتئاب في باريس”، فإن شهرته الفكرية قامت أساساً على واحد من أبرز كتبه الذي كان بدوره عن باريس وهو كتابه “باريس عاصمة القرن العشرين”، وهو الذي كان ينتظر صدوره في العاصمة الفرنسية يوم داهمتها القوات النازية.

ولد والتر بنجامين العام 1892 في برلين، ابناً لتاجر عتائق، وتلقى دراسته الثانوية في مدرسة خاصة، وحين أعلنت الحرب العالمية الأولى شاء أن يخوضها متطوعاً لكنه سرعان ما سرح، ليتزوج وليتوجه إلى سويسرا حين حصّل من جامعة بيرن في 1919 دبلوماً عن أطروحة قدمها بعنوان “مفهوم النقد الفني في الرومانطيقية الألمانية”. وهو عاد بعد ذلك إلى برلين حيث نشر تلك الأطروحة في كتاب، ثم بدأت في ذلك العام نفسه (1920) مصاعبه العائلية والمالية غير أن ذلك لم يمنعه من أن يواصل أعماله الكتابية فاهتم بخاصة بكتابات غوته قبل أن ينصرف أواسط سنوات العشرين للاشتغال على واحد من أهم أعماله التاريخية - النقدية وهو كتابه المشار إليه “أصل الدراما الفجائعية الجرمانية” الذي كان رفضه من قبل جامعة فرانكفورت، سبباً ليأس جعله يقرر أن يتجه مذاك للكتابة في الصحف، وكان هذا ما مكّنه من أن يقوم برحلات عديدة في الكثير من المدن الأوروبية، وكانت تلك هي الفترة التي ارتبط، خلالها، بصداقة عميقة مع برتولت بريخت واعتنق الشيوعية وصار من المدمنين على زيارة موسكو، حيث كان يكلّف بين الحين والآخر بكتابة دراسات حول الأدب الألماني، ومنها دراسة حول أدب غوته نشرت في “الموسوعة السوفياتية”. بعد ذلك بفترة سوف يعبّر بنجامين عن خيبة أمله في الستالينية، لكن تلك الخيبة لم تصرفه عن الشيوعية، بل دفعته إلى التمييز بين الماركسية والستالينية، على غرار ما راح يفعل أقطاب مدرسة فرانكفورت من أصحاب النظرية النقدية، الذين سرعان ما صار بنجامين واحداً منهم، حيث عين عضواً في “معهد فرانكفورت للعلوم الاجتماعية” الذي كان مركز تلك الحركة ومن أبرز زعمائها تيودور آدورنو وهوركهايمر وهربرت ماركوزه... والحقيقة أن انضمام والتر بنجامين إلى ذلك التيار الماركسي النقدي كان أمراً طبيعياً بالنسبة إلى كاتب قامت كل كتاباته على مبدأ التساؤل بالتضاد مع ماركسية ستالينية مبتذلة كانت تنطلق دائماً من منطلقات اليقين.

تلك الفترة كانت على أي حال فترة غنية في حياة والتر بنجامين، نشر خلالها العديد من الدراسات، وارتبط بصداقات عميقة، وبدا عليه أنه وجد أخيراً طريقه، وهو عبّر عن ذلك، لكن مع حد أدنى من التفاؤل في مجموعة من مقالات ودراسات نشرت ضمن كتاب حمل اسم “اتجاه وحيد”، كان آخر ما نشره في ألمانيا قبل وصول هتلر ونازييه إلى السلطة. بعد ذلك فرّ بنجامين، مثل غيره من كبار المبدعين الألمان والنمساويين، والتجأ إلى فرنسا، حيث تابع نشر أعماله وكتابة دراساته النقدية. وأصدر بعض أفضل أعماله ومنها “العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تقنياً” وهو الكتاب الذي لا يزال حتى اليوم يعتبر مرجعاً أساسياً في بحث الصلة بين العمل الفني والعصر الذي يحوّل ذلك العمل إلى سلعة يعاد إنتاجها تقنياً إلى ما لا نهاية. عندما غزا الألمان فرنسا ملحقين بها الهزيمة كان بنجامين يعيش في باريس، فاضطر إلى الهرب جنوباً محاولاً الإبحار إلى أميركا، حين كانت نهايته انتحاراً عند الحدود الإسبانية - الفرنسية، في وقت كان الخطر قد زال عنه على أية حال.

عن صحيفة الاندبندنت